حافظ البناني
وعاد الحديث عن فرنسا وعلاقتها بتونس ليحتل مكانه في طاحونة الجدل الدائر منذ مدة بين النخب والسياسيين حول قضايا الثقافة والهوية والسيادة الوطنية المهددة والمستباحة، في نظر البعض، بسبب تغلغل الفرنكفونية ولوبيّاتها التي تحول دون إعادة الاعتبار للغة العربية،( وهي اللغة الرسمية للبلاد كما ينص عليه دستورها).
ومنذ نشأتها والفرنكفونية ما انفكت تثير التساؤل تلو الآخر حول حقيقتها وطبيعة أهدافها وغاياتها المعلنة والخفية.
سنحاول في هذا العدد الاضاءة على هذا الموضوع الهام، لكن قبل ذلك سنمهد بمقدمة حول اللغة والثقافة.
اللغة والثقافة والهوية:
ومنذ نشأتها والفرنكفونية ما انفكت تثير التساؤل تلو الآخر حول حقيقتها وطبيعة أهدافها وغاياتها المعلنة والخفية.
سنحاول في هذا العدد الاضاءة على هذا الموضوع الهام، لكن قبل ذلك سنمهد بمقدمة حول اللغة والثقافة.
اللغة والثقافة والهوية:
يؤكد المختصون أنّ اللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب والتواصل فحسب، بل هي أداة لنقل الثقافة، ووعاء لجميع ما تشمله من تقاليد وأعراف وعادات، وعقائد وتصورات، وقيم ومناهج للحياة، وطرق للتفكير، وأساليب للتعبير.
واللغة بهذا المعنى وعاء للثقافة والتاريخ، والمشاعر والأحاسيس، وهي الأداة الأساسية في عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية التي يتم في ضوئها بناء الفرد وإعداده بما يتلاءم وتاريخه، وانتماءه، وواقعه، ومستقبله. فاللغة إذن ذات علاقة وثيقة بالثقافة، والثقافة ذات رباط متين بالهوية والشخصية الوطنية، ومن فقد لغته فقد هويته وتاريخه، وتعثر في بناء مستقبله. ويتأثر الفرد باللغة التي يتكلمها ويتواصل بها أبلغ تأثير، ويمتد هذا التأثير ليشمل تفكيره وتصوراته وعقائده، ومشاعره وعواطفه، وسلوكه وإرادته وجميع تصرفاته.
ولما كانت اللغة هي أداة الثقافة والحضارة، وعنوان التمدن والعمران لم تتوان الدول المستعمرة، ومنها فرنسا، على فرض لغتها وثقافتها لضمان هيمنتها على البلاد المستعمرة (بفتح الميم)، وكان لزاماً على هذه الأخيرة، في نظر فرنسا، أن تتخلى عن لغتها وثقافتها وتتعلم لغة المستعمِر وتتشرب ثقافته.
وهكذا فإنّ فرنسا بتطبيقها لهذا الخيار الثقافي الاستعماري نجحت في مسخ الشخصية الثقافية واللغوية للمجتمعات الإفريقية التي استعمرتها. ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع إفريقي باستثناء المغرب العربي لا تمثل اللغة الفرنسية لغته “الوطنية” الجامعة.
ومع أن فرنسا فشلت في أن تئد اللغة العربية أو تخرجها من الميدان في بلدان المغرب العربي، كما فعلت بنجاح في سائر مستعمراتها الافريقية، إلا أنه من المكابرة الادعاء بأنها لم تحرز نجاحات كبيرة في مجال تحقيق هدف الاغتصاب الثقافي واللغوي في بلداننا، والشواهد على ذلك اليوم كثيرة: يكفي أن لسان فرنسا ما زال، حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي.
نشأة الفرنكفونية:
يُعتبر الجيولوجي الفرنسي “أونيسيم ريكلوس” (Onesime Reclus) أول من استخدم مصطلح “الفرنكوفونية” وذلك في العقد الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي (1880). ثم أتى عليه حين من الدهر ظل خلاله مغموراً إلى أن ظهر من جديد على الساحة السياسية وذلك سنة 1962 على يد أشد الزعماء الأفارقة تحمساً للفكر الفرانكفوني وهو الرئيس السنغالي “ليوبولد سنغور”. غير أن الحركة الفرنكوفونية عرفت انطلاقتها الحقيقية غداة استقلال الدول الإفريقية التي كانت تحت السيطرة الفرنسية، إذ ظهرت مع بداية الستينيات كثير من المنظمات الفرنسية الإفريقية الهادفة إلى تقوية العلاقات الثقافية والاقتصادية بين الطرفين. وليس غريباً أن يعمل كثير من الزعماء السياسيين آنذاك مثل الرئيس التونسي “الحبيب بورقيبة” والسنغالي “سنغور” والنيجيري “حماني ديوري” على الدعوة إلى الفرنكوفونية بمباركة خفية من وزارة الخارجية للدولة الفرنسية.
وقد عرفت الفرنكوفونية تكيفات عدة في صورة: بعثات، وجمعيات، واتحادات، ومجالس عالمية، ومعاهد، وكليات، وجامعات، ومؤتمرات وقمم، تُوّجت بإيجاد أمانة عامة للفرنكفونية، وتعيين ناطق رسمي سياسي وممثل لها على الصعيد الدولي، وإنشاء الوكالة الفرنكوفونية العامة.
وشيئا فشيئا تحولت الفرنكفونية من فكرة إلى مشروع، إلى جملة من الوسائط المادية، بهدف ظاهر، يتمثل في تسهيل التعاون بين الناطقين جزئيا أو كليا بالفرنسية، وأغلبهم مستعمرات قديمة لفرنسا، إلى واجهة للهيمنة اللغوية والثقافية أولاً، والهيمنة السياسية في نهاية المطاف.
بورقيبة والفرنكفونية
يُعتبر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الأب الروحي والمؤسس الحقيقي للفرنكفونية، وقد تحدث عن ذلك مفتخراً، في معرض حديثه عن تاريخه ومسيرته الشخصية، فقال في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية: «إن مستقبلنا مرتبط بمستقبل الغرب عموماً ومتضامن مع مستقبل فرنسا خاصة… ونحن نتجه اليوم من جديد إلى فرنسا. إنني أنا الذي تزعمت الحركة المنادية بالفرنكوفونية، فالرابطة اللغوية التي تجمع بين مختلف الأقطار الإفريقية أمتن من روابط المناخ أو الجغرافيا».
و في مقابلة أخرى له مع صحيفة ” لوفيغارو” قال: «… إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله، متضامنون بصورة أخص مع فرنسا. وتدعيم الروابط مع فرنسا وبصورة أخص في ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكوفونية تولدت هنا».
هكذا يفتخر بورقيبة بلغته الفرنسية وأساتذته الفرنسيين وثقافته الفرنسية وبحبه ووفائه لفرنسا الذي دفعه إلى رد الجميل بتزعم حركة الفرنكوفونية وتأسيس رابطة الشعوب الناطقة بالفرنسية.
ماهية الفرنكفونية:
الفرنكفونية هي حركة فكرية ، ذات بعد أيديولوجي ، تهدف إلى تخليد قيم (فرنسا الأم) في كل مستعمراتها التي انسحبت عنها عسكريا، ومدافعة التيارات القومية واللغوية الأخرى، وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية باعتبارها ثقافة مشتركة بين الدول الناطقة بها كليّاً أو جزئيا.
* الفرنكوفونية هي حلم فرنسا في تحقيق الإمبراطورية الكبرى:
يرى البعض أنّ الفرنكوفونية ليست سوى حلم فرنسي قديم، غارق في الرومانسية والخيال، يؤمن بتحقيق الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا، ويتحقق الحلم حين تتقابل فرنسا الأوروبية مع فرنسا الإفريقية وهي التي يطلقون عليها فرنسا الأم الأخرى (France L’autre mère La)، لكن السياسة الفرنسية التي نهجتها حكومة الاستعمار في البلدان الإفريقية لم تحقق لا الإمبراطورية الفرنسية الخيالية، ولا الوحدة ولا الازدهار لإفريقيا الفرنسية. إنما الذي تحقق هو الزوابع الثقافية، والهزات الفكرية، والنعرات الإقليمية الدامية، والانقلابات السياسية، ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المتتالية.. !
الفرنكفونية، على حدّ تعبير البعض، هي اللغة والثقافة الفرنسية مؤدلجة، ومرتدية لباس الميدان. ولا يهم، بعد هذا، إن كان الميدان ميدان حرب بالمعنى الناعم أو بالمعنى الفعلي ما يفيد البحث المضني والاستراتيجي لفرنسا لحيازة مربعات ومستطيلات جغرافية من خلال الإبقاء على جذوة الثقافة الفرنسية مشتعلة في المستعمرات القديمة في أقل تقدير.
لقد ظلت الثقافة الفرنسية على الدوام جزءا من آلة قمعية تفرض على شعوب المنطقة، حيث لم تقدم نفسها كضرورة تعددية وإنما صورة للسيد الذي يسخّر آلته السياسية والفكرية لفرض لغته ونموذجه الحضاري.
أهداف الفرنكوفونية:
تتمثل الأهداف المعلنة للفرنكفونية، في التأكيد على مبدأ تحقيق التقارب بين الناطقين بالفرنسية، لكن الأهداف البعيدة، في نظر المتابعين، تتجلى أولا في وجود موقف من اللغات الإفريقية الأم، وفي النظر وبصورة ضمنية إلى الفرنسية باعتبارها لغة متفوقة على كل اللغات الأخرى، وذلك بالرغم من شعارات التعددية والاختلاف. وهي شعارات تتردد في أرجاء اللقاءات الفرنكفونية، التي تعمل بما يناقضها كلية وبصورة قطعية، الأمر الذي يبرز تماما، ازدواجية وتناقض المشروع الفرنكفوني في أبعاده السياسية الفعلية.
الفرنكفونية والاستعمار الجديد
يرى بعض الباحثين أنّ فرنسا قد تمكنت من الجمع، ما بين الانسحاب الشكلي والإبقاء على مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، و ذلك بالاعتماد على خدامها الأوفياء من المستعمرين (بفتح الميم) الذين سيحملون راية الفرنكفونية عاليا. و يتشكل هؤلاء –في الأغلب- من النخبة السياسية الحاكمة، و كذلك من النخبة الثقافية التي دافعت على مصالح فرنسا في المنطقة، بادعاء الدفاع عن قيم الحداثة، التي لا يمكنها أن تتجسد إلا عبر اللغة الفرنسية..!
و قد اعتمدت فرنسا، في استعمارها الجديد على النخبة السياسية والثقافية، التي استفادت من الاستعمار ماديا ورمزيا، وكانت أول المتضررين من الانسحاب الاستعماري الفرنسي، لذلك كانت هذه النخبة أول حاضن لهذه الطموحات الاستعمارية، وأول مروج لها، وذلك تحت يافطة الانفتاح اللغوي، والتبادل الثقافي، وترويج قيم الحداثة..!
ويحتل نظام التربية والتعليم ضمن هذا التوجه موقعاً أساسياً كخطة تعتمدها فرنسا لبسط فرنكوفونيتها، ولذلك فهي تعمل في كل المناحي، وبكل الوسائل للنهوض بلغتها وحماية ثقافتها في مختلف مَحمياتها ومستعمراتها الإفريقية التي ترى فيها امتداداً لوجودها.
إن ما يفسر هذا الحضور القوي للغة الفرنسية ضمن مناهج التدريس في مجموعة من الدول العربية، يرتبط في العمق بأبعاد إيديولوجية ومصلحية، ترتبط بالهيمنة التي أصبحت تمارسها الفرنكفونية على مستعمرات فرنسا السابقة، من خلال الحضور القوي للوبي الفرنكفوني، الذي يتشكل من نخب ثقافية وسياسية واقتصادية، لا يهمها سوى الحفاظ على مصالحها الخاصة، في علاقتها بالمستعمر السابق، الذي نسجت معه شبكة من المصالح، الأمر الذي يحوّل اللغة لديها إلى إيديولوجيا، تتجاوز كل حدود المنطق، ومن هذا المنظور الإيديولوجي الصرف، انبرت النخبة الفرنكفونية للدفاع عن الاستعمار الجديد.
الفرنكفونية والنظام الدولي الجديد
دخلت الفرنكوفونية القرن الحادي والعشرين في صيغة جديدة كشفت عنها قمة هانوي المنعقدة سنة 1997، حيث عهدت فرنسا إلى الأمين العام السابق للأمم المتحدة د. بطرس غالي بمنصب الأمين العام لمؤسسة الفرنكوفونية. ويتمثل الوجه الجديد أو الصيغة الجديدة التي تلون اليوم المشروع الفرنكوفوني في إبراز البعد السياسي باعتباره مكملاً مركزياً للملامح اللغوية والثقافية. ومعنى ذلك أن الطابع المؤسسي الجديد يتجه لتحويل الفرنكوفونية إلى تنظيم دولي مكافئ للمنظمات الدولية والاقليمية المعروفة، كالجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية، ثم المنظمات المرتبطة بالأمم المتحدة مثل اليونسكو.
في ظل النظام الجديد تقدم الفرنكوفونية نفسها بديلاً حضارياً، ومشروعاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً ترعاه دولة فرنسا، وتسعى إلى توظيفه كسلاح تشهره في وجه العولمة، لتضمن به بقاءها على الساحة الدولية، وتفتح من خلاله فضاءات لإنعاش اقتصادها وتعزيز موقعها في وجه النزعة الأنجلو – أمريكية.
أي مصلحة لدول المغرب العربي في التشبث بالفرنكوفونية؟
أمام الانحسار المريع للفرنكوفونية، وأمام الزحف الهائل للغة الإنجليزية وما تحمله معها من بشائر للمنظومة الإنجلوفونية متمثلة أساساً في أمريكا وبريطانيا، خاصة بعد انخرام ميزان المعادلة الدولية لصالح أميركا بسقوط القطب الروسي وانتهاء الحرب الباردة، وتزعم أمريكا لنظام العولمة الجديد، لم يعد هناك أي مبرر للدول المغاربية للتشبث بالفرنكوفونية، والدفاع عنها، وتبنيها على صورتها التقليدية المعروفة.
لم يعد هناك أي مسوِّغ ولا أي مصلحة في الاستمرار في اعتماد سياسة التعليم المزدوج على الإطلاق، وينبغي وضع حد لسياسة التذيل، والتبعية، والإلحاق الثقافي والحضاري هذه. ولم يعد هناك أي حجة لكي تحافظ اللغة الفرنسية على هذه المكانة المرموقة في المناهج التعليمية بالدول المغاربيةـ في الوقت الذي تحتل فيه المرتبة التاسعة بين اللغات الأجنبية على الصعيد العالمي..لقد أصبح تعريب التعليم، والكف عن سياسة ازدواجية اللغة في مناهج التعليم مطلباً لا مناص منه.
لكن رغم ذلك فإنّ تأثير الفرنكفونية ولوبيّاتها في الدول المغاربية لا يزال يحول دون تطبيق هذه الدول لروح دساتيرها التي تنص على أن اللغة العربية هي لغتهم الرسمية والوطنية، ويستمر تفريط هذه الدول في رمز سيادتها وهويتها الوطنية.
تونس والفرنكفونية
لم تكن تونس بمنأى من التدخلات الفرنسية الساعية إلى استعادة وجه فرنسا الإستعماري، ولعل تصريح وزير خارجيتها في أعقاب اغتيال المناضل شكري بلعيد، خير دليل على ذلك، فلقد أعرب الوزير المذكور، في سقطة دبلوماسية ربما، عن حقيقة كامنة في دواخل السياسة الفرنسية وهي الدفاع عن العلاقة الحميمية بالنخبة الفرنكفونية التي تحكم بأمرها، بعد أن خلطت أحداث الربيع العربي كل حسابات سادة الإيليزيه وأجبرتهم على الاعتراف برفض الشعوب للاستبداد ومن يقف خلفه.
وفي الختام يبدو أنّ هناك توجها سياسيا في تونس لتخفيض مستوى الاندماج في الفرنكفونية والانفتاح على ثقافات أخرى ورفع مستوى وجود اللغة الإنجليزية في البلاد، التي ما زالت تستخدم اللغة الفرنسية بكثافة توازي اللغة العربية رغم خروج المستعمر الفرنسي منها منذ أكثر من خمسة عقود.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات