‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفكر الإسلامي الحديث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفكر الإسلامي الحديث. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 30 يونيو 2019

الإخوان المسلمون في مصر يعلنون إجراء مراجعات داخلية

    يونيو 30, 2019   No comments

أعلن المكتب العامّ لجماعة "الإخوان المسلمين" في مصر تبنّي الجماعة توجهاً جديداً للفترة المقبلة، على خلفية ما وصفته بالواقع الجديد بعد وفاة الرئيس الأسبق محمد مرسي وبعد مراجعات داخلية متعددة.

ووصف بيان الجماعة الرئيس مرسي بأنه "رمز التجربة الديمقراطية المصرية"، متهمةً السلطات بـ "تعمد قتله عبر الإهمال الطبي" ومطالبة بمحاسبة جميع المتورطين في ما أسمته "الجريمة".

ورأى البيان أن ما حدث منذ الثالث منذ 3 تموز/يوليو 2013 هو "انقلاب عسكري نتج عنه حكم عسكري دموي يجب إنهاؤه فوراً"، في إشارة إلى الفترة التي تمت تنحية مرسي واستلام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي السلطة.

أما عن استراتيجية عملها المقبلة فأوضح البيان أن الخيار الاستراتيجي الأمثل والأبقى للإخوان هو الخيار الثوري الشامل عبر أدوات المقاومة المدنية المشروعة.

وفي ختام البيان أكدت الجماعة قيامها بمراجعات داخلية ووقوفها على الأخطاء، وخلصت إلى إعلان التفريق بين العمل السياسي العام وبين المنافسة الحزبية الضيقة على السلطة.

وطرحت الجماعة نفسها كتيار وطني عام ذو خلفية إسلامية، مؤكدة على التواصل خلال الفترة المقبلة مع كافة المنتمين للمعسكر المناهض للحكم العسكري "لتوحيد الأهداف والمنطلقات" وصنع أرضية فكرية مشتركة.

القيادي في الإخوان المسلمين، محمد سودان، أكد أن بيان الجماعة الأخير لم يصدر عن مكتب الإرشاد العامّ، بل عن جماعة الإخوان المسلمين المنفصلة عنه، وأضاف "نحن نختلف في عدد من النقاط الواردة فيه".

وفي اتصال مع الميادين قال سودان إن من ينتمون لجماعة الإخوان بشر ومن الطبيعي حصول بعض الأخطاء خلال فترة حكمهم، وتابع "عندما تطالب أي إنسان بمراجعة أخطائه وهو غير قادر على الدفاع عن نفسه فهذا ظلم".

واتهم سودان النظام الحالي في مصر بأنه لم يسمح لأيٍ من أعضاء الإخوان المسلمين بالمشاركة في الحياة السياسية.
________________

نص البيان:
 
 إنَّ الحمدَ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، وبعد،،


تتوجهُ جماعةُ الإخوان المسلمين بالتحية إلى الشعوب الحرة حول العالم التي حملت قضية استشهاد الرئيس الشهيد محمد مرسي لتسجل في التاريخ شهادة وإقرار شعوب العالم الحر على جريمة قائد الانقلاب العسكري ونظامه واغتيالهم لأولِ رئيس ديمقراطي منتخب في مصر في ظل تواطؤ دولي مريب.

إنَّ استشهاد الرئيس محمد مرسي قبل أيام من مرور ستة أعوام كاملة على الانقلاب العسكري قد فرض واقعًا جديدًا على شكل وطبيعة الصراع بين معسكر الثورة والانقلاب العسكري، يتوجب معه، إعادة تأطير الأجندة الثورية في مصر على محوري الفكر والحركة، لذا فإن المكتب العام للإخوان المسلمين حرص على إعلان موقفه من عدة أمور محورية وهي:

أولًا- الرئيس الشهيد محمد مرسي:
فترى جماعةُ الإخوان المسلمين أنَّ الرئيس الشهيد محمد مرسي هو رمز التجربة الديمقراطية المصرية، بوصفه أول رئيس ديمقراطي منتخب، ونتهم سلطات الانقلاب بتعمد قتله بالإهمال الطبي، وستظل كافة الانتهاكات في حقه سواء السياسية، أو القانونية، أو الإنسانية قائمة حتى محاسبة جميع المتورطين فيها، وسنقوم بدعم كل الجهود الهادفة؛ للتحقيق الدولي بشأن قتل الرئيس وسنناضل من أجل ذلك.

ثانيًا- السلطة الحاكمة في مصر:
ترى جماعةُ الإخوان المسلمين أنَّ ما حدث في مصر منذ ٣ يوليو ٢٠١٣م هو انقلاب عسكري نتج عنه حكم عسكري دموي، لا نعترف به، ولا نشتبك معه سياسيًا، ونرى السبيل الوحيد للخروج من الأزمة التي يعيشها الوطن هو إنهاء الحكم العسكري وهو ما يتحقق بمجموعة من المظاهر وهي:

استعادة الإرادةِ الشعبيةِ من جديد، والقصاص العادل للشهداء منذ يناير ٢٠١١، وعودة العسكرِ للثكناتِ بشكلٍ كامل وحظر اشتغالهم بالسياسة وتفكيك منظومتهم الاقتصاديةِ ودمجها بالاقتصاد الوطني، واستقلال وتطهير الإعلامِ والقضاء، والشفافية فى المعلوماتِ، وإعادة الأموال والأراضي والشركات المغتصبة، وقيام المؤسسةِ الأمنيةِ بدورها الوطني.

ثالثًا – استراتيجية النضال ضد الحكم العسكري:
إنَّ أطر التغيير في الدول وفقًا للتجارب عبر التاريخ لها ثلاث أشكال، إما النضال الدستوري، وإما النضال الثوري، وإما النضال العسكري، وترى جماعة الإخوان المسلمين أن الحكم العسكري في مصر وتكوين المجتمع المصري ونخبته السياسية والاتجاه الشعبي العام لا يتناسبُ معه إلا الخيار الثوري الشامل والتغيير الكلي لمنظومة الحكم في مصر، ومواجهة آلتها العسكرية بالمنهجية الثورية التي شهدها العالم بامتلاك أدوات المقاومة المدنية المشروعة للشعوب للخلاص من النظم الديكتاتورية العسكرية، والتي دعمتها قرارات الشرعية الدولية في عدة دول مرات عديدة، وهذا هو الخيار الاستراتيجي للإخوان المسلمين في مصر حتى وإن طال الزمن في ذلك الطريق.
وبناء على تلك المحددات، فإنَّ المكتب العام للإخوان المسلمين يرى أن المرحلة الراهنة يتحتمُ فيها التركيز على هدفين مركزيين ذوي أولوية في طريق امتلاك أدوات النضال الثوري وهما:

أولًا – العمل على تحرير سجناء الرأي في مصر بشكل منهجي وعاجل، وهو الملف الذي عمل العسكر على تضخيمه لكسر شوكة الحراك الثوري، وعمل على سجن قيادات العمل الثوري من الشباب والتيارات السياسية المتعددة والرموز الوطنية كرهائن لديه خاضعين للتعذيب والإخفاء القسري والقتل العمد بالتصفية أو الإهمال الطبي والأحكام المجحفة بالإعدام والسجن المشدد، هادفًا من كل ذلك إرهاب المجتمع من أي حراك ثوري، وهو ما يحتم العمل الموحد لكسر استراتيجية ”رهائن الثورة“ التي تنتهجها السلطة العسكرية، والعمل تحت هدف رئيسي، وهو تحرير كافة المعتقلين وليس تحسين شروط السجن والعبودية، وذلك بالعمل المشترك لطرح ملف سجناء الرأي على كافة برلمانات العالم، والمحافل الدولية، ومحاصرة سلطات الانقلاب في ملف حقوق الإنسان، والعمل على تحرير المعتقلين الذين يمثلون دعمًا حقيقيًا لأي عمل ثوري مرتقب، ودافع نفسي لكسر حاجز الخوف لدى المجتمع.

ثانيًا – توحيد المعسكر الثوري ونبذ الخلاف، وهو ما نقدمه كطرح عام إلى كل الرافضين للحكم العسكري بمختلف الأيدولوجيات والأفكار وفي القلب منهم إخواننا في الطرف الآخر من الإخوان المسلمين لتجاوز مرحلة الخلاف، وتركيز الجميع على توحيد المنطلقات والأهداف كأساس أولي ينتج عنه تفعيل حقيقي للكيانات والتحالفات الثورية القائمة أو إنشاء أوعية جديدة.

ويؤكدُ المكتبُ العام لجماعةِ الإخوان المسلمين أنه ومع تقديم هذا الطرح فإننا قد قمنا بمراجعات داخلية متعددة، وقفنا خلالها على أخطاء قد قمنا بها في مرحلة الثورة ومرحلة الحكم، كما وقفنا على أخطاء وقع فيها الحلفاء والمنافسون من مكونات الثورة، وقد تسببت تلك الأخطاء والخلافات في تمكين الثورة المضادة من زمام الأمور، لذا فإننا نعلنُ أنَّ جماعة الإخوان المسلمين تقفُ الآن على التفريق بين العمل السياسي العام وبين المنافسة الحزبية الضيقة على السلطة، ونؤمن بأن مساحة العمل السياسي العام على القضايا الوطنية والحقوق العامة للشعب المصري، والقيم الوطنية العامة وقضايا الأمة الكلية، هي مساحة أرحب للجماعة من العمل الحزبي الضيق والمنافسة على السلطة، وسنعمل في مرحلة ما بعد إنهاء الانقلاب العسكري كتيار وطني عام ذو خلفية إسلامية، داعمين للأمة ونمارس الحياة السياسية في إطارها العام، وندعم كل الفصائل الوطنية التي تتقاطع مع رؤيتنا في نهضة هذا الوطن في تجاربها الحزبية، ونسمح لأعضاء الإخوان المسلمين والمتخصصين والعلماء من أبناءها بالإنخراط في العمل السياسي من خلال الانتشار مع الأحزاب والحركات التي تتقاطع معنا في رؤيتنا لنهضة هذه الأمة.

ويؤكد المكتب العام للإخوان المسلمين، أنه سيعمل على التواصل خلال الفترة المقبلة مع كافة المنتمين للمعسكر المناهض للحكم العسكري، لطرح رؤيته ”لتوحيد الأهداف والمنطلقات للثورة المصرية“ من واقع المسؤولية الوطنية والأخلاقية، لصنع أرضية فكرية مشتركة تعمل على إعادة النضال الثوري للمساحة الفاعلة من جديد.

المكتب العام للإخوان المسلمين
القاهرة – السبت 26 شوّال 1440هـ – 29 يونيو 2019م

السبت، 29 سبتمبر 2018

مع أم ضد؟ عن الجدل التونسي حول المساواة في الميراث

    سبتمبر 29, 2018   No comments
 عبد الوهاب الملوح*

ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.
لماذا يسمح الدين الإسلامي بتعدّد الزوجات؟ السؤال نفسه لم يبل بفعل الزمن وظل متجدّداً. وغالباً لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتعداه إلى أسئلة أخرى تتمحور حول القضايا التي ما انفكّ يطرحها مفكّرون ومفكّرات والتي تتصل بوضعية المرأة في الإسلام.

هذه المسألة عادت إلى الواجهة في تونس اليوم لكن بحدّة مُضاعَفة عما كانت عليه سابقاً، وذلك بسبب ما باتت تفرضه التحوّلات الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد التقرير النهائي الذي قدّمته "لجنة الحقوق والحريات الفردية والمساواة" في حزيران/يونيو الماضي، عِلماً أن اللجنة أطلقها الرئيس التونسي الباجي قايد السيسي في آب/أغسطس عام 2017 وتكوّنت من حقوقيين وأكاديميين وقضاة وعُلماء شرع.
 
جاء التقرير في 235 صفحة على جزءين. الجزء الأول مخصّص للحقوق والحريات الفردية، أما الجزء الثاني فتناول المساواة في الميراث بين المرأة والرجل. وتصدر التقرير توطئة عامة تستند إلى مقاربة اجتماعية ودينية.

ورغم تعرّض هذا التقرير للحقوق والحريات الفردية مقترحاً توصيات عدّة في هذا الشأن من قبيل الحق في الحياة والحرية والأمان والتفكير والعقيدة، غير أن ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.

في العام 1899 أصدر قاسم أمين كتاباً بعنوان "تحرير المرأة". العنوان وحده كان كافياً ليلفت الأنظار ويطرح عاصفة من الردود على شكل أسئلة موجِعة، ومنها تحرير المرأة ممن؟ من الرجل؟ من المرأة؟ من عقلية الذكورة؟ ناهيك أن عنوان الكتاب ينطلق من بديهة أساسية وهي أن المرأة سجينة. لم يكن بإمكان قاسم أمين حينها أن يتجرّأ  في الذهاب نحو الأبعد في محاربته التفكيكية لوضع المرأة في التشريع الإسلامي، رغم أن نظرة كبار عُلماء المسلمين في ذلك العصر من أمثال الكواكبي والأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا كانت منفتحة وإصلاحية.

في تلك السنة خرج إلى الوجود الطاهر الحداد الذي قلب الطاولة على الجميع في كتابه "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي صدر سنة 1930. لم يكن الحداد مُصلحاً اجتماعياً، كما لم يكن عالِم دين، بل ناشطاً في المجالين النقابي والسياسي باعتباره عضواً في الحزب الدستوري المعارض للاستعمار الفرنسي. غير أن ذكاءه الألمعي أوصله إلى أن صلاح هذه الأمّة لن يتم إلا بصلاح المجتمع، وبالأساس العائلة. لذلك اشتغل على وضع المرأة في المجتمع الإسلامي وأصدر كتابه الذي أعلن فيه عدم جواز تعدّد الزوجات، وأن المرأة مساوية الرجل في الكثير من الحقوق الاجتماعية.

في هذه البيئة تربّى فكر الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس بعد الاستقلال. ولا غرابة أنه لما عاد من المنفى في العام 1955 ترجم هذا الفكر بعد سنتين في مجلة الأحوال الشخصية في العام 1957 والتي كانت ثورة كبرى على الوضع النسوي حيث تضمّنت مسألة تعدّد الزوجات والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مجالات عدّة. لقد شكّلت المجلة المذكورة ثورة حقيقية وإعلان بداية تمرّد على الوضع المتكلّس للاجتهاد، بل لقد ذهب بعض علماء الدين وقتها إلى تكفير الحبيب بورقيبة. غير أن المجلة كانت تعبيراً عن تحرير عقلية التونسي من التزمّت والتطرّف، وجاءت انسجاماً مع معاهدة حقوق الإنسان للأمم المتحدة. كما أتت نتيجة لتراكم تحرّكات المرأة التونسية خلال عقود من أجل تحرّرها من عقلية الذكورة. ولم تكتف المرأة بما جاء في مجلة الأحوال الشخصية بل واصلت نضالاتها وكانت لها مواقف ثورية في عهد زين العابدين بن علي، حتى أنها ضحّت بنفسها وسقط الكثير منهن الشهيدات في المواجهة مع بوليس بن علي أثناء ثورة 2011.

هذا يؤكّد قوّة التحدّي الذي انخرطت في سياقه المرأة التونسية التي لم تعد ترضى أن تكون مجرّد أنثى أو امرأة، بل تطالب أن تتم معاملتها كإنسان كامل للحقوق شأنها شأن الرجل. وفي هذا السياق يتجدّد السؤال في مُقاربة مُغايرة. هل أن توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة جاءت في حجم هذا التحدّي؟ ام أنها كانت لغايات أخرى لا يعلمها إلا السبسي؟ بكل الأحوال، نجح الرئيس التونسي على الأقل في توجيه أنظار الرأي العام في البلاد نحو ما جاء به تقرير اللجنة من توصيات، وذلك في ظل أزمة سياسية حادّة تعيشها الحكومة وتوقّف مسار ميثاق قرطاج وما أسفر عنه من طلاق غير مُعلَن لــ "الزواج العرفي" بين حزبي "النداء" و"النهضة". ولذلك جاءت ردود الفعل مُتباينة بخصوص التقرير بل رافضة حتى ممَن هم من غير المحسوبين على تيارات اليمين، ممَن يناضلون من أجل مدنية الدولة وحرية الفكر والمعتقد. هو ما تصرّح به الصحفية والروائية وحيدة ألمي للصفحة الثقافية في الميادين نت قائلة:

"لم يكن مطلب المساواة في الميراث حديث عهد بآلاف الأصوات المساندة التي يضجّ بها الشارع التونسي في كل مناسبة، وآخرها عيد المرأة الموافق ليوم 13 أغسطس. فهذا المطلب كان من بين أهم النقاط المطروحة في لائحة مطالب تقودها نساء حداثيات يطالبن بمساواة مُطلقة مع الرجل في الحقوق. غير أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي لم يتجرّأ على إدخال يده إلى غار النّمل وتحلّى بذكاء سياسي جعله لا يتورّط في وعود ولا التزامات بقبول المُقترح رسمياً، لإدراكه بأن هذا الموضوع المحسوم شرعاً يفتح أبواب الجدل واسعاً"، مُضيفة "غير أنه مع هشاشة الدولة بعد ثورة يناير عاد التأجيج على أشدّه للضغط على الحكومة وحسم الأمر. مسألة المساواة وغيرها من مطالب جاءت في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بما في ذلك إيجاد موضع قدم للمثليين داخل المنظومة الاجتماعية التونسية رسمياً، جاءت وفق إملاءات خارجية أخذت شكل "النضال الحقوقي". فهذه الأصوات المساندة تدخل في إطار النضال مدفوع الأجر من منظمات دولية تزرع أبواقها في كل دولة عربية لأجل إعادة هيكلة مجتمعاتها وتفتيتها قيمياً وإعادة بنائها تحت مظلّة الحداثة وحقوق الإنسان".

تواجه المرأة التونسية اليوم جملة من المطالب الحياتية التي لم تتحقّق رغم ترسانة من القوانين المُناصرة لها في الظاهر. ففي حالات الطلاق مثلاً تعجز الأمّ الحاضنة للأبناء عن الحصول على النفقة لإعالة أطفالها، وتصطدم منذ رفع القضية لدى المحاكم بصعوبات التأجيل وتنفيذ الأحكام. كما أنها غير قادرة اليوم على الطلاق للضرر النفسي والاستغلال الجنسي والاقتصادي، رغم إيجاد القانون المنظّم لذلك ودخوله حيّز التنفيذ في شباط/فبراير 2018.

المرأة التونسية تشكو أيضاً من التحرّش في العمل وتُساوَم في قوتها وترقياتها وتعيش على المحك رغم التبجّح بقانون يجرّم ذلك. غير بعيد من هذه الفكرة تقول خديجة معلى المستشارة الدولية إنه "صحيح أن واقع المعيشة حالياً في تونس يرزح تحت وطأة المشاكل الحياتية التي تتطلّب حلاَّ عاجلاً نظراً لتأثيرها السلبي على حياة المواطنين، وعلى أمن المجتمع وتقدّم الشعب"، غير أن تأصيل حقوق الإنسان، وخاصة المساواة بين الجنسين في كل المجالات بدءاً من الميراث هي حقوق لا ترتبط بوقت أو بظرف. علماً وأن لتونس أسبقية تاريخية في مجال تمتّع المرأة بحقها في التعليم، وفي العمل والتنظيم العائلي، وجميع الحقوق المدنية والسياسية".

معلى رأت أنه وبغضّ النظر عما قيل عن المبادرة الرئاسية الحالية من أنها "مناورة سياسية أم لا، إلا أنها بالتأكيد تُعبّر عن المرأة، لأن النضال من أجل استكمال حقوقها لم ينقطع حتى في عهد النظام السابق للثورة".

يتمثل ذلك، وفق معلى، في نضال شخصيات حقوقية ومنظمات المجتمع المدني مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وغيرها "من الذين لم ينقطعوا عن المُطالبة بجميع الحقوق والحريات الفردية والمساواة".

تكريس للمساواة؟

أما فتحية السعيدي، أستاذة العلوم الاجتماعية والقيادية في "حزب المسار" اليساري، فترى أن تونس "تعيش جدلاً اجتماعياً فريداً من نوعه تراوح بين النقاش الهادئ والرصين، وبين التعبيرات الانفعالية حول ما جاء في تقرير "لجنة الحريات"". فالتقرير برأيها "تناول عدداً من القضايا المجتمعية المهمة التي تستهدف تغيير التمثلات والتصوّرات الاجتماعية في اتجاه تطويرها ضمن مقاربة اتجهت إلى اعتماد القراءة المقاصدية المستنيرة والمتفتحة للنص الديني".

السعيدي أضافت إن من بين أبرز القضايا التي طرحها التقرير "مراجعة مختلف القوانين التي أصبحت مُتعارِضة مع دستور الجمهورية الثانية الصادر في العام 2014، علماً أنه قد أقر المساواة التامة بين النساء والرجال ومنع التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المعتقد، أو العرق، أو الجنس وهو ما يستلزم ملاءمة مختلف القوانين مع ما ورد في الدستور".

ذلك أن المبادرة التشريعية الأخيرة حول المساواة في الميراث تعدّ "أحد الخطوات المهمة في اتجاه تكريس المساواة بين النساء والرجال. فالقاعدة الأساسية هي المساواة واللامساواة هي الاستثناء"، بحسب وصف القيادية في "حزب المسار" التي أشارت إلى ضرورة مراجعة مجلة الأحوال الشخصية وخاصة الفصل 13 المتعلّق بالمهر والفصل 23 المتعلّق برئاسة الأسرة وكل ما يليه من مشمولات الحضانة والولاية".

بشكل عام، يمثل تقرير (لجنة الحريات) "خطوة عملاقة رغم كل الصخب الذي رافقها ورغم محاولات تسييس المطالبات الواردة فيه واعتبارها مناقضة للعادات وللتشريع الإسلامي"، كما تقول السعيدي مذكّرة بأن تونس "دولة مدنية تفرض علوية الدستور".

أغراض انتخابية؟

هل ما جرى يرتبط بشكل أو بآخر بحسابات انتخابية؟ المستشار السابق للإعلام والاتصال في حكومتي على العريض ومهدي جمعة، عبد السلام الزبيدي يؤيّد هذا الرأي. فهو يقول إن السبسي "لم يُخف أهدافه الحقيقية من مبادرته تشكيل لجنة الحريات الفردية والمساواة وتكليفها بإعداد تقرير في الغرض على أساس أحكام الدستور والالتزامات الدولية لتونس والتوجهات الحديثة في مجال الحريات الفردية والمساواة. فقراءة متأنيّة لمضمون خطابه في العيد الوطني للمرأة التونسية عام 2017 والذي أَعْتبِرُه خطاب التكليف الحقيقي، تجعلنا نقف على أنّ للرئيس ثلاثة أهداف جوهرية، الأوّل أن يكون ثالث إثنين هما المصلح الطاهر الحداد والزعيم الحبيب بورقيبة. أما الهدف الثاني فهو إعادة هندسة المشهد السياسي التونسي وهي أشمل بكثير من العبارة المتداولة المتمثّلة في "الأغراض الانتخابية"".

لكن كيف ذلك؟ يشرح الزبيدي "رئيس الجمهورية يريد أن يستردّ بيده اليُسرى ما فقده بيده اليُمنى، والمفقود المقصود هو الفشل الذريع في الخيارات السياسية وانقلاب رئيسيْ الحكومتين اللذين اختارهما شخصيّاً رغم أنّ الدستور لا يُخوّل له ذلك (الحبيب الصيد ويوسف الشاهد)، والعجز عن الإيفاء بتعهداته الانتخابية التي تتجاوز صلاحياته"، وذلك فإن مبادرة تشكيل اللجنة وتقريرها وما ترتب عنهما "من شأنه إعادة هندسة المشهد وذلك بوضع "حليف التوافق" أي حركة النهضة بين كماشتيّ الضغوطات الدولية وتوجّهات أنصارها. فهذا الحليف رفض مسايرة رئيس الجمهورية في مسعاه لإزاحة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، فأشهرَ له الباجي قايد السبسي ورقة مبادرة الحريات الفردية والمساواة في الإرث".

ويضاف إلى ذلك الهدف الثالث الذي يتمثل وفق الزبيدي في "إعطاء تأويل مستقر للدستور في فصوله ذات الصلة بالهوية والحريات، وهي التوطئة والفصلان الأول والثاني عن (طبيعة الدولة وعلاقتها بالإسلام) والفصول6-21-21-26-46-47-49 التي نصّت على رعاية الدين وحرية الضمير والحريات الفردية وحقوق المرأة".

على أية حال، وبغضّ النظر عن أهداف الرئيس التونسي يبقى من الضروري الاحتكام إلى مقتضيات دستور 2014 ومنطقه الداخلي وأولوياته الحقيقية. إذ إن تقديم مبادرة حول الحريات الفردية أو المساواة يتطلّب عرضها للاستشارة الوجوبية أمام الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان والتنمية المُستدامة، في حين أنّ البرلمان لم ينظر أصلاً في النص المؤسّس لها. فضلاً عن انتخاب أعضائها، بالإضافة إلى أنّ من شروط المصادقة النهائية على مشروع قانون الميراث أو إمكانية عرضه على الاستفتاء يتطلّب مُصادقة المحكمة الدستورية التي لم تَر النور بعد.

وعليه، من الضروري إنشاء الهيئتين ثم إثر ذلك يكون عرض المبادرة التشريعية على البرلمان. أما في ما يتعلق بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى في ذاتها، يظل الفصل بين مسارين إثنين حاسماً. المسار الأول فكري وتقوده النخبة بمختلف توجّهاتها ضمن جدل له أوجهه الأكاديمية والمجتمعية، أما الثاني فسياسي وتشريعي يكون لاحقاً وليس سابقاً للمسار الفكري.
_________________
* كاتب وشاعر من تونس

الخميس، 16 نوفمبر 2017

لبنان: وقائع الانقلاب على زعيم «المستقبل»

    نوفمبر 16, 2017   No comments
حسن عليق



جعجع لإبن سلمان: الحريري عاجز... فتِّشوا عن غيره

جعجع لإبن سلمان: الحريري مكبّل باتفاقات مع حزب الله ويستقبل حسين الخليل أسبوعياً (هيثم الموسوي)

لم ينه المستقبل بعد جردة حساب تشمل الذين طعنوا سعد الحريري، سواء في محنته، او المشاركين في الانقلاب عليه. بعض هؤلاء داخل تياره. وبعضهم من فريقه السياسي الأكبر. لكنهم يضعون على رأس اللائحة حليفاً وخصماً. الاول هو سمير جعجع، أما الثاني

المستمع إلى كلام بعض قادة تيار «المستقبل» وهم يتحدّثون عن القوات اللبنانية في الأيام التي تلت استقالة الرئيس سعد الحريري، يظنهم يتحدّثون عن عدوّ. عدوّ، لا خصم. في الدائرة القيادية في التيار الأزرق، قناعة راسخة بأن رئيس حزب القوات، سمير جعجع، شارك في انقلاب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، على الحريري.

وباتت لدى المستقبليين رواية كاملة، تتقاطع مع معلومات دبلوماسيين عرب وغربيين، وتستند إلى ما يسمونه «معلومات دقيقة وموثّقة» عن دور جعجع في الانقلاب، وفي تكوين قناعة محمد بن سلمان باستبدال الرئيس الحريري بشقيقه بهاء.


تقول الرواية إن لقاء جعجع ــ ابن سلمان في 28 أيلول الماضي، شهد جردة حساب للعام الأول من عهد العماد ميشال عون وحكومة الحريري. وكان ابن سلمان يتحدّث عن التطورات في المنطقة، مستعرضاً ما جرى في السنوات الماضية في اليمن والبحرين والعراق وسوريا. أسهب في الحديث عن خطورة إيران وحزب الله، مشدداً على ضرورة مواجهة الحزب في لبنان عبر إعادة توحيد قوى 14 آذار. وقال الحاكم الفعلي للسعودية إنه مستعد لحل أزمة الحريري المالية، ودعم قيادته جبهة 14 آذار الموحدة لمواجهة حزب الله، سياسياً وإعلامياً وانتخابياً.

ردّ جعجع كان مفاجئاً. فهو أكد لمضيفه أن الحريري لم يعد يصلح لمواجهة الحزب. وشرح كيف أن اتفاق الحريري مع ميشال عون يكبّل الأول، فضلاً عن أن «سعد مرتبط بتفاهمات مع حزب الله، وهو ينسّق معهم في كل صغيرة وكبيرة، ويلتقي المعاون السياسي لحسن نصرالله، حسين الخليل، مرة على الأقل في الأسبوع». وأضاف رئيس القوات أن هذه التفاهمات مع عون والحزب سابقة لانتخاب رئيس الجمهورية، والحريري تطبّع معها ولم يعد قادراً على التراجع عنها. وختم مطالعته بالقول إن الحريري عاجز عن قيادة جبهة مواجهة الحزب، والقيام بهذه المهمة يقتضي البحث عن شخصية سنية أخرى، تستطيع العمل ضد حلفاء إيران في لبنان.

تضيف الرواية نفسها: بدا محمد بن سلمان مستعجلاً للبدء بتنفيذ خطوات عملية لإرباك حزب الله. لكن جعجع بقي مصراً: سعد الحريري ليس الشخص المناسب لأداء هذا الدور، ويجب البحث عن شخصية سنية أخرى قادرة على الصمود، ولا تربطها أي اتفاقات بعون والحزب.

سريعاً، ظهر لدى السعوديين اسم بهاء الحريري، ليكون الزعيم الذي يحمل اسم رفيق الحريري، ويؤمّن الغطاء لشخصيات سنية ثانوية، كأشرف ريفي، لقيادة المواجهة.
غادر جعجع الرياض إلى أستراليا، وبدأ من هناك عزف نغمة الاستقالة من الحكومة، محرِجاً الحريري عبر المزايدة عليه في ملف «التطبيع مع النظام السوري». وبعد أشهر على موافقة وزراء القوات على التشكيلات الدبلوماسية، ومن ضمنها تعيين سفير في دمشق، فجأة، اختُرِعَت قضية اسمها «توقيع الحريري على قرار إرسال السفير سعد زخيا لتقديم أوراق اعتماده للرئيس السوري بشار الأسد». ودخل وزراء جعجع جلسة مجلس الوزراء الأخيرة (2 تشرين الثاني، قبل يومين من إجبار الحريري على الاستقالة) ليعلنوا تحفّظهم عن الخطوة التي شاركوا في صنعها!

هذه الإشارات حسبها الرئيس الحريري وفريقه تزخيماً انتخابياً لا أكثر. لم يجيدوا أيضاً قراءة إشارة أخرى، ظهرت من مكان بعيد عن معراب. فقبل أسبوع تماماً من استدراج الحريري إلى الرياض وإجباره على الاستقالة، استقبل النائب وليد جنبلاط، بحضور أحد أفراد عائلته والنائب وائل بوفاعور، رجل الأعمال صافي كالو. الأخير شريك تجاري لبهاء الحريري. فوجئ جنبلاط بكالو يطرح اسم بهاء، كرجل المرحلة لمواجهة حزب الله، بدعم سعودي. وفهم منه أن كلامه يعني أن يحل بهاء مكان شقيقه سعد. صدمة جنبلاط كانت قوية إلى حد أنه اعتذر عن عدم اكمال اللقاء، متذرّعاً بآلام أصابت كتفه، وترك كالو مع أبو فاعور.

عاد بهاء ليظهر في خلفية المشهد عندما سافر وزير العدل السابق أشرف ريفي إلى ميلانو الإيطالية، قبل أيام من استقالة الحريري. فلدى قيادة المستقبل «أدلة حسية» تثبت أن ريفي انتقل من ميلانو إلى فرنسا، وزار بهاء في موناكو. وفي طريق العودة، مرّ بميلانو مجدداً، لإبعاد الشبهات. وصل الى بيروت يوم السبت 4 تشرين الثاني (اليوم الذي استقال فيه الحريري). أما بهاء، فانتقل من ميلانو إلى الرياض في اليوم التالي. الجزء الأخير من الرواية صار معروفاً: سعد الحريري في الإقامة الجبرية، فيما السفير السعودي المعيّن في لبنان، وليد اليعقوبي، يتولى الاتصال بأفراد عائلة الحريري: النائبة بهية الحريري، ابنها أحمد، أبناء الرئيس الشهيد رفيق الحريري هند وفهد وأيمن، ليدعوهم إلى الرياض، بهدف مبايعة بهاء زعيماً سياسياً للعائلة والتيار خلفاَ لسعد. رفضوا تلبية الدعوة، وخرج وزير الداخلية نهاد المشنوق في تصريحه الشهير من دار الفتوى: لسنا غنماً. لا نبايع.

بعد العائلة والمشنوق، اجتمع تيار المستقبل، بجميع أجنحته، ليعلن التمسّك بسعد. ثم بدأت تتوالى المواقف الدولية المطالبة بعودة رئيس الحكومة اللبنانية إلى بلاده، بعدما ظهر أن مقامرة محمد بن سلمان خاسرة، وأنها ستؤدي إلى نتائج عكسية تصبّ في مصلحة حزب الله وحلفائه.

فشل الانقلاب، ليرحل بهاء عن الرياض أمس. وبعد سنوات من الاختفاء عن رادار الإعلام، منح مقابلة لوكالة «أسوشييتد برس» أمس، أيّد فيها استقالة شقيقه، وجدد شكر السعودية، وهاجم إيران وحزب الله.

قيادة تيار المستقبل تجري جردة الحساب. المشاركون في طعن الرئيس الحريري من داخل فريق 14 آذار كثر. هل النائب السابق فارس سعيد أحدهم؟ يجيب مسؤول مستقبلي رفيع المستوى بالقول: «المؤامرة كانت أكبر من سعيد. لكنه شارك في تأمين الغطاء المسيحي لها، عبر إقناع البطريرك بشارة الراعي بالذهاب إلى الرياض، رغم علمه بأن رئيس الحكومة محتجز».

وماذا عن سامي الجميِّل؟ يجيب مسؤول مستقبلي آخر: لا أحد يعوّل عليه.
______________

السبت، 12 أغسطس 2017

الجزائر بين يومين وكل الخوف من اليوم الثالث

    أغسطس 12, 2017   No comments
اسماعيل القاسمي الحسني

التحذيرات مما هو قادم على الجزائر دولة و شعبا، ليست وليدة هذه المرحلة التي تميزت بالمناكفات على مستوى هرم السلطة، و صراعات أجنحة و إن اختلفت من ناحية التصنيف، فهي مجتمعة على قاسم مشترك و هو السلوك المافيوي، منعدم روح الانتماء للوطن، منسلخ من كل قيم الشخصية الجزائرية؛ و يحضرني هنا أنني كتبت في صحيفة القدس العربي مقالات
عديدة منها “هل رفع دعوة الحق يستدعي إذنا من رئاسة الجمهورية (07/09/2010) و قبل ذلك :”من يحمي الشعوب من إساءة الرؤساء” (08/10/2009)، و “من البلطجة السياسية الى هاوية العربدة” (16/11/2009) و “فلاح يستنفر جهاز المخابرات” (15/12/2009)؛ كتبنا ذلك و غيره كثير في تلكم السنوات بين 2008 و 2011 أيام كانت أغلب النخب الجزائرية بين متملق متسلق و بين ما لي و لهذا. و لن أنس مقالا تحت عنوان:” لو كنت جنرالا، لأمرت بإعدامه”؛ يدعو فيه كاتبه و هو صحفي جزائري مخضرم، له اسمه و تاريخه الى التصفية الجسدية للفلاح، بحجة أنه إرهابي يعيش بين زوريخ و لندن، باعتبار أن جرأة النقد لا يملكها في تقديره إلا إرهابي يعيش خارج الجزائر.
 

اليوم تقف الجزائر دولة و شعبا على واقع بالغ الخطر لطالما حذرنا النخب منه و دعوناها منذ عشر سنوات للعمل جديا و بوعي لتجنبه.

في مرحلة الرئيس هواري بومدين، كانت شخصيات كثيرة مرشحة لخلافته، اتفقنا حولها أم اختلفنا، لا يمكن أن نغفل خصائصها و منها الحضور و التاريخ الثوري و غيرهما؛ مع ذلك حين توفي الرئيس 1978 و لحظة وجود صدام بين الشخصيات على وراثة الحكم، تمكن النظام من اختيار شخصية لا تختلف بشأنها أطراف الصراع، و عاد القرار ساعتها الى جهاز المخابرات الجزائرية. اليوم يختلف عن ذلكم الأمس، لا نتكلم عن المحيط الإقليمي و العربي الملتهب، وإنما نكتفي بحالة الداخل التي تفتقر لأي شخصية قيادية، فالرئيس الحالي عمل بكل جهده على إخلاء السلطة من أي رجل تشتم فيه إمكانية التأهل للقيادة، جنون العظمة من جهة و بطانة التأليه من جهة ثانية،مسحت بشكل لافت تخلّق هذه الضرورة الحتمية لصيرورة النظام.

أما اليوم الثاني فهو حالة تونس قبيل 07/11/1987، فالرئيس الجزائري الحالي، الذي دعوناه مرارا لعدم تقطيع الدستور وفق هواه، و نددنا بقوة حين طبّل له مرتزقة السلطة و الإعلام و غيرهما لما اجتث المادة الدستورية التي تنص على عهدتين فقط؛ قد بلغت به الحال وضعا صحيا أكثر تعقيدا من حالة الرئيس بورقيبة 1987، و لا نتصور عاقلا يصدّق بأنه هو من يدير شؤون البلد منذ أربع سنوات على الأقل؛ لا نلتفت لتعليقات مرتزقة السلطة و طفيلياتها التي تلتف حول سيقان قصب سُدّتها؛ لكن الفارق بين يوم تونس و يوم الجزائر هذا الذي نعيش ساعاته المقلقة، هو شلل جهاز المخابرات الجزائرية، الذي على ما يبدو تعرض لحالة تصحّر مخيفة، ذلك أنه يعدم شخصية مركزية قوية من ناحية، و من ناحية أخرى حصر تقدير الأمن القومي في الشق الخارجي، و هذا تقدير أصاب أنظمة عربية في مقتل، و انتهى بها لحروب داخلية و تمزق جغرافي مروّع.

بقي اليوم الثالث، هذا اليوم الذي لا تريد النخب أن تواجه أسئلته استباقا، ماذا لو غاب الرئيس اليوم؟ هذا الأمر مؤكد الوقوع في أي دقيقة، ماذا سيحدث؟ و الحال أن رئيس مجلس الأمة (الرجل الثاني) غير مقبول لأسباب يعرفها رجال السلطة أنفسهم، فضلا عن كونه في العقد التاسع هو كذلك، و لا وجود لجهاز مخابرات قوي يمكنه أن يضبط وقع الصراع بين الطامعين في الوراثة، و أخطر من ذلك كلّه، هو لا وجود لشخصيات تحظى بقليل من احترام الشعب، و لا توجد شخصية من طراز زين العابدين بن علي لها الجرأة و القدرة على إمساك زمام الأمر.

بل ما هو ظاهر على سطح الطبقة السلطوية ليس أكثر من شخصيات مافيوزية أقل شرفا و أخطر جرما من La Cosa Nostra و التي نشأت عام 2000 بظاهرة “الخليفة”، و لم تتطور بعد الى حالة La Cosa Nuova  مع ظاهرة “حداد”.
 
لقد أشرت سابقا لحالة الابتزاز التي مارستها الطبقة السياسية الجزائرية بشقيها الحاكم و ما يسمى بالمعارضة، ابتزاز وعي الشعب الجزائري بخطورة أي تحرك جدي خشية أن يستغله الطرف الخارجي، و يجعل منه كما فعل مع بقية الشعوب العربية، وسيلة للتدخل و العبث بالأمن الداخلي و سلامة الوطن، هذا الابتزاز الحقير و الإجرامي في آن واحد الى أين سيأخذ الوطن؟ هذا اليوم الثالث الذي يجعلني أضع يدي على قلبي، لأن “القيادة” الجزائرية تعوّل على تقدير مُتَوَهَّم، و هو أن أوسع طبقات الشعب تعيش حالة سبات سياسي؛ هذا “الوهم” لا يستقر إلا في عقول محنطة متكلّسة، فكما رصد زبيغنيو بريجنسكي في كتابه رؤية إستراتيجية،هناك ظاهرتان جديدتان قلبت التاريخ البشري المعاصر، و من لم يعي ذلك فقطعا هو منفصل عن الواقع.

الخميس، 3 أغسطس 2017

المراجعات الفكرية والعقدية ضرورة استراتيجية

    أغسطس 03, 2017   No comments
المراجعات الفكرية والعقدية ضرورة استراتيجية :

الاثنين، 12 يونيو 2017

«داعش»... غدر الذاكرة فشل التجربة وعقم الأيديولوجيا

    يونيو 12, 2017   No comments
فؤاد إبراهيم

لم يقدَّر لأحد من الأحياء أن يعيش تجربة التأسيس الأولى للدولة السعودية الوهابية. ولم يقرأ أكثر سكان العالم عنها، ولكن بالتأكيد هناك كثيرون في أرجاء العالم شاهدوا اقترافات مقاتلي «داعش» في سوريا والعراق ومصر وليبيا والجزيرة العربية وعدد من العواصم الأوروبية. الإعدامات الجماعية، ونحر الرقاب، وقطع الرؤوس، وحرق الأجساد، وجلد الظهور، وقطع الأطراف، وسرقة الممتلكات كغنائم، وفرض الإتاوات، وهدم الأضرحة والقبور والدور، وتحطيم التماثيل والرموز... هذه كلها مشاهد في تجربة التنظيم غير الحكومي الأشد خطورة على السلام العالمي.

يفعل ذلك كله بغطاء شرعي وديني، ويحتمي بسجل من الفتاوى والنصوص الدينية، والسوابق التاريخية التي تبرّر إنزال الرعب وإشاعة الهلع في قلوب من يصنّفهم بالكافرين.
لكن «داعش» ليس نبتة طارئة، بل كما يقول عنها الشيخ السلفي وإمام الحرم الأسبق عادل الكلباني «نبتة سلفية. هي حقيقة يجب أن نواجهها بكل شفافية». وفي ضوء التجربة الوهابية الأولى، يصبح «داعش» امتدادها التاريخي والأيديولوجي.

البغدادي... الرؤية الوهابية

في اليوم الثاني من رمضان لسنة 1435هـ الموافق للأول من يوليو/ تموز لسنة 2014، الموافق لليوم الثاني من إعلانه أميراً للمؤمنين على «الدولة الإسلامية» التي تضم أجزاءً من سوريا والعراق، وجّه أبو بكر البغدادي (إبراهيم بن عواد البدري) «رسالة إلى المجاهدين والأمة الإسلامية» تناول فيها طائفة من المسائل في مقدمتها الجهاد، وطالب بالإبقاء على السلاح مشهوراً: «السلاح السلاح يا جنود الدولة! والنزال النزال! إياكم أن تغترّوا أو تفتروا، واحذروا!». تحدث عن مشروعه الكوني، وقدّم نفسه ودولته باعتبارهما أمل الأمة الإسلامية عامة وفق رؤية كونية تقوم على أساس تقسيم العالم إلى دارين: دار إيمان ودار كفر، بحسب التصوّر الوهابي. خطاب يصدر عن منابذة الآخر، طائفة وفكراً، فرفض مفاهيم «الحضارة والسلام، والتعايش، والحرية، والديمقراطية، والعَلمانية، والبعثية، والقومية، والوطنية». كذلك انتقد «تحكيم القوانين الوضعية الشركية» حسب وصفه، التي تهدف إلى «انسلاخ المسلم عن دينه والكفر بالله» حسب تصوّره العقدي.

يخلص البغدادي بعد الفراغ من عملية تصنيف واسعة النطاق للطوائف والمعتقدات والمفاهيم، إلى أنّ البديل الالزامي هو «دولة الخلافة» التي تضم أطيافاً متنوعة من جنسيات مختلفة «القوقازي والهندي والصيني، والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي، والأميركي والفرنسي والألماني والأسترالي...»، وهم مقاتلو «داعش» الذين تحوّلوا إلى مواطنين في دولة الخلافة.
هذا العبور للدولة والوطن وحتى الاتحاد القاري، يصدر عن رؤية كلاسيكية نمطية لمفهوم الأمة، الكيان المعياري على أساس عقدي، لا جغرافي، حيث تصبح حدود الأمة مفتوحة ومتمدّدة بحسب حركة انتشار العقيدة. وهذا على وجه الدقّة التجسيد العملاني لقسمة العالم إلى دار إسلام ودار كفر، على طريقة ابن عبد الوهاب في تصنيف الدرعية دار إيمان وما سواها دار كفر.
بعد قيام دولة الخلافة وعاصمتها الموصل، دعا البغدادي المسلمين إلى الهجرة إليها، بما يبطن موقفاً عقدياً من الدول القائمة قاطبة بكونها كافرة. هي رؤية كونية مدغومة في استراتيجية التغيير التي وردت في وصية البغدادي لجنود دولته، وبشّرهم في ختامها: «هذه وصيتي لكم؛ إن التزمتموها: لَتفتحُنّ روما، ولَتملكنّ الأرض».

مأزق النظرية السياسية السلفية

خطبة أبو بكر البغدادي في المسجد الكبير في الموصل أعادت مأزق التنظير السلفي لقبول مبدأ ولاية المتغلب بالشوكة، من خلال دعوته المسلمين عامة لمبايعته وطاعته لمجرد تغلب «داعش» وإقامته للخلافة.
في الوهلة الأولى، قد تبدو خطابات البغدادي وكأنها خلاصة تأملات عميقة في النص الديني، والواقع التاريخي والمعاصر للمسلمين، ولكن ما لبث أن تكشّف تطابق النص والرؤية والموقف مع ما كان لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمتحدّرين من خطه الفكري.
يتعمّد البغدادي تكثيف حضور الآية القرآنية، وإن كان يستخدمها في غير محلها أحياناً كالهجرة إلى دولته التي أراد استغلال فقرة «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها...» كدليل على وجوب الهجرة إلى دولته، ما يدلّ على أن معرفة الرجل بتفسير الآيات القرآنية تخضع لعملية أدلجة فارطة، أو ما يسبغ عليه داريوش شايغان سمة «أدلجة المأثور».
يضاف إلى ذلك، تعمّد استخدام عبارة «اتقوا الله» في غير مكان يبدو متكلّفاً مقتفياً سيرة مشايخ الوهابيين في تدجيج الخطاب بالمفردة الدينية، وتلك التي تتضمن عنصر الترويع والتشويق.
أسهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رمي خصومه بضروب التهم مثل السفاهة، والابتداع. بل نجده يمنّ على أهالي الدرعية بالإسلام والهداية على يده: «فالرجل الذي هداكم الله به ـ في إشارة إلى نفسه ـ لهذا إن كنتم صادقين لو يكون أحب إليكم من أموالكم لم يكن كثيراً»، ومثل ذلك رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة: «فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، وأحمدوه سبحانه الذي منّ عليكم ويسّر لكم من يعرفّكم بدين نبيكم».
وكان من تلامذة الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ، قاضي بلدة الحلوة، في إقليم نجد، الشيخ حمد بن عتيق (1227 - 1301هـ). وهذا الشيخ العتيق، له رسالة في جواب لمن ناظره في حكم أهل مكة وما يقال في البلد نفسه جاء ما نصه من قوله: «جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر أم بلد إسلام...»، وخلص إلى «أن هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، ولا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد، وساعين في إزالة دينهم، وفي تخريب بلاد الإسلام». وزاد على ذلك بالقول: «بل الظاهر عندنا وعند غيرنا أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان» (انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، فتاوى ورسائل لعلماء نجد الأعلام، مطبعة المنار في مصر، الطبعة الأولى سنة 1928، الجزء الأول، ص 742 – 745).
وكان نموذج الرسائل التي يبعثها أمراء آل سعود منذ الدولة السعودية الأولى يحمل دلالات أيديولوجية واضحة، فالسيف الذي يشهره الأمير يستظلُّ بحزمة مزاعم دينية. وكان نموذج تلك الرسائل ما نصه: «من عبد العزيز إلى قبيلة (..) سلام. واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت». وفي رسالة الأمير سعود إلى سكان المدينة المنورة يقول فيها: «إني أبتغي أن تكونوا مسلمين حقيقيين، آمنوا بالله تسلموا وإلا فإني سأقاتلكم حتى الموت» (لويس دوكورانسي، الوهابيون... تاريخ ما أهمله التاريخ، ص ص 62،92).

التكفير محصلة الهجرة والجهاد

ولفهم خطاب «داعش البغدادي»، يتموضع مفهوما الهجرة والجهاد في صميم الأيديولوجية الداعشية، وهما مفهومان دينيان وتاريخيان. فالهجرة تصدق فحسب على هجرة مسلمين من دار شرك وكفر إلى دار توحيد وإيمان، وبالتالي فإن فحوى دعوة البغدادي بوجوب الهجرة إلى دولته إنما تبطن موقفاً عقدياً وحكماً بكفر كل من هم خارج دولته الإسلامية، أو من يرفض الالتحاق بها طوعاً أو كرهاً. وبالعودة إلى أدبيات «داعش» التي تتقاطع فيها مع «القاعدة» يظهر بوضوح الموقف من الدول القائمة في العالم الاسلامي.
لفهم أعمق للعلاقة بين التكفير والهجرة والجهاد، يربط عبد المنعم مصطفى حليمة في كتابه «الهجرة... مسائل وأحكام» المنشور في 9 ديسمبر 2001، بين الهجرة والجهاد، وهما خطّان متوازيان «فمن أراد أن يُحيي فريضة الجهاد لا بد له أولاً من أن يُحيي في نفسه فريضة الهجرة والتمايز إلى الله ورسوله». والهجرة لا تكون إلا من بلاد شرك إلى بلاد إيمان، وهذا يعني أن المهاجر حسم موقفه العقدي من المجتمع الذي هاجر منه، إن كان مجتمعاً مسلماً أو كافراً، وإلا ما هاجر منه. ولذلك فإن الكاتب يضع استثناءً مقصوداً «وهذا لا يعني ضرورة انعدام الاحتكاك أو الاتصال بالتجمعات الجاهلية المعاصرة المحيطة بالدعوة بقدر ما تقتضيه الضرورة والمصلحة أو السياسة الشرعية...». وإن كان يشدد على العزلة الشعورية والهجرة الباطنة «عن كل ما يمت للجاهلية من صلة».
فالهجرة شرعاً بحسب تعريفه هي «الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دارٍ شديد الفتنة إلى دارٍ أقل منه فتنة». والهجرة نوعان: مكانية مرتبطة بالخروج والانتقال من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، وهذا ما دعا إليه أبو بكر البغدادي في خطاب التتويج بإمرة المؤمنين! وهجرة الذنوب والمعاصي والآثام. والهجرة المكانية واجبة، لأن الله نهى عن «الإقامة بين أظهر المشركين».
وسوف يظهر كم مثّلت تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تجسيد مشروع الخلافة الإسلامية في منتصف القرن الثامن عشر النموذج المعياري الذي تحوّل إلى مصدر إلهام لكل التنظيمات السلفية التي ظهرت في طول التجارب السعودية الثلاث، وكذلك التنظيمات الجهادية التي تعتنق الوهابية طريقة ونهجاً.
فكان انتقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قرية العيينة إلى قرية الدرعية وسط نجد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي تجسيداً لمفهوم الهجرة وإيذاناً بإقامة «دار هجرة وإسلام» تكون مقدّمة تمهيدية لإقامة الخلافة الإسلامية. ويشرح الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد ابن عبد الوهاب، هذا المفهوم على النحو الآتي: «ما يجب معرفته أنه حيثما ساد الظلم والعصيان، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالهجرة من أجل حفظ هذا الدين وصون أرواح المؤمنين ضد الشرور. فلا تخالط أهل الضلال والعصيان، حيث يتم تمييز أهل العدل والإيمان من طائفة الفساد والعدوان، وحينئذ ترتفع راية الإسلام. فبدون هجرة لا تقوم لهذا الدين من قائمة ولا يعبد الله، ومن المستحيل بدون هجرة أن يجحد بالشرك والظلم والشر».
في النتائج، إن عديداً من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هاجر إلى الدار الجديدة والانضمام إلى المجتمع الناشئ من المؤمنين، فتمّ تنظيم وتالياً تجريد الحملات العسكرية ضد المناطق المجاورة المنضوية تحت تصنيف دار الحرب.
في سنة 1216هـ. غزا عبد العزيز بن سعود العراق، وأناخ على كربلاء فقتل أكثر أهلها، ونهب البلد، ويعلّق البصري بما نصّه: «حتى يقال إنه ما غنم ابن سعود في مدة ملكه بعد خزائن المدينة المنورة أكثر من غنائم كربلاء من الجواهر والحلي والنقد، ثم قفل إلى نجد متبجّحاً بما فعله من سفك دماء...» (انظر: الشيخ عثمان بن محمد بن أحمد بن سند البصري، مطالع السعود بأخبار الوالي داود، اختصار أمين الحلواني، نسخة مقتطعة من كتابة خزانة التواريخ النجدية، جمع وترتيب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، ص 283 – 283).
وفي سنة 1223 هـ. أمر السلطان العثماني محمود، والي مصر محمد علي باشا، أن يجهّز جيشاً لإزالة الوهابية بقيادة الأمير فيصل بن سعود بعدما استولى على الحرمين، ونهب جميع ما في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، ومنعه حجّاج مصر والشام من أداء الفريضة باعتبارهم مشركين فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (البصري، المصدر السابق، ص 295 – 296).

«إخوان من طاع الله» و«داعش»

وقائع التجربة التأسيسية لمشروع الدولة الدينية الوهابية مقاربة بتجربة «داعش» في المناطق الخاضعة تحت سيطرته من قتل جماعي، ومصادرة للممتلكات، وهدم للآثار، وتحطيم للقبور والرموز والأضرحة والقباب والتماثيل وغيرها، تظهر في النتائج أننا أمام تجربة إحيائية جديدة حاولت تجسيد ما عجرت تجارب تصحيح مسار الدولة السعودية التي يعتقد كثيرون من أتباعها بانحرافه عن تعاليم الوهابية المؤسّسة، وأخفقت في حفظ نقاوة المشروع الوهابي العابر للحدود بإلغائها لفريضة الجهاد، وفي التعامل مع بقية المسلمين بأنهم مشركون، بالرغم من أن الدولة السعودية ما قامت إلا على هذه التصوّرات العقدية.
جرت محاولة أخرى لإعادة التجربة الإحيائية الوهابية في وقت لاحق، على قاعدة استدراك أخطاء التجارب السابقة منها انحراف أهل الحكم عن المبدأ الذي قامت عليه الدولة السعودية الأولى، وهو ما ذكّر به الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة إلى الأمير فيصل بن تركي، من أمراء الدولة السعودية الثانية: «وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين...) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، الجزء 14 ص 70).
وكانت تجربة «إخوان من طاع الله»، وهم الجيش العقائدي الذي أنشأه عبد العزيز آل سعود، والد الملك الحالي، على فكرة إعادة إحياء المجتمع الوهابي النقي، الذي يتطلع لأن يستعيد تجربة الإخوان الأوائل الذي تحلّقوا حول الشيخ المؤسسس محمد بن عبد الوهاب. وحين سيطرة عبد العزيز على الرياض عام 1902، قرر التمدّد خارج نجد، وتحديداً باتجاه السيطرة على الأحساء سنة 1912، استعان بجيش الإخوان، الذي اكتشف بأسهم وشراستهم في القتال، فعاد معهم من الاحساء إماماً بعد أن كان قائداً عسكرياً.
تعزّز لدى «الإخوان» حلم إحياء الدولة الدينية التي تقوم على الجهاد في الأرض وتتمدد في كل اتجاه يمكن أن تصل إليه راية التوحيد والجهاد. فكان عبد العزيز يرسلهم إلى المناطق للسيطرة عليها، ويكون ذلك في الغالب بارتكاب المجازر والقيام بأعمال السلب والنهب وتخريب الممتلكات وسفك الدم، وما تقوم به «القاعدة» و«داعش» ليس إلا تكراراً حتى في التفاصيل، كالذبح وقطع الرؤوس مثلاً.
نجح عبد العزيز في توظيف «إخوان من طاع الله» في مشروع دولة لأسرته، ولكنّ التناقض بين مشروعه السياسي المدعوم بريطانياً تجابه في لحظة ما مع مشروع الفتح الوهابي، فكانت معركة السبله في 1929 فاصلة لناحية إنهاء الرابطة بين مشروعي الدولة والعقيدة الوهابية التي تحوّلت إلى إيديولوجية مشرعنة للدولة وليست مسيّرة لها.
محاولات تصويب مسار الدولة السعودية باءت بالفشل (الجماعات السلفية المحتسبة، تيار الصحوة، قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية). وجاء تنظيم «داعش» كمشروع سياسي/ ديني ينتمي إلى الوهابية عقيدة ومشروعاً سياسياً فوق قطري وفوق قومي، ليجدد إحياء الحلم الوهابي بالعودة إلى تعاليم الجيل المؤسس ومشروعه. ما كانت تخشاه السعودية هو أن مشروع «داعش» ينشأ ويترعرع خارج حدودها وخارج سيطرتها وقد تغذيه في مقارعة خصومها، ولكن لا يعني أن «داعش» يتخلى عن مشروعه الأصلي في تجسيد حلم الوهابية الأول.
الأخطر من وجهة نظر آل سعود، أن «داعش» هدّد مشروعية الدولة السعودية، تلك المشروعية القائمة على الامتثال الأمين لتعاليم مؤسس المذهب الوهابي، ولعقيدة التوحيد ومنظومة المبادئ الدينية التي قامت عليها الدولة السعودية.
وفيما تتآكل أطراف «الدولة» على وقع انهيارات تحصيناتها ومراكزها المنيعة، مع تقدّم القوات العراقية والسورية في استرجاع ما وقع تحت سيطرة التنظيم، فإن التحدّي الذي سيبرز تالياً هو مآل الأيديولوجية المسؤولة عن تشكيل التنظيم وشرعنته وانتشاره. فهل يعود إلى مرحلة ما قبل «الدولة» على غرار الوهابية في لحظة ظهورها الأول، حين كانت قائمة على ثالوث التكفير والهجرة والجهاد قبل أن تؤتي ثمرتها في إعلان المملكة السعودية سنة 1932، أم تتحوّل الى تنظيم إرهابي جوّال، يطوف بانتحارييه عواصم العالم، ويضرب حيث يثبت وجوده على قيد الحياة، وعليه، يصبح نموذجاً مشوّهاً لجماعة فوضوية (anarchists) تخرج على الدولة ليس على أساس مقاومة محوريتها، بوصفها أداة لحماية المنتجين الكبار وسعياً إلى الحفاظ على الملكية الفردية، بل الانخراط في مهمة تخريبية للدولة بكامل حمولتها، بوصفها رجساً من عمل الشيطان لا بد من اجتنابه.
_______
مقالات «الأخبار»

الخميس، 26 يناير 2017

هل يستطيع ترامب إقامة "منطقة آمنة في سورية"؟... هل نشهد تقاربا بين “النصرة” و”الدولة الإسلامية”؟ وصداما روسيا أمريكيا؟ وما دور مؤتمر استانة في كل ذلك؟

    يناير 26, 2017   No comments
هل يستطيع ترامب إقامة "منطقة آمنة"؟

 قاسم عزالدين

قد لا يكون حديث ترامب في المنطقة الآمنة أجدى من الأماني التركية بخصوصها وما إحالتها للدراسة ووضع الخطة سوى من علامات المماطلة. فالدراسات والخطط التي أعدّتها وزارتا الخارجية والدفاع في عهد باراك أوباما لا تشوبها شائبة على الورق. لكنها في كل مرّة كان يتم البحث في وضعها على الأرض، كانت تواجهها معضلات تتجاوز قدرة الولايات المتحدة في أولوياتها.
ما تناوله دونالد ترامب بصدد رغبته في إقامة منطقة آمنة في سوريا، جاء في سياق حديث عن شاغله الشاغل لمحاربة المهاجرين. فما وعد به أثناء حملته الانتخابية يحاول أن يقدمه بطابع التزام جدي في إدراجه ضمن ما يُعرف بتقليد أول تسعين يوماً بعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية.
في هذا السياق تطرّق ترامب في حديثه مع قناة "أي بي سي نيوز" الأميركية، إلى التأكيد على إقامة منطقة آمنة وأن وزارتي الدفاع والخارجية "ستعدّان الدراسة لوضع الخطة". لكن ما أشار إليه هو فرع من أصل عدائية للهجرة أسهب فيها ظناً أنها علّة العلل في أميركا والعالم. وسرعان ما وقعت إشارة ترامب في وزارة الخارجية التركية موقعاً طيّباً، إذ تلقفها الناطق الرسمي باسمها حسين مفتي أوغلو مذكّراً بالفضائل التركية السبّاقة منذ زمن طويل في مضمار المنطقة الآمنة. لكنه لم يشأ المغامرة في الإشادة بما تطرّق إليه ترامب منتظراً "نتيجة الدراسة ومقاصدها" كما قال.
وفي أغلب الظن أن ما يتناوله ترامب بشأن المنطقة الآمنة، لا يتقاطع مع الدعوات التركية بأكثر من التشابه في اللفظ ولا سيما في لحظة تدعو فيها واشنطن رعاياها في تركيا إلى توخّي الحذر "على خلفية تصعيد الخطاب المعادي للولايات المتحدة". بل ربما أن مقاصد الطرفين متناقضة تماماً من وراء القصد. فبينما يتوخّى البيت الابيض إقامة المنطقة الآمنة مع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، تأمل أنقرة أن تكون ضدها في التمام والكمال.
وقد لا يكون حديث ترامب في المنطقة الآمنة أجدى من الأماني التركية بخصوصها وما إحالتها للدراسة ووضع الخطة سوى من علامات المماطلة. فالدراسات والخطط التي أعدّتها وزارتا الخارجية والدفاع في عهد باراك أوباما لا تشوبها شائبة على الورق. لكنها في كل مرّة كان يتم البحث في وضعها على الأرض، كانت تواجهها معضلات تتجاوز قدرة الولايات المتحدة في أولوياتها. ومنها عدم استعداد واشنطن لمغامرة عسكرية على الأرض في مواجهة موسكو، كما قال جون كيري سابقاً وكما يقول دونالد ترامب اليوم ولاحقاً. ومنها أيضاً عدم استعداد واشنطن لفرض حظر طيران والتفريط بالتنسيق مع موسكو في الأجواء السورية، وهو ما يأمل ترامب توطيده في مواجهة "داعش" والنصرة كما يقول.
ما توقفت عنده إدارة أوباما من معضلات حاولت تخطيها في الاعتماد على حرب بالوكالة، لا تحظى بمثله إدارة ترامب المنكفئة على نفسها من دون أن يبقى لها الكثير من الأوراق لحرب بالوكالة على الأرض. فمعظم الأوراق في الأزمة السورية باتت في أيدي الثلاثي الراعي لمحادثات آستنة روسيا وإيران وتركيا، على ما يتقاطع عليه الثلاثي وليس على ما يرغب كل من جانبه.المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أشار إلى هذا المتغيّر فيما يدل على أن الادارة الاميركية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المستجدات وعليها "دراسة العواقب المحتملة كافة". فقطار الثلاثي يتحرّك من محطة الأزمة السورية السابقة بتوأدة لكن بشكل محسوس. وقد شعرت بتحركه دول أوروبية كثيرة تحاول أن تحجز لها مقعداً، وفي مقدمها فرنسا بمرشحها الاشتراكي المحتمل "بنواه هامون" ومرشحها اليميني "فرنسوا فييون" فضلا عن مرشح اليسار الراديكالي "جون لوك ملنشون" ومرشحة اليمين الشوفيني مارين لوبان.
تشعر بالتحرك أيضاً دول مجلس التعاون الخليجي التي أوفدت وزير الخارجية الكويتي صباح الخالد الصباح إلى طهران "من أجل حوار يتحلّى برؤية مستقبلية لمواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة" كما نُقل عن رسالة الأمير. ولا ريب أن ما يتواتر عن اتصالات بين عمان ودمشق لمواجهة مخاطر "داعش" في البادية السورية وحوض اليرموك، قد لا يكون جلّه محض ادّعاء في ظل نقلة نوعية بين موسكو وعمان. وفي هذا السياق تدعو موسكو حزب الاتحاد الديمقراطي بين منصّات سياسية أخرى في اتجاه مرجعية مفاوضات جديدة في جنيف، وربما لقطع الطريق على الفيدرالية في اتجاه حلول أخرى.
قد تكون تعقيدات الأزمة السورية شديدة التشعّب، لكن القطار يتحرّك نحو ضوء آخر النفق.
______________

ترامب يفاجئ الروس بقرار إقامة “مناطق آمنة” في سورية.. و”الجيش السوري الحر” يتآكل لمصلحة “احرار الشام” الاخوانية المدعومة تركيا.. فهل نشهد تقاربا بين “النصرة” و”الدولة الإسلامية”؟ وصداما روسيا أمريكيا؟ وما دور مؤتمر استانة في كل ذلك؟

عبد الباري عطوان
نتائج مؤتمر استانة الذي اختتم اعماله قبل يومين فقط، بدأت تنعكس توترا وصدامات دموية على الأرض السورية بين الفصائل المسلحة، حليفة الامس، ودخول دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الجديد الى الحلبة “مبكرا”، بإعلانه عن إقامة “مناطق آمنة” في سورية “للأشخاص الفارين من العنف”.
التطور الأول، أي الاشتباكات الدموية بين فصائل الجيش الحر التي شاركت في مؤتمر استانة، وجبهة “النصرة” كان متوقعا، لان هذه الفصائل التزمت بإتفاق يحولها الى “صحوات” تنخرط في تصفية الأخيرة المدرجة على قائمة الإرهاب روسيا وامريكيا، وأخيرا تركياً، لكن ما لم يكن متوقعا هو “المناطق” الآمنة التي يريد ترامب اقامتها داخل الأراضي السورية على الأرجح.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اكد على لسان ديمتري باسكوف المتحدث باسمه صباح اليوم انه فوجيء بالموقف الأمريكي الجديد، واكد انه لم ينسق مع موسكو حول هذه المسألة، ودعاه الى دراسة العواقب التي يمكن ان تترتب على هذا القرار في تحذير واضح”.
***
انعقاد مؤتمر استانة كان احد ابرز إنجازات “الدهاء الروسي”، لانه حقق الفصل بين جبهة “النصرة” وفصائل الجيش السوري الحر أولا، وبين جبهة “النصرة” وحليفتها الاستراتيجية حركة “احرار الشام”، ووظف الطرفين الأخيرين في اطار مخطط لتصفية الأولى، أي “النصرة”، في شمال سورية، ثم الانتقال لتصفية “الدولة الاسلامية” في غربها.
بعد “اكمال” عملية الفصل على الأرض، جرت عملية الغاء لـ”الجيش الحر” كمظلة للفصائل المعتدلة، وتوحيد معظم فصائله تحت مظلة كيان قديم جديد عنوانه “احرار الشام” التنظيم الموالي لتركيا، ويعتقد انه الذراع العسكري لحركة “الاخوان المسلمين” السورية.
حركة “احرار الشام” أعلنت الحرب، وبإيعاز من تركيا، عسكريا وسياسيا، على جبهة “النصرة” وفي منطقة ادلب على وجه الخصوص:

  
   عسكريا: تحت ذريعة حماية الفصائل التي وقعت على اتفاق استانة، وتعرضت لتصفية دموية من قبل جبهة النصرة، مثل جيش المجاهدين، صقور الشام، جيش الإسلام، (قطاع ادلب)، ثوار الشام، الجبهة الشامية، وحركة استقم.
    سياسيا: من خلال وضع الحكومة التركية جبهة “النصرة” على قائمة الارهاب رسميا اليوم الى جانب “الدولة الإسلامية”، وبعد تلكؤ استمر ست سنوات، وإصدار الائتلاف الوطني السوري المعارض بيانا بعد اجتماعه الطارئ بإسطنبول، وبإيعاز تركي أيضا، ادان فيه الجبهة (النصرة)، ووصفها بأنها تنظيم إرهابي عابر للحدود، يتبنى فكرا منحرفا، وسلوك متطرف، ورفض البيان تغيير الاسم الى “فتح الشام”، واصر على ربطه بتنظيم “القاعدة”، وهذا تطور جديد أيضا.

حتى قبل استانة كانت هذه الفصائل تقاتل الى جانب جبهة “فتح الشام” النصرة، ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” والجيش السوري، وشكلت معها جيشا مشتركا تحت اسم “جيش الفتح” الذي يسيطر على مدينة ادلب حاليا، فماذا حدث لتنقلب الأمور رأسا على عقب في غضون أيام او أسابيع على الأكثر؟
جبهة “فتح الشام” او “النصرة” كانت البادئة بالهجوم الشرس لتصفية الفصائل التي ذهبت الى استانة، وخاصة صقور الشام، وجيش المجاهدين، والجبهة الشامية، بضغط او تنسيق تركي لسببين:

    الأول: وصول معلومات مؤكدة ان بعض هذه الفصائل هي التي قدمت معلومات للتحالف الأمريكي عن تحركات عناصرها وقياداتها، مما أدى الى استهدافها ومقتل 13 في غارات أمريكية.
    الثاني: تعهد هذه الفصائل في الانخراط في حرب ضدها في استانة باعتبارها حركة إرهابية.

جبهة “النصرة” تواجه المصير نفسه الذي واجهته “الدولة الإسلامية” ومن قبلها الفصائل المذكورة نفسها، وبالذريعة نفسها، أي تجاهل “فتح الشام” الدعوات للاحتكام الى المحكمة الشرعية التي دعت لانعقادها حركة “احرار الشام” لحقن الدماء، الامر الذي دفع هذه المحكمة وداعميها الى وصفها، أي جبهة النصرة، بـ”الفئة الباغية” وتحميلها مسؤولية هذا التجاهل.
***
لا نعرف ما هو موقف منظري الحركات الجهادية في داخل سورية مثل الشيخ عبد الله المحيسني القاضي الشرعي لحركة “احرار الشام” و”المجاهدين”، وكذلك مواقف الشيخين ابو محمد المقدسي، وعمر عثمان ابو عمر “ابو قتادة”، اللذين انتصرا لجبهة النصرة، او بالأحرى الذراع العسكري لتنظيم “القاعدة” في سورية، في خلافها مع “الدولة الإسلامية” كما لا نعرف أيضا موقف الدكتور ايمن الظواهري، زعيم “القاعدة”، تجاه هذا التطور الذي ستترتب عليه نتائج خطيرة جدا.
اختلطت الأوراق سريعا على الساحة الميدانية السورية، وتبخرت بعض الآمال في تحقيق تسوية سياسية تحقن الدماء، وبث الحياة مجددا في العملية السياسية التفاوضية، وانعقاد مؤتمر جنيف في الأسبوع الثاني من شهر شباط (فبراير) المقبل.
لا نستبعد، او نستغرب، حدوث نوع من التقارب بين جبهة “النصرة” وتنظيم “الدولة الإسلامية” باعتبارهما في دائرة الاستهداف، مثلما لا نستبعد بداية خلاف وربما تصادم بين “الصديقين” بوتين وترامب على الارض السورية.
فإعلان ترامب عن اصراره لاقامة مناطق آمنة، واعطائه صقور وزارة الدفاع 90 يوما لوضع هذه الخطة والبدء في تنفيذها لاحقا، وترحيب تركيا السريع، كلها تتطلب فرض حظر جوي، وجود قوات ومعدات أمريكية بأعداد ضخمة على الأرض، وزيادة اعداد الطائرات الحربية، فهل ستسكت موسكو على هذا التدخل العسكري المباشر الذي سيهدد تفردها بالساحة السورية، وكيف سترد؟
الازمة السورية تنتقل الى “مربع″ جديد، وسحب التفاؤل التي سادت مؤتمر استانة مرشحة للتبدد لمصلحة سحب سوداء اكثر تشاؤمية، مما يضع الجميع امام معادلات جديدة، ونأمل ان نكون مخطئين.

الثلاثاء، 31 مايو 2016

الخلفية الثقافية للقتل عند السلفية الجهادية: "الغرباء فقط سيُقتلون" و "الإسلام هو الحلّ"

    مايو 31, 2016   No comments

 "الغرباء فقط سيُقتلون"
* علي السقا

لم تفعل الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
غالباً ما تمنح نظرية المؤامرة أولئك الذين يتعطّشون لفهم ما يجري من حولهم ما يكفي من الطمأنينة التي تحرّر أكتافهم من المسؤولية متعدّدة الوجوه حيال الأحداث الجسيمة التي يعيشون تداعياتها. وهؤلاء إذ يغذّون تلك النظرية فيعمدون إلى ترسيخ وظيفتيها السياسية والاجتماعية، يستحيل معها أيّ حدث عبارة عن منتوج  خارجي على هيئة جسم غريب يكفي أن يواجه بالقوّة إجمالاً ليتم التخلّص منه.
الكلام الآنف ليس وظيفته الحطّ من نظرية المؤامرة ولا الإعلاء من شأنها فهذا بحث آخر، إلا أن مُقاربة ظواهر حسّاسة، وتكاد تكون مصيرية، مثل ظاهرة المقاتلين المراهقين في داعش، يُفترض أن تتم مناقشتها وتحليلها باستخدام أدوات مفاهيمية تتجاوز الركون إلى نظرية المؤامرة كمرجعية وحيدة.

في ما يلي، قراءة مطوّلة تحاول الإحاطة بالأسباب السياسية والاجتماعية والنفسيّة، التي ربما قد تكون دفعت وتدفع الكثير من الشباب إلى أتون المعارك في سوريا والعراق. وهذا يستدعي الحديث بنود يفترض أنها تلعب دور المساعد على "فهم" ظاهرة نشوء داعش ثم قدرته على استقطاب المقاتلين، وذلك لغاية السعي إلى استجلاء الصورة في أبعادها المكانيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة.

-       ولكن يا أبي، هل سنربح الحرب؟

-       طبعاً يا بُنيّ، لا بل ستنتهي قبل أن تستيقظ.

-       لماذا؟

-       لأنها إن لم تنتهِ بسرعة، فسوف يغضب الناخبون من السيّد بوش، وربما امتنعوا عن الاقتراع لصالحه في آخر الأمر.

-       ولكن هل سيكون هناك قتلى يا أبي؟

-       لن يُقتل أحد ممن تعرفهم يا بُنيّ. الغرباء فقط سيُقتلون.

-       وهل سأرى كل هذا على التلفزيون؟

-       فقط إذا وافق السيّد بوش.

-       وبعد ذلك، سيعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي؟ ولن يرتكب أحد أية فظاعات؟

-       هسّ يا بُنيّ، هيا نم[1].

تكاد هذه المحادثة المُتخيّلة بين أب وابنه، أن تلخّص تاريخاً مديداً من إزدواجية المعايير الأخلاقية عند الغرب. وإذ ليس من الموضوعية في شيء اعتماد أسلوب الإطلاق على شعوب بأكملها، فإن التاريخ السياسي الأوروبي والأميركي القريب والبعيد، لا يزال يؤشّر صراحة إلى وجود هذه الازدواجية. ولذلك فإن سؤالاً أخلاقياً لا ينفكّ يكرّر نفسه. إذا كان حقّ الانسان في أوروبا وأميركا في الحياة مُقدّس، وغير قابل للمَسَاس به إلا في حدود ما تمّ التعاقد عليه بين الشعب والسلطة، فما هي القاعدة الأخلاقية التي تخوّل هذه السلطة سلب مَن هم خارج نطاق سلطانها حقّهم في الحياة؟ ثم ما هي المبرّرات الأخلاقية لفعل القتل؟ وكيف لشعوب تقدّس الحقّ في الحياة، أن تُسهم في وصول سلطة وتمنحها الشرعية السياسية والقانونية التي تخوّلها ممارسة القتل؟

يكشف الواقع الحالي والتاريخ القريب لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، إن فعل القتل إنما تمّ ولا يزال يتمّ باستسهال مُطلِق. هكذا يمكن العثور بشكلٍ شبه يومي على أخبار عن مقتل مدنيين "عن طريق الخطأ"، في كلٍ من الدول التي أعلنت الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001، حربها ضد الإرهاب فيها أو حربها عليها. ففي العراق، أُبيدت الشهر الماضي عائلة زيدان العراقية المكوّنة من 36 مدنياً بأكلمها في قصفٍ مخزن لتنظيم داعش في منطقة اليابسات السكنية في الموصل، من بينهم 17 امرأة و11 طفلاً.

هذه المجزرة جاءت قبل إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قبل نحو شهر الموافقة على توجيه الضربات الجويّة ضدّ أهداف داعش في العراق وسوريا، حتى لو أدّت إلى سقوط الضحايا من المدنيين ومن دون الرجوع إلى القيادة العسكرية، إذا ما تبين أن هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.

وهذا يعني أن ما حصل مع عائلة زيدان في الموصل، سيحصل مع غيرها، لكنّه مدّعم بغطاء قانوني يبرّر فعل القتل تحت مُسمّى "أضرار جانبية". لماذا؟

ليس من الإجحاف القول إن لهذا النوع من القتل اليومي بالشكل الآنف الذكر سيرورته. ذلك أن هذا الشكل من القتل لم يكن إبن وقته. فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن لفعل القتل الذي مُورِسَ بحقّ العرب والمسلمين، من الانتداب وصولاً إلى الحرب على الإرهاب، له جذوره الفكريّة والفلسفيّة. ليست الغاية من هذا الكلام محاولة إيجاد تقابل بين جلاّد وضحية. ذلك أن لكل مجتمع من المجتمعات منهما نصيب، وما عدا ذلك فهو ضرب من المثالية فارغ. لكن الثابت إلى الآن أن فعل القتل المُمارس ضدّ العرب وغيرهم، إنما خضع لتبريرات تجد أسسها في الثقافة.

تتحمّل الثقافة وِزرَ أكبر قدر من الفظاعات المُرتكبة في تاريخ البشرية. إنطلاقاً من هذه المُسلّمة انطوت الثقافة الأوروبية على كمّ من الأحكام المُسبَقة، التي أجازت عبر تاريخ طويل قتل "الغريب المتخلّف". الحداثة الغربية رسّخت عبر مسيرتها إزدواجية المعايير الأخلاقية تجاه فعل القتل. فقد ثبّتت الحكم الديني والثقافي والاخلاقي على أديان وشعوب في افتعال مقارنة مضطربة وظالمة، ومن بينها المقارنة بين المسيحية والإسلام، ثم القول بقدرة الأولى المتحقّقة في التقدّم والتطوّر، ولعب الثاني دور إقعاد أتباعه والعالم عن سلك دروب التّحديث.

تشهد كتابات بعض المستشرقين[2] طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على توكيد تلك النظرة المُسبَقة التي حملت ثقافة الحداثة الغربية على الاعتداد بما يكفي بقيمها، لرمي الآخر المُسلِم بصفة التخلّف، الذي تأسّس على الربط بين تديّنه بالإسلام وبين "تخلّفه وتوحّشه"، ثم انسحب لاحقاً ليطال جغرافيا تشمل مسيحيين أيضاً (أفريقيا وأوروبا الشرقية)، حيث أُرسيت مقولة عالمي الشمال والجنوب بشكل إطلاقي وصلف.

يمكن القول إن السياسة الأميركية ومنذ أكثر من عقد، هي الإبن الشرعي للتاريخ الأوروبي الذي سبقها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بعقود. فازدواجية المعايير الأخلاقية هي نفسها التي ظلّ مسرحها عالم "الأغراب"، حيث القتل مُباح غالباً بحجة دفع الخصم إلى "التحضّر والمدنيّة".
ليس من الصعب على أي دارس لتاريخ المنطقة العربية أن يعثر على سُحُب الدّم المُتتالية. بإمكان هذا الدارس أن يُلصِق صورتين للمكان نفسه وفي زمنين مختلفين، ثم يتأملهما من دون أن يجد أدنى فرق بين ممارسات الانتداب وبين السياسة الأميركية منذ العام 2003، سوى أن الصورة الأولى لم تتمكّن من إظهار أحمر الدّم على هيئته الحقيقيّة.

وفي هذا السِياق بإمكاننا أن نستشهد بتقريرٍ صدر العام الماضي عن جمعية أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية "بي إس آر"، والتي توصّلت فيه إلى أن عدد القتلى نتيجة عشر سنوات من "الحرب على الإرهاب"، أي منذ هَجَمَات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قد "وصلت على الأقل إلى 1.3 مليون، وقد تصل إلى مليونين".
هذه الحرب التي بدأت باجتياح أفغانستان ثم العراق بعناوين فضفاضة تمتاز بها العقليّة الأميركية ومنها "الحرب العادلة"، رفدت حينها برسالة موقّعة من مجموعة كبيرة من المثقفين الأميركيين، الذين سعوا إلى إيجاد ما يكفي من مسوّغات فكرية وأخلاقية لتلك الحرب، بالرغم من اعترافهم الضمني بمشاعر الحقد الذي يكنّه المسلمون للولايات المتحدة رداً على سياستها.
 
في معرض نقاشه لهذه الرسالة يرى المفكّر الفرنسي جان بودريار أن أي قارىء لها "يُدرك المكانة الرمزية العالية التي ينبغي أن يحتلّها الوازِع الاخلاقي في صنع السياسات، لكنّه هو أيضاً، وهم يتميّز به الأميركيون"، ويتابع أن هذا الوهم هو الذي يجعل الأميركيين "يقيمون في اليوتوبيا[3] المتحقّقة" التي تنبني على "بلوغ قدر موصوف من القوّة المُطلقة العسكرية والاقتصادية والسياسية"، ليوضح تلك الازدواجية في المعايير الأخلاقية فيقول "تصبح الفضائل الشمولية مبادىء لا ينطبق اعتبارها إلا في الحاضرة الامبراطورية ... على غِرار التجارب اليونانية والرومانية والبريطانية ... فما ينطبق على المواطنين من أهلها لا ينطبق على الخارج البربري، وكل ما ليس هي، هو بربري تعريفاً. وعلى الخارج البربري أن يكتفي بسبيلين للتدخّل: عسكري ماحِق، و"إنساني" خيري"[4].

لم تفعل تلك الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
___________________
"الإسلام هو الحلّ"
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.
في الجزء الأول من هذه القراءة، ناقشنا الخلفية الثقافية التي أسست لفعل القتل الذي مورس بحق العرب والمسلمين، لأكثر من قرنين. الأمر الذي جعل من الحروب المتتالية على المنطقة، تدفع نحو تعميق الشعور الإسلامي بالظلم المقيم أمام القوة الغربية. غير أن هذا الشعور ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، متخذاً بعداً تراجيدياً مع انهيار الخلافة الإسلامية التي شكلت لقرون عنوان القوة الإسلامية الماحقة.
في الجزء الثاني من هذه القراءة، سنقوم بتسليط الضوء على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، ثم صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة جديدة جامعة هي القومية العربية. قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية العربية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها.
من الخِلافة إلى القومية العربية ... "الإسلام هو الحلّ"
 
استطاعت كتابات أغلب المستشرقين أن تؤسّس للسيرورة التاريخية للاستعمار. وإذا كانت الغاية غير المُعلن عنها حينها هي الهيمنة الاقتصادية، فإن الغرب خاطب شعوبه باللّغة التي يفهمها، لتكون مسوّغاً منطقياً لوجود جنوده في أراضٍ غريبة. أي تلك اللغة التي احتكمت إلى قِيَم الحَدَاثة الأوروبية، حيث "الرقّي" مقابل "التوحّش"، و"التقدّم" و"العلم" مقابل "التخلّف" و"الغيبيات". لغة جعلت الاستعمار واجباً "إنسانياً"، لتحضير هؤلاء "الأغراب" غير المؤهّلين لحكم أنفسهم وربطهم بالحَدَاثة، ولو استلزم هذا الربط قتل ما يكفي من المعارضين.


قد لا يختلف واحدنا بأنه كان للاستعمار وجه إيجابي، حيث مثّلت تواريخ مُعيّنة ممهّدة له، صدمة دفعت ببعض العرب[1] ومنهم مسلمين كباراً إلى محاولة تلقّف منجزات الحَدَاثة الغربية، لكن انطلاقاً من مقولة إن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث السياسي والاقتصادي وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية والثقافية (الإمام محمّد عبده [2]، رفاعة الطهطاوي وغيرهما).


لكن بالرغم مما حقّقه الاستعمار من صدمة إيجابية في بعض النواحي، إلا أن ثقله كان لا يزال رابضاً فوق صدور شعوب المنطقة العربية التي ينتمي جلّها إلى الإسلام. حيث مثّل الاستعمار بالنسبة إلى شرائح واسعة، الحقيقة القاطعة بانهيار آخر فصول التاريخ الإسلامي مع إرث المسلمين الطويل مع الخلافة.

كان لهذا الواقع أثر الصدمة على الكثيرين. وظل الوعي العام منقسماً بين ثلاثة أجنحة، جناح يسعى إلى استعادة الخلافة، وجناح يروم الغاية نفسها ولكن بشروط سياسية واجتماعية جديدة، أي دولة إسلامية ببنى حديثة، وهو ما عبّرت عنه حركة الإخوان المسلمين، وبين طرف ثالث قال بضرورة تكوين دول وطنية على قاعدة قوميّة جاءت في الأساس رداً على سياسة التتريك التي فرضت على المسلمين والمسيحيين الالتحاق بتركيا بوصفهم رعايا أتراكاً.

لكن الغَلَبَة وقتها كانت للحركة القومية العربية، التي حاولت أن تقدّم نفسها بوصفها بديلاً، يحاول المواءمة بين الإسلام والعروبة، لكنه مفتوح بالدرجة الأولى على استيعاب التنوّع الديني والإثني (المسيحي خصوصاً)، وهذا كان يستلزم شكلاً جديداً من أنماط الدول التي لم يكن للعرب بها عهد من قبل. هكذا عبّدت القومية العربية الطريق أمام صعود أنظمة "علمانية" حاولت أن تستنسخ في جلّها العلمانية الفرنسية، التي تمتلك هي الأخرى خصوصيتها في أوروبا (كما هي الحال في تونس إبّان حكم بو رقِيبة وصولاً إلى بن علي).

 
وعلى الرغم من التقاطع بين الإسلام وبين القومية العربية في العديد من المُشتَركات التي يجسّدها الإسلام الثقافي وأولها اللغة، لم تتمكّن القومية العربية من أن تحصّل للمسلمين ما ضاع منهم. فهي لم تستطع، أن تثبت لهم عن مقدرتها في أن تكون بديلاً نهائياً من الخلافة، كما لم تستطع أيضاً استعادة ما خسره المسلمون في بداية عمر دولهم القُطرية، أي فلسطين.

فالبديل عن الخلافة الإسلامية وقتها كان يعني فعلياً، تنامي الحضور السياسي والثقافي والاجتماعي للتيّارات اليسارية والاشتراكية في عالم مستقطب بين قوتين، ظلتا توسمان إسلامياً بأنهما شيوعية "مُلحدة"، وليبرالية "صليبية" لاحقاً. لقد نمت هذه التيّارات في مقابل ضمور حركات الإسلام السياسي تحت وطأة التعاطي الرسمي الأمني والعسكري (من اعتقال قياداتها وتعذيبهم وقتلهم وإقصائهم عن الحياة السياسية)، وبسبب التحاق الأنظمة العربية وأحزابها الواحدة، وإلحاق شعوبها "المسلمة" بهذا القطب أو ذاك.

ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 1967، حيث هزيمة العرب أمام إسرائيل، (أو ما اصطلح على تسميته نكسة هروباً من الواقع آنذاك وتلاعباً بالوعي)، ليخسر العرب أجزاء أخرى من أراضيهم.
 
لقد كان من شأن هذه الهزيمة أن تشكّل امتحاناً قاسياً للقومية، حيث أعادت إحياء النقاش الواسع وتحديداً داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول أسبابها، وذلك بالتضافر مع أزمات إقتصادية وسياسية كبرى، خَلُص فيها النقاش إلى أن الخسائر المتكرّرة للشعوب العربية "المُسلِمة" إنما جاءت بسبب ابتعادها عن دينها، ليعلو بعدها شعار "الإسلام هو الحل"، والذي اتّخذ منذ ثمانينات القرن الماضي شكل وصفة خلاصية لكل ما يتخبّط به العرب من أزمات.

 
ولذلك فإن ما يُسمّى "الإسلام الأصولي الجهادي" الذي نشهد معاركه اليوم، لم يكن ابن ساعته. فقد سبقه ما يكفي من وقت لتبلور "الاجتهادات" الخاصّة داخل الجسم الواحد، الذي اجتمعت أطرافه الموسومة بالاعتدال على ثلاثة مشتركات:

أولاً: تحميل الأنظمة العربية مسؤولية "تغريب" المسلمين ودفعهم إلى أحضان الشيوعية "المُلحِدة"، وما استتبعه من تكفير زعامات عربية ومنها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ورميه بالكفر وبالتالي إهدار دمه.

ثانياً: ربط هزائم العرب وتفاقم أزماتهم مجتمعة بالعقاب الإلهي بسبب ارتمائهم في أحضان الشيوعية، والدعوة إلى طلب الرحمة لرفع هذا العقاب عبر العمل السريع لإعادة المجتمعات العربية إلى "إسلامها"، والذي لن يتم إلا بوجود دول رؤساؤها "مؤمنون" يفتحون المجالين الاجتماعي والسياسي للتيّارات والحركات الإسلامية لأن تعمل بحرية تامّة.

ثالثاً: التسليم بضرورة وجود قوّة تتزعّم المسلمين لتكون بديلاً موضوعياً من الخلافة المُنهارة، وهو ما أخذته المملكة العربية السعودية وإيران على عاتقيهما، كل في زمنه ووفق منطقه ورؤيته، من خلال تقديمهما الدعم المالي والفكري والسياسي لكل حركات الإسلام السياسي.

لقد تبلورت "الاجتهادات" المذكورة أعلاه، في وقت وفّرت دول عربية وعلى رأسها مصر للحركات الإسلامية، هامشاً واسعاً من حرية التحرّك والتحشيد والأدلَجَة، قبل دخول المنطقة في عصر التحوّلات السياسية الكبرى، التي أعاقت قدرة بعض الأنظمة العربية على ضبط هذه الحركات. والمقصود هنا، معاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي عنت لحركات الإسلام السياسي والمتعاطفين معها، وغير المتعاطفين داخل مصر وخارجها، دليلاً إضافياً على "غياب" الجدوى من الرابطة القوميّة.

لعل ما يذكره الكاتب المصري بلال فضل[3] في هذا الشأن، يُعيد التدليل على النتائج الكارثية لسياسة البطش التي مارستها بعض الأنظمة العربية، وبالأخص مصر الساداتية، من خلال الركون إلى تحالف واسع مع الحركات الإسلامية بغية ضرب الخصوم والتخلّص منهم، قبل إعلان الحرب الضروس على الحليف الجديد لاحقاً وتحوّل الرئيس "المؤمن" إلى آخر "كافر". والحديث عن مصر هنا، إنما يكتسب حيثيّته التاريخية والثقافية، استناداً إلى ما مثُلته مصر لعقود بالنسبة إلى العرب والمسلمين، من حاضنة للقومية العربية ورافع لرايتها.

لقد مثّل كامب ديفيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إعلاناً صريحاً عن تغيّر تاريخ المسار السياسي بين العرب وإسرائيل، حيث الانتقال من المواجهة ولغة التحرير إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع. بعد هذا التاريخ الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور الراعي للاحتلال الإسرائيلي في سياسته الاستيطانية وحاميته من المُساءلة الدولية على جرائمه، ظلّ ينظر إليها بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي". وإذا كانت السياسة الإسرائيلية، في بعض وجوهها، "قابلة" للهضم أوروبياً إنطلاقاً من أزمة الديمقراطية الأوروبية نفسها[4]، فإنها أميركياً كانت على درجة كبيرة من الصَلاَفَة.
 
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.

يمكن القول إن هذا الواقع وقتها، أطلق العنان لتعود البُنية الفوقية عند غالبية التيّارات "الجهادية" الإسلامية إلى السَيَلان من جديد. والمقصود هنا، جملة الأفكار الثابتة التي أرستها القراءة الأحادية للقرآن والسيرة والتاريخ، فأسّست لنظرة واحدة إلى المسيحي باعتباره "صليبياً" (وما تفعله إسرائيل يغذّي هذه النظرة يومياً)، على حساب دفن البنية التحتية التي كانت تعني قبل الدخول الأميركي إلى الكويت، إمكانية عقد الصلات مع واشنطن "الصليبية" على قاعدة وحدة المصالح ضد العدوّ المشترك، أي الشيوعية. وعنى أيضاً، تكفيراً لأنظمة وسلطات وشعوب حمل بعضها مسؤولية الدخول الأميركي إلى المنطقة (العراق)، فيما حمل البعض الآخر ثمن القبول بهذا التواجد في أرض الحرمين (السعودية ودول الخليج عموماً)، بعدما كان بعضها، وأولها العربية السعودية، يُطلق على ملكها "أمير المسلمين".
 ________________
هوامش 


هوامش:

[1]  بودريار جان – دريدا جاك – فوليامي اد – ايكو أمبرتو، ذهنية الإرهاب، ص 101، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2003.


[2] يقول المستشرق الفرنسي د. كيمون: إن "الإسلام يعمل على الدماغ البشري مثل السم فيخدّر أجزاء المخّ بسرعة مُذهلة، ما يؤدّي إلى زجّ الآليّة الطبيعيّة في حال من الفوضى، تجعل المُسلِم يتحوّل إلى نوع معُين من وحوش البريّة. المسلمون بشكل ٍعام لا يمكن دراستهم إلا بوصفهم فئة من الوحوش الشرسة. مثل الحيوانات البريّة والزواحف والقوارض في شكل إنسان"، ويقول في موضعٍ آخر رابطاً بين التخلّف وبين الدين الإسلامي: " المسلم ليس لديه القدرة على التفكير لنفسه، لصياغة شخصيته، لعقد الرأي، أو الذوق الفردي، إلى تفضيل رائحة واحدة على أخرى. (...).لاتوجد عند المُسلِم روح الإبداع ولا حتى المحافظة بالمعنى المسيحي. كما أنه لا يصدر عنه أدنى إشارة من أي شعور بالمودّة أو بالحبّ بالمعنى الأفلاطوني.  كل ما يفهمه ويقوم به هو ما يُمليه عليه القرآن للقيام به. فهو ملتزم بالقرآن وهذا القرآن هو الذي يوجّهه. ونتيجة لذلك، قد يتم تمثيل جميع المسلمين بوصفهم آلة كهربائية كبيرة نسبياً تتصرّف بأمرٍ من قِبَل مركز كهربائي أكبر هو الإسلام".

The Genocidal Islamophobia of a Late Nineteenth-Century French Anti-Semite: D. Kimon and The Pathology of Islam (p:9-11)

[3]  تعرف اليوتوبيا بأنها عكس الأيديولوجيا. فالأولى تشمل أفكاراً تسعى إلى تجاوز الواقع وتغييره بشكلٍ جذري، لكنها تفتقر إلى المقوّمات التي توصل إلى هذا التغيير، ولذلك توصَف بأنها مثالية، على العكس من الأيديولوجيا التي تعمل على تزييف الواقع بغية تكريسه.

[4]  بودريار جان، ذهنية الإرهاب، ص 139، مصدر سابق.
 
[5] الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) وما أعقبها من توجّه تحديثي شرع به محمّد علي باشا ثم إبنه إبراهيم باشا.

[6] حول هذه المسائل يمكن مراجعة كتاب "الإسلام بين العلم والمدنيّة" للإمام محمّد عبده.

[7] يقول بلال فضل في واحد من سلسلة تحقيقات تحت عنوان (السادات وما أدراك ما السادات) إن "تحالف السادات مع "الإخوان" كان قد تمّ بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقّف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيّارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السريّة والمسلّحة، والتي كان النظام يظنّ أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمّد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سريّة وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلّت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المُعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري".

[8] يرى الفرنسي جاك رانسيير أن "الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية" هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط والحل السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويُطلق هذا التوصيف على عملية السلام لأنه يعني في نهاية المطاف "دمار إسرائيل". فالديمقراطيات الأوروبية إنما "طرحت سلامها لحل المشكلة الإسرائيلية. لكن السلام الديمقراطي الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة اليهود"، فالبناء الديمقراطي الأوروبي أصبح برأي رانسيير ممكناً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لسبب وحيد هو أن "الأرض الأوروبية وبنجاح الإبادة النازيّة، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها، وهو اليهود". رانسيير جاك، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، دار التنوير، 2012، ص 19 -20.
______________

* كاتب ومحرر في موقع الميادين منذ العام 2012. عمل خلال الأعوام 2007 - 2012 في صحيفتي السفير والأخبار اللبنانيتين، ويكتب منذ 2013 مقالات دورية حول الميديا والنيو ميديا في جريدة المدن الإلكترونية.

الجمعة، 20 مايو 2016

حركة النهضة تراجع منهجها: حكم الدولة بلا عباءة «الإخوان»

    مايو 20, 2016   No comments

محمود مروة
تنطلق في تونس، اليوم، أعمال المؤتمر العاشر لـ «حركة النهضة»، وهو «استثنائي» إذ سيجري خلاله «الفصل بين الجانب الدعوي (بصفتها حركة إسلامية) والعمل السياسي»، وهو يشمل «نوعا من المصارحة التاريخية... إذ المطلوب أن نكون عند مستوى انتظارات مجتمعنا، والعمل على كسب ثقة الرأي العام والدولة للتأهل لتسييرها»، كما يلخص أحد قادتها في حوار أخير

كان يُحكى في تونس، من باب التندر، أنّه حين وصل رجل (تنظيم) «النهضة» القوي في زمن زين العابدين بن علي، علي العريّض، إلى باب وزارة الداخلية لاستلام مهماتها نهاية عام 2011، كاد أن يُخطئ وجهته فيدخل من باب غرف التحقيقات بدل الصعود إلى الأعلى، حيث مكتب سلفه، الوزير الحبيب الصيد.

وزارة الداخلية نفسها (أداة قمع النظام الأمني السابق)، تناولها رئيس «النهضة»، راشد الغنوشي، قبل أقل من عامين، حين وقف أمام مناصريه في وسط العاصمة (في شارع الحبيب بورقيبة حيث مقر الداخلية) ليقدّم مرشحي حركته في استحقاق الانتخابات التشريعية المحتدمة آنذاك، فتساءل، من باب المزاح ربما: أخلفنا الوزارة أو أمامنا؟
لا بد أن يطول سرد رمزيات كثيرة مشبعة بالدلالات، تخللت دخول «النهضة» إلى السلطة في تونس منذ 2011، قبل أن تتحول راهناً إلى القوة الأولى برلمانياً عقب تفكك كتلة خصمها «نداء تونس»، فتظهر بمظهر المتعفف عن استلام الحكومة، والراضي بأطر خريطة القوى السياسية الناتجة عن انتخابات 2014، دون فرض أي تعديل عليها. لكن، هل يمثّل المؤتمر الحالي، بما يحمله من معان ودلالات، لحظة دخول الحركة الفعلي في الدولة ومرحلة تكريس الموقع؟

الإسلام الحركي: مفاهيم جديدة

يحتل الحديث عن «الفصل بين الدعوي والسياسي» (أو التخصص في العمل السياسي، وفق العبارة التي يفضلها راشد الغنوشي) مساحة كبيرة ضمن الإعلام المحلي والعربي، ويُقدّم الأمر كما لو أنّ ما سينتج من المؤتمر سيمثّل قفزة كبرى تقوم بها «حركة النهضة» في مسار تطورها. ويدفع هذا الأمر إلى طرح عدد من الأسئلة، من بينها: كيف يمكن لحركة إسلامية نشأت في سبعينيات القرن الماضي مرفودة بالفكر «الإخواني» (وانتهج قادة منها العنف في بعض المراحل) أن تشهد تغيراً مماثلاً؟ هل سيعني ذلك خروجها على عالم «الإسلام الحركي»؟ وخصوصاً أن بعض قادتها يذهبون أبعد من ذلك، ليتحدثوا حتى عن أن التطور الحالي «سيشمل مسألة الانخراطات، بمعنى أن الدين لن يكون شرطاً للإنخراط في النهضة، وأنّه بإمكان أي شخص مهما كانت ديانته الإنخراط شريطة الموافقة على برنامج الحركة».
في حوار صحافي أخير، يجيب الغنوشي بصورة أو بأخرى عن السؤالين، فيقول: «نحن بدأنا نواة تختزن المشروع الإسلامي... والحركة الإسلامية في بلادنا وفي غيرها، كانت ردا على مشروعات شمولية أخرى... والإسلامية كانت أيضا من هذه الزاوية مشروعا شموليا. الآن لم يعد هناك مبرر... ولم يبق مبرر لرد شمولي بعدما فتحت الحرية مجالات العمل السياسي... بل الدستور نفسه لم يعد يسمح بهذه المشاريع الشمولية».
وبما أنّ تغيرّا مفترضا كهذا (لا تبدلاً) قد يؤثّر بشكل كبير على مجمل الحراك الإسلامي في العالم العربي، فإنّ أستاذ علم الاجتماع ومدير مخبر علم الاجتماع الديني في جامعة الجزائر، عروس الزبير، يجيب ضاحكاً عند طرح السؤالين عليه: «أنا مدعو للمشاركة في افتتاح المؤتمر، وسأذهب إلى تونس للحصول على إجابة، لأنّ الحدث مهم». ويبدي الزبير اعتقاده بأنّ هذا «التحوّل ليس مفاجئاً على صعيد النهضة، إنما جاء بعد مراحل من التجربة»، مشيراً إلى أنّ ما بعد عام 2011 جعل قادة الحركة يدركون أنه «لا مجال للربط بين الانتماء الديني وممارسة السياسة». ويذكّر الأستاذ الجامعي الجزائري بواقع أنّ «النهضة» نشأت بطبيعتها كحركة «نخبة» وأنها «نشأت في مناخ ثقافي يختلف عن المناخ الذي تأسست فيه حركة الإخوان المسلمين في مصر»، مضيفاً في سياق الحديث أنّ ما تمرّ به المنطقة العربية راهناً في ظل صعود حركات التطرف يدفع الحركات الإسلامية أكثر نحو التغيير والتأقلم، وربما نحو تكريس ما يمكن تسميته تجاوزاً: مرحلة الأحزاب الإسلامية اللائكية (العلمانية).

البراغماتية... وواقع «التسلّف»

أثناء السير باتجاه «وسط البلاد»، يقدّم أحد الباحثين الشباب (الصاعدين) نصيحة: «اسأل عبدالفتاح مورو حين ستلتقيه ثانية عن مغزى حديثهم بشأن الفصل بين الدعوي والسياسي... هل ما زال النهضويون ملتزمين أصلاً الجانب الدعوي؟... أليس من الأدعى العبور مثلاً إلى الحديث عن التحدي السلفي الذي يأكل بعضاً من قاعدة الحركة؟».
لم يتم اللقاء مع مورو بسبب «الانشغال في محكمة التعقيب (التمييز)»، إذ هو الشيخ (نائب رئيس الحركة ونائب رئيس البرلمان) المواظب حتى يومنا على ممارسة مهنته. وهو الشخص، البسيط، الذي قد يبقى فكرك لساعات عالقاً في مكتبه الكائن عند مشارف «المدينة العربي» في باب بحر، في مبنى يظهر أن تاريخ بنائه يعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي، وحيث يحيلك كل شيء، من لباس الشيخ التقليدي مروراً بجليسه (الكاتب المساعد) فالمكتبة واللوحات، إلى «تونس الثلاثينيات»، كما تقول مرافقتك خلال لقاء التعارف الأول.

عقل النهضة سياسي،
والأمر يتجاوزها ليشمل كل الحركات الإخوانية


لكن، من باب البحث عن إجابة، فلا بدّ أن يُقرأ إعلان الحركة عن فصل السياسي والدعوي في إطار «مسار عام شهد تحولها من حركة احتجاجية إلى حركة مارست السلطة وطرحت على نفسها ممارسة الحكم بعد سقوط بن علي في إطار ديمقراطي»، يقول الباحث التونسي، حمزة المؤدب.
يشرح المؤدب أنّ العملية الديموقراطية كانت مهمة «لناحية أنها وضعت أدبيات النهضة السياسية والفكرية... على المحك، بمعنى أنّ تطبيع وضع النهضة وإدماجها في النظام السياسي الوليد (كان) رهين تقديمها تنازلات، وشاهدنا هذا من خلال المعارك التي عرفتها مختلف مراحل كتابة الدستور، سواء أكانت مسألة التنصيص على الشريعة، أو قضية المساواة، أو التكامل بين الرجل والمرأة، أو حرية الضمير، الخ..».
ويرى الأكاديمي التونسي أنّ «النهضة قدمت تنازلات لأن عقلها بالأساس هو عقل سياسي بامتياز، بمعنى أنه عقل براغماتي يمارس السياسة بحساباتها ومناوراتها وتنازلاتها»، مشدداً في الوقت نفسه على أن «من المهم الانتباه إلى أن كل الوجوه البارزة في النهضة هي وجوه سياسية ولا تملك أنشطة دعوية. حتى إنّ الصادق شورو، والحبيب اللوز، أي الوجهين المعبرين عن تيار متشدد داخلها، جرت إزاحتهما تدريجيا من المشهد، ومن القوائم الانتخابية في 2014. وعبد الفتاح مورو (أيضاً) لم يعد يخطب في المساجد».
ويكمل المؤدب شرحه قائلاً: «إنّ فصل الدعوي جرى عمليا منذ مدة لسبب مهم آخر، يتجاوز النهضة ليشمل كل الحركات الإخوانية. فالواقع أن هذه الحركات لم تعد تنتج خطاباً دينيا يلقى اهتماما لدى الشباب، ولم تعد تحتكر أيضا المجال الديني، إذ دخلت في منافسة مع التيارات السلفية التي نجحت في استقطاب الشباب وفي بناء خطاب متناسق مع تطلعات الطبقات الشعبية والصاعدة. وصل الأمر في مصر إلى حد تكلم فيه الراحل، حسام تمام، عن تسلّف الإخوان، بمعنى أن القيادة إخوانية، لكنّ القواعد صارت تميل أكثر فأكثر إلى الخطاب السلفي. وفي حالة النهضة، فإنّ الحركة غائبة عن النشاط الدعوي، فهي لا تنتج شيئا في هذا الخصوص: لا خطابا دينيا ولا كتابات (ماعدا كتابات الغنوشي التي تعد نخبوية وتستهدف جمهورا مثقفا ومطلعا، لا شبابا يبحث عن تكوين ديني)، ولا أنشطة دينية شعبية خاصة، وأن الدستور أغلق أمامها باب المساجد».
في المحصلة، يرى حمزة المؤدب أن الفصل المشار إليه هو «تكريس لمسار سياسي، لكنه أيضا تكريس لأمر واقع يتمثل في غياب النهضة وتراجع تأثير التيارات الاخوانية على الساحة الدينية ليس في تونس فقط بل أيضا حتى في مصر وغيرها من الدول العربية»، لافتاً إلى أنّ «هناك رفضا من جانب جزء كبير من قواعد الحركة لهذا التوجه، ولذلك (سيشار إلى) أن الحزب ذو مرجعية إسلامية... أي التمسك بالمرجعية الإسلامية كنوع من التسوية بين مختلف تيارات الحركة. وضمنياً، هناك إقرار بأن المهم هو أصوات الناس في الانتخابات، لا ضمائرهم».

تمايز نهائي عن «الإخوان»؟

في حوار مع جريدة «لوموند» الفرنسية، كرر راشد الغنوشي، أمس، ما معناه أنّ «الإسلام السياسي» فقد الظرف الذي وُلد خلاله، وخاصة أنّ التطرف بات أكبر تهديد يواجه وجود الحركات الإسلامية نفسها.
يُضاف إلى ما يشير إليه الغنوشي (الذي يصنّفه بعض الباحثين ضمن الجيل الخامس لمفكري الحركات الإسلاميية في القرن الماضي)، أنّ حركته كانت تصرّ خلال الفترة الماضية على تمييز نفسها عن «جماعة الإخوان المسلمين»، وخصوصاً ما يُسمى «التنظيم الأم»، أي الجماعة في مصر. لا يعيب معظم المنتمين إلى «الإخوان» ذلك على راشد الغنوشي وعلى حركته، بل يشبّه بعضهم الواقع بأنه يأتي في سياق «اتباع سياسات غير مُحرجة، في ظل الحرب الإقليمية التي تواجهها الجماعة، في مصر خاصة».
أحد الباحثين الناشطين البارزين ضمن «جماعة الإخوان» المصرية يشرح أنّ «النهضة متمايزة فعلاً بخلفيتها الفكرية، لكن منذ انطلاق الربيع العربي، جرى اتهامها، كما كل الأطراف الإخوانية إقليمياً، بأنها تتبع لطرف خارجي، على اعتبار أنها تنتمي إلى التنظيم العالمي للإخوان، الذي ليس حقيقة سوى إطار تنسيقي وتشاوري بين مختلف الأقطاب، وبالتالي فإنّ قرار كل طرف مستقل». ويرفض الباحث مقولة أنّ «النهضة تترك الإخوان وحدهم»، ويضع ما يجري ضمن قرار يقضي بعدم الارتماء في «الحرب الإقليمية ضد كل الإسلاميين (المنضوين تحت عباءة الإخوان)... وتأكيداً على ذلك، فحتى حركة حماس تقول اليوم إنّه ليس لها علاقة بالإخوان!».
قد يغيّب الحديث أعلاه «ما كان يُحكى عن مشروع الإخوان منذ 2011 بقيادة تركيا وقطر»، يعلّق أحد السياسيين العرب. الأمر الذي يدفع أيضاً بمفكر تونسي بارز إلى رفض الحديث في موضوع «النهضة»، على اعتبار أنّ «تبدّل ظروف السياسة الإقليمية سيكون جديراً بإعادة الحركة والإسلاميين جميعاً إلى حيث كانوا»... لكنه حديث، وإن صحّ، فإنه يهمّش دراسة ديناميّات التحوّل التي شهدتها الحركة خلال الفترة الماضية، باعتبارها طرفاً سياسياً.

مؤتمر «للمصالحة» أيضاً

رأي آخر تتداوله أوساط بحثية في تونس بخصوص مؤتمر «حركة النهضة»، إذ تبدي باحثة اعتقادها بأنّه لن يكون مؤتمر «الفصل بين الدعوي والسياسي، إذ جرى الفصل عمليا بينهما». وتضيف: «هو مؤتمر لتكريس خيار المصالحة الشاملة (مع عهد النظام السابق)، إذ ستستفيد النهضة من جهتين: العفو والتعويض، والمصالحة مع رجالات النظام السابق ورجال أعمال كبار، ما يسهّل عليها الدخول في مرحلة سياسية جديدة، تسمح لها بتركيز موقعها ضمن المجتمع السياسي والدولة».
وتصب أدلة كثيرة في هذه الاتجاه، إن لناحية الخلافات التي ظهرت أخيراً ضمن «شورى النهضة» عقب طرح «المصالحة»، أو لناحية تصريحات الغنوشي نفسه عن «المصالحة الشاملة»، التي بررها مستشاره، لطفي زيتون (الصورة)، قبل أيام، قائلاً: «إنّ مبادرة (الغنوشي) من شأنها إزالة التوتر بين القديم الذي لا يمكن إلغاؤه، والجديد الذي أتت به الثورة».
 
_________
 «الأخبار»

الجمعة، 9 يناير 2015

كفى شماتة، الإرهاب في نفوسنا, لا بد من نهضة عربية إسلامية تصحح خلل الداخل قبل النظر الى الخارج

    يناير 09, 2015   No comments
سامي كليب
يكفي أن يلقي المرء نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا ذات الغالبية العربية الإسلامية بعد العمليات الإرهابية التي ضربت في اليومين الماضيين فرنسا، ليكتشف كم في نفوسنا من العنصرية والحقد اللذين يشجعان ضمناً الإرهاب ويهللان له.
لو أحصينا عبارة «طابخ السم آكله» كم مرة ترددت في الساعات الماضية، لفهمنا أن الأمراض الدفينة في مجتمعاتنا وفي عروبتنا وفي إسلامنا تشكل اليوم جسراً صلباً يعبر فوقه الإرهاب في كل اتجاه. لا بد من نهضة عربية إسلامية تصحح خلل الداخل قبل النظر الى الخارج، لأن هشاشة الداخل هي التي شرَّعت النوافذ والأبواب لكل غاز وطامع وطامح وسارق.

نعم في الممارسة الإسلامية خلل كبير. لنعترف بذلك. ثمة جمود فكري لم يتطور منذ قرون. وفي الممارسة عجز عن اللحاق بالتقدم العلمي والاجتماعي في الغرب، فلا نجد سبيلاً إلا في تحطيم هذا التقدم لكي نبقى والغرب على المستوى نفسه. نجره الى الأسفل طالما لم نرتق الى مرتبته.
نعم في العروبة خلل فاضح. لنعترف بذلك. تحولت العروبة الى مطيّة لديكتاتوريات وأنظمة تسلط أمني. قعمت الحرية والفكر وألغت العرقيات، فانتفضت العرقيات عند أول مفترق طرق. قتلنا عروبتنا لكثرة ما هللنا لها ونحن ننحرها.
نعم في اليسار العربي انتهازية مقيتة انهارت بمجرد تفكك الراعي السوفياتي، وانهارت أكثر حين عبرت ثروات طائلة الحدود كما حصل مثلاً حين نجح الرئيس الشهيد رفيق الحريري في جذب معظم أقطاب اليسار اللبناني. تبيّن أن الشيوعية أو الاشتراكية مجرد تقطيع للوقت بانتظار الثروة، وحين يحضر المال تموت المبادئ على قارعات الطرق. ليس مهماً أن تكون شيوعياً وأنت فقير، الأهم أن تبقى حين تلوح لك الثروة.
لا شك أن من فقد قريباً أو عزيزاً في الحروب المتتالية على بلادنا والتي يتحمل الغرب جزءاً كبيراً من تأجيجها، له الحق في أن يُعبِّر عن بعض الغضب والشماتة. ولا شك أن من نُهبت خيراتُ بلاده من قبل هذا الغرب، يحق له أيضاً بعض الغضب. لكن أن نفرح بموت أبرياء على أيادي إرهابيين يزرعون الرعب والقتل والذبح باسم الدين، فهذه بحد ذاتها مصيبة.
الإرهاب هو الإرهاب. الذين قتلوا في فرنسا في اليومين الماضيين هم أنفسهم من يقتل في العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والصومال وتونس. لنتصالح مع أنفسنا ونعترف بأن المصيبة فينا قبل أن تكون في غيرنا.
إن تربيتنا المذهبية الحاقدة حتى على المذاهب الأخرى هي السبب. وتربيتنا الطائفية المشككة والمحتقرة للطوائف الأخرى هي السبب. وممارسة الدين التي كان يجب أن تحسن أخلاق مجتمعاتنا هي التي أغرقته بالتطرف والمذهبية والحقد والبغضاء.
يقال عن فرنسا اليوم «إن طابخ السم آكله»، ربما في أخطاء السياسة الفرنسية ما يجعل أماً ثكلى أو أباً مفجوعاً أو يتيماً يقول هذا، لكن ألم يُقل الشيء نفسه عن سوريا بتهمة أنها سهلت مرور إرهابيين لمقاتلة الأميركيين في العراق؟ ألم يقل الشيء نفسه عن غزة وهي تموت تحت الدمار والقتل في آخر حرب همجية إسرائيلية ضدها على أساس أن حماس متورطة بحربي مصر وسوريا.
تارة نلوم الغرب أنه انتهك بلادنا فقتل وقسَّم، وتارة نلوم إيران أنها وسعت نفوذها، وثالثة نلوم تركيا أنها تستعيد مجدها العثماني السلجوقي في بلادنا، ورابعة أن روسيا تستفيد من الدم العربي، وخامسة أن قواعد «الأطلسي» ومخالبه في جسدنا.
كل هذا ليس إلا قناعاً لضعفنا وجهلنا وتخلفنا وتقاتلنا وتناحرنا وتآمر بعضنا على بعضه الآخر. لا بد من إعادة صياغة أسس هذا العقل الإسلامي العربي لكي نحفظ الإسلام والعروبة ونحافظ على المسيحيين وكل الطوائف والأعراق والمكونات الأخرى في أوطاننا. لا بد من ثورة حقيقية في الممارسة الإسلامية وفي بعض التأويلات التي تشرع قتل المسلم للمسلم الآخر قبل أن تفكر بعدوّ هذه الأمة.
كفى شماتة لا تعبّر إلا عن جهل وحقد.

ابحث عن مقالات مثل التي قرأت

Advertise Here

المقالات الأكثر قراءة

_____________________________________________________
حقوق التأليف والنشر © مراجعات. جميع الحقوق محفوظة.