الثلاثاء، 14 يناير 2014

حركة النهضة التونسية، ربما تعلمت من أزمات جماعة الإخوان المصرية وحزب العدالة والتنمية التركي، احتضنت الحلول الوسط لتظل ذات أهمية فاعلة في المستقبل

    يناير 14, 2014   No comments

أحمد  سوايعية *
سيحتفل التونسيون يوم 14 يناير بثورتهم التي أشعلت موجة من الاحتجاجات التي اجتاحت معظم أنحاء العالم العربي. بمناسبة الذكرى الثالثة، أهدت جبهة الإنقاض، ممثلة بقادة  الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، الشعب التونسي والجماهير العربية مجموعة من الهدايا النادرة: التداول السلمي على السلطة، دستورا جديدا يحمي حياة وكرامة جميع التونسيين، وخارطة طريق لمستقبل مستقر.

سلمت النهضة، الحزب الذي فاز في أول انتخابات  مابعد الثورة، السلطة لحكومة غير حزبية . وقد يكون هذا القرار الطريق الوحيد الذي يمكن أن يسمح للنهضة بالحفاظ على تفوّقها في الانتخابات المقبلة وتفادي نتائج كارثية مماثلة لتلك التي مرت بها جماعة الإخوان في مصر واحتمال تراجع شعبية  حزب العدالة والتنمية في تركيا. الأهم من ذلك هو أن الإستقالة تعزّز ثقافة النقل السلمي للسلطة--ما قد يجعل تونس بلد رائد في العالم العربي. قبل تنحّيها عن السلطة، تمكّن قادة النهضة –مستعينين بقادة اثنين من الأحزاب السياسية العلمانية--المؤتمر و التوكل-- من تخفيض مستوى العنف في البلاد، وتحقيق بعض الاستقرار  الاقتصادي، وصياغة دستور جديد ، وتحديد مسار لتداول السلطة عن طريق صناديق الإقتراع الحر لا الرصاص القاتل.

مع ذلك, تجدر الإشارة إلى أن النهضة لم تتنازل عن الحكم طوعا. فلقد مرت البلاد بعدة أزمات سياسية، وكثير من الإضرابات والانتفاضات، واغتيال شخصيتان من المعارضة  قبل هذا الإنجاز المهم، الذي قد كان مستحيلا بدون المشاركة النشطة من قبل قادة مؤسسات المجتمع المدني الرئيسية (لا سيما النقابات العمالية والمنظمات غير الحكومية). لقد ساهمت كل هذه الظروف والأطراف في تطوبع حزب النهضة وحلفائه وإجبارهم على تسليم الحكم لهيئة حيادية. بالإضافة إلى ذلك، من الواجب التذكير بالوقت الطويل الذي قضته الترويكا  في صياغة مسودّة الدستور، ركيزة الإنتخابات التي من شأنها دفع البلاد الى ما بعد المرحلة الانتقالية.

مع ذلك، ينبغي الإعتراف بالدور الإيجابي الذي لعبته النهضة واستعدادها لتتعاون مع الجميع للحفاظ على كرامة جميع التونسيين وتكريس معايير العدالة الاجتماعية في الدستور الجديد. على سبيل المثال،  لقد كان ّ قادة الحركة يصرّون على أن يكون الإسلام مصدر التشريع، لكنها مع ذلك قبلت بالتنصيص على الدولة المدنية، وسيادة حكم القانون، وحظر التكفير. فمسودة الدستور الجديد، الذي ساهم قادة النهضة بشكل فعال في صياغته، يحمي صراحة حقوق النساء ويقنن مشاركة المرأة على قدم المساواة في الحياة العامة والسياسية، ويستنكر العنف ضد المرأة.

إضافة إلى ذلك، لقد فضل كبار قادة حزب النهضة النظام البرلماني، لكنهم وقّعوا على دستور يعتمد النظام الرئاسي (منقّحا إلى حد ما): فالرئيس هوالمسؤول عن السلطة التنفيذية العليا، كما أن الشعب (وليس من يفسر بعض النصوص الدينية على هواه) هو من يمارس  السلطة النهائية في تحديد مسار البلاد عبر الإنتخابات  كما يشارك ممثلو الشعب الرئيس مسئوليات الحكم. ويؤكد الدستور الجديد على مبدأ الفصل بين السلطات، ويضع حدا مطلقا لعقد الرئاسة (دورتين فقط)، ويرسّخ الدستور إستقلالية القضاء وتمكين الشعب من فرض إرادته في التعيين (عضوية المحكمة الدستورية يتم تحديدها من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية المنتخبة على السواء).

باختصار، فإن الدستور الجديد يرسي أسس نظام تعددي يمكّن جميع التونسيين وينهي عهد الاستبداد. وقد تكون المرونة النسبية التي أبدتها ومارستها النهضة ورغبتها في الابتعاد عن السلطة في هذه المرحلة الفرصة الوحيدة والأفضل للحركة لتجنيبها مصير الإخوان المسلمين في مصر وحفاظها على الدعم الشعبي التي ستحتاجه في الانتخابات المقبلة .

بالطبع، مثل أي دستور آخر، ليست مسودة الدستور الجديد  مثالية--خالية من العيوب. على سبيل المثال، قد تسبب إزدواجية المعنى في كلمة "دولة" مشاكل في تفسيرالفصلين الأول والثاني—النصوص الأكثر إثارة للجدل في الوثيقة بأكملها. فيبدو أن هناك خلط بين مفهوم "بلاد" (الأمة, وطن)  و"الدولة" (الهيكل المؤسساتي). ويمكن تجنب هذه المشكلة إذا تم كتابة المادتين الأولى والثانية كالآتي :

 (1) تونس بلد، حر، مستقل، ذو سيادة، الإسلام دينه، العربية لغته، والجمهورية  نظامه
(2)  يحكم تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون.

قد يصحّح التمييز بين مفهومي الدولة والبلد بعض المفاهيم الخاطئة حول مكانة الدين في المجتمع ومؤسسات الدولة. إذ يظن  العديد من المعلقين الغربيين عن الدساتير العربية أن الإسلام مقنن في مؤسسة "الدولة". إستعمال لغة غامضة واستخدام مصطلح ذو معنى مزدوج يديم سوء الفهم. كما أن إستعمال كلمة ذاب معنى مزدوج قد يخلق تناقض بين الفصل 1 والفصل 2: إذ كيف يمكن لدولة إسلامية (بالمعنى المؤسساتي)  أن تكون دولة مدنية تعامل جميع المواطنين-- مسلمين وغير مسلمين-- بالتساوي؟

أما إذا تم التمييز بين الدولة المؤسساتية ودولة المواطنة فسينعدم التناقض في الدستور لأن الإسلام هو في الواقع من مكونات الهوية الشاملة لغالبية الشعب التونسي. فتبقى الدولة (المؤسساتية)  مدنية  تعامل جميع المواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن الانتماء الديني والمذهبي أو إنعدامهما. ومن شأن هذا التركيب اللغوي عدم تمكين التفسيرات الضارة من الفصل 6.

 كما أن البنود الخاصة بتعديل الدستور—خاصة الفصل 142--غامضة وتترك مجالا واسعا لتفسير قد يخلق مسارين منفصلين لتعديل الدستور. على وجه التحديد، يمكن تفسير الفصل 142  بطريقة تسمح بتمرير التعديلات من خلال البرلمان أو من خلال استفتاء شعبي. أي، يمكن للرئيس وضع التعديل مباشرة للإستفتاء ثم يطلب من البرلمان الموافقة عليه بأغلبية مطلقة، في حين أن التعديلات الناشئة في البرلمان تتطلب أغلبية الثلثين. لا أظن أن هذا ما قصده صائغو مسودة الدستور لكن ليس من الواضح تماما ما إذا كانت الجملة الأخيرة من الفصل 142 تعبّر عن حق الرئيس في سلك طريق جانبي لتعديل الدستور أم هي مسألة سوء في التعبير.

هذه أوقات حاسمة في تونس. مرة أخرى، يجد الشعب التونسي وممثليهم فرصة لإثبات أن الربيع العربي لم يكن مجرد شبح أوجدته الصدفة، أن اللاعنف هو السبيل الوحيد للتغيير الاجتماعي البناء ، أن الإسلام منسجم مع مبادئ الديمقراطية، وأن السلطوية ليست الضامن الوحيد للأمن والاستقرار كما يدعي البعض. يمكن للتونسيين تقديم نموذجا واعدا للمجتمعات العربية كافة ... نموذجا بحجم  تضحيات الشعوب العربية ومكرما لأولئك الذين ناضلوا من أجل العدالة الاجتماعية وعانوا التعذيب والنفي والسجن والموت.
____________
* الأستاذ سوايعية يدرس في جامعة ايوا  (University of Iowa, USA). كتابه الأخير، , Anatomy of Dissent in Islamic Societies، يعالج تاريخ نظريات  الحركات المعارضة وأفكارها منذ ظهور الإسلام. آراء الكاتب خاصة به وفّرها خدمة للصالح العام؛ ولا تمثّل مواقف أو سياسة  الجامعة أو أي مؤسسة أخرى قد ينتمي اليها الكاتب.

ISR Weekly

About ISR Weekly

هيئة التحرير

Previous
Next Post
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات


ابحث عن مقالات مثل التي قرأت

Advertise Here

المقالات الأكثر قراءة

_____________________________________________________
حقوق التأليف والنشر © مراجعات. جميع الحقوق محفوظة.