عبد الوهاب الملوح*
ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.
لماذا يسمح الدين الإسلامي بتعدّد الزوجات؟ السؤال نفسه لم يبل بفعل الزمن وظل متجدّداً. وغالباً لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتعداه إلى أسئلة أخرى تتمحور حول القضايا التي ما انفكّ يطرحها مفكّرون ومفكّرات والتي تتصل بوضعية المرأة في الإسلام.
ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.
لماذا يسمح الدين الإسلامي بتعدّد الزوجات؟ السؤال نفسه لم يبل بفعل الزمن وظل متجدّداً. وغالباً لا يقف عند هذا الحدّ، بل يتعداه إلى أسئلة أخرى تتمحور حول القضايا التي ما انفكّ يطرحها مفكّرون ومفكّرات والتي تتصل بوضعية المرأة في الإسلام.
هذه المسألة عادت إلى الواجهة في تونس اليوم لكن بحدّة مُضاعَفة عما كانت عليه سابقاً، وذلك بسبب ما باتت تفرضه التحوّلات الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد التقرير النهائي الذي قدّمته "لجنة الحقوق والحريات الفردية والمساواة" في حزيران/يونيو الماضي، عِلماً أن اللجنة أطلقها الرئيس التونسي الباجي قايد السيسي في آب/أغسطس عام 2017 وتكوّنت من حقوقيين وأكاديميين وقضاة وعُلماء شرع.
جاء التقرير في 235 صفحة على جزءين. الجزء الأول مخصّص للحقوق والحريات الفردية، أما الجزء الثاني فتناول المساواة في الميراث بين المرأة والرجل. وتصدر التقرير توطئة عامة تستند إلى مقاربة اجتماعية ودينية.
ورغم تعرّض هذا التقرير للحقوق والحريات الفردية مقترحاً توصيات عدّة في هذا الشأن من قبيل الحق في الحياة والحرية والأمان والتفكير والعقيدة، غير أن ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.
في العام 1899 أصدر قاسم أمين كتاباً بعنوان "تحرير المرأة". العنوان وحده كان كافياً ليلفت الأنظار ويطرح عاصفة من الردود على شكل أسئلة موجِعة، ومنها تحرير المرأة ممن؟ من الرجل؟ من المرأة؟ من عقلية الذكورة؟ ناهيك أن عنوان الكتاب ينطلق من بديهة أساسية وهي أن المرأة سجينة. لم يكن بإمكان قاسم أمين حينها أن يتجرّأ في الذهاب نحو الأبعد في محاربته التفكيكية لوضع المرأة في التشريع الإسلامي، رغم أن نظرة كبار عُلماء المسلمين في ذلك العصر من أمثال الكواكبي والأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا كانت منفتحة وإصلاحية.
في تلك السنة خرج إلى الوجود الطاهر الحداد الذي قلب الطاولة على الجميع في كتابه "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي صدر سنة 1930. لم يكن الحداد مُصلحاً اجتماعياً، كما لم يكن عالِم دين، بل ناشطاً في المجالين النقابي والسياسي باعتباره عضواً في الحزب الدستوري المعارض للاستعمار الفرنسي. غير أن ذكاءه الألمعي أوصله إلى أن صلاح هذه الأمّة لن يتم إلا بصلاح المجتمع، وبالأساس العائلة. لذلك اشتغل على وضع المرأة في المجتمع الإسلامي وأصدر كتابه الذي أعلن فيه عدم جواز تعدّد الزوجات، وأن المرأة مساوية الرجل في الكثير من الحقوق الاجتماعية.
في هذه البيئة تربّى فكر الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس بعد الاستقلال. ولا غرابة أنه لما عاد من المنفى في العام 1955 ترجم هذا الفكر بعد سنتين في مجلة الأحوال الشخصية في العام 1957 والتي كانت ثورة كبرى على الوضع النسوي حيث تضمّنت مسألة تعدّد الزوجات والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مجالات عدّة. لقد شكّلت المجلة المذكورة ثورة حقيقية وإعلان بداية تمرّد على الوضع المتكلّس للاجتهاد، بل لقد ذهب بعض علماء الدين وقتها إلى تكفير الحبيب بورقيبة. غير أن المجلة كانت تعبيراً عن تحرير عقلية التونسي من التزمّت والتطرّف، وجاءت انسجاماً مع معاهدة حقوق الإنسان للأمم المتحدة. كما أتت نتيجة لتراكم تحرّكات المرأة التونسية خلال عقود من أجل تحرّرها من عقلية الذكورة. ولم تكتف المرأة بما جاء في مجلة الأحوال الشخصية بل واصلت نضالاتها وكانت لها مواقف ثورية في عهد زين العابدين بن علي، حتى أنها ضحّت بنفسها وسقط الكثير منهن الشهيدات في المواجهة مع بوليس بن علي أثناء ثورة 2011.
هذا يؤكّد قوّة التحدّي الذي انخرطت في سياقه المرأة التونسية التي لم تعد ترضى أن تكون مجرّد أنثى أو امرأة، بل تطالب أن تتم معاملتها كإنسان كامل للحقوق شأنها شأن الرجل. وفي هذا السياق يتجدّد السؤال في مُقاربة مُغايرة. هل أن توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة جاءت في حجم هذا التحدّي؟ ام أنها كانت لغايات أخرى لا يعلمها إلا السبسي؟ بكل الأحوال، نجح الرئيس التونسي على الأقل في توجيه أنظار الرأي العام في البلاد نحو ما جاء به تقرير اللجنة من توصيات، وذلك في ظل أزمة سياسية حادّة تعيشها الحكومة وتوقّف مسار ميثاق قرطاج وما أسفر عنه من طلاق غير مُعلَن لــ "الزواج العرفي" بين حزبي "النداء" و"النهضة". ولذلك جاءت ردود الفعل مُتباينة بخصوص التقرير بل رافضة حتى ممَن هم من غير المحسوبين على تيارات اليمين، ممَن يناضلون من أجل مدنية الدولة وحرية الفكر والمعتقد. هو ما تصرّح به الصحفية والروائية وحيدة ألمي للصفحة الثقافية في الميادين نت قائلة:
"لم يكن مطلب المساواة في الميراث حديث عهد بآلاف الأصوات المساندة التي يضجّ بها الشارع التونسي في كل مناسبة، وآخرها عيد المرأة الموافق ليوم 13 أغسطس. فهذا المطلب كان من بين أهم النقاط المطروحة في لائحة مطالب تقودها نساء حداثيات يطالبن بمساواة مُطلقة مع الرجل في الحقوق. غير أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي لم يتجرّأ على إدخال يده إلى غار النّمل وتحلّى بذكاء سياسي جعله لا يتورّط في وعود ولا التزامات بقبول المُقترح رسمياً، لإدراكه بأن هذا الموضوع المحسوم شرعاً يفتح أبواب الجدل واسعاً"، مُضيفة "غير أنه مع هشاشة الدولة بعد ثورة يناير عاد التأجيج على أشدّه للضغط على الحكومة وحسم الأمر. مسألة المساواة وغيرها من مطالب جاءت في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بما في ذلك إيجاد موضع قدم للمثليين داخل المنظومة الاجتماعية التونسية رسمياً، جاءت وفق إملاءات خارجية أخذت شكل "النضال الحقوقي". فهذه الأصوات المساندة تدخل في إطار النضال مدفوع الأجر من منظمات دولية تزرع أبواقها في كل دولة عربية لأجل إعادة هيكلة مجتمعاتها وتفتيتها قيمياً وإعادة بنائها تحت مظلّة الحداثة وحقوق الإنسان".
تواجه المرأة التونسية اليوم جملة من المطالب الحياتية التي لم تتحقّق رغم ترسانة من القوانين المُناصرة لها في الظاهر. ففي حالات الطلاق مثلاً تعجز الأمّ الحاضنة للأبناء عن الحصول على النفقة لإعالة أطفالها، وتصطدم منذ رفع القضية لدى المحاكم بصعوبات التأجيل وتنفيذ الأحكام. كما أنها غير قادرة اليوم على الطلاق للضرر النفسي والاستغلال الجنسي والاقتصادي، رغم إيجاد القانون المنظّم لذلك ودخوله حيّز التنفيذ في شباط/فبراير 2018.
المرأة التونسية تشكو أيضاً من التحرّش في العمل وتُساوَم في قوتها وترقياتها وتعيش على المحك رغم التبجّح بقانون يجرّم ذلك. غير بعيد من هذه الفكرة تقول خديجة معلى المستشارة الدولية إنه "صحيح أن واقع المعيشة حالياً في تونس يرزح تحت وطأة المشاكل الحياتية التي تتطلّب حلاَّ عاجلاً نظراً لتأثيرها السلبي على حياة المواطنين، وعلى أمن المجتمع وتقدّم الشعب"، غير أن تأصيل حقوق الإنسان، وخاصة المساواة بين الجنسين في كل المجالات بدءاً من الميراث هي حقوق لا ترتبط بوقت أو بظرف. علماً وأن لتونس أسبقية تاريخية في مجال تمتّع المرأة بحقها في التعليم، وفي العمل والتنظيم العائلي، وجميع الحقوق المدنية والسياسية".
معلى رأت أنه وبغضّ النظر عما قيل عن المبادرة الرئاسية الحالية من أنها "مناورة سياسية أم لا، إلا أنها بالتأكيد تُعبّر عن المرأة، لأن النضال من أجل استكمال حقوقها لم ينقطع حتى في عهد النظام السابق للثورة".
يتمثل ذلك، وفق معلى، في نضال شخصيات حقوقية ومنظمات المجتمع المدني مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وغيرها "من الذين لم ينقطعوا عن المُطالبة بجميع الحقوق والحريات الفردية والمساواة".
تكريس للمساواة؟
أما فتحية السعيدي، أستاذة العلوم الاجتماعية والقيادية في "حزب المسار" اليساري، فترى أن تونس "تعيش جدلاً اجتماعياً فريداً من نوعه تراوح بين النقاش الهادئ والرصين، وبين التعبيرات الانفعالية حول ما جاء في تقرير "لجنة الحريات"". فالتقرير برأيها "تناول عدداً من القضايا المجتمعية المهمة التي تستهدف تغيير التمثلات والتصوّرات الاجتماعية في اتجاه تطويرها ضمن مقاربة اتجهت إلى اعتماد القراءة المقاصدية المستنيرة والمتفتحة للنص الديني".
السعيدي أضافت إن من بين أبرز القضايا التي طرحها التقرير "مراجعة مختلف القوانين التي أصبحت مُتعارِضة مع دستور الجمهورية الثانية الصادر في العام 2014، علماً أنه قد أقر المساواة التامة بين النساء والرجال ومنع التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المعتقد، أو العرق، أو الجنس وهو ما يستلزم ملاءمة مختلف القوانين مع ما ورد في الدستور".
ذلك أن المبادرة التشريعية الأخيرة حول المساواة في الميراث تعدّ "أحد الخطوات المهمة في اتجاه تكريس المساواة بين النساء والرجال. فالقاعدة الأساسية هي المساواة واللامساواة هي الاستثناء"، بحسب وصف القيادية في "حزب المسار" التي أشارت إلى ضرورة مراجعة مجلة الأحوال الشخصية وخاصة الفصل 13 المتعلّق بالمهر والفصل 23 المتعلّق برئاسة الأسرة وكل ما يليه من مشمولات الحضانة والولاية".
بشكل عام، يمثل تقرير (لجنة الحريات) "خطوة عملاقة رغم كل الصخب الذي رافقها ورغم محاولات تسييس المطالبات الواردة فيه واعتبارها مناقضة للعادات وللتشريع الإسلامي"، كما تقول السعيدي مذكّرة بأن تونس "دولة مدنية تفرض علوية الدستور".
أغراض انتخابية؟
هل ما جرى يرتبط بشكل أو بآخر بحسابات انتخابية؟ المستشار السابق للإعلام والاتصال في حكومتي على العريض ومهدي جمعة، عبد السلام الزبيدي يؤيّد هذا الرأي. فهو يقول إن السبسي "لم يُخف أهدافه الحقيقية من مبادرته تشكيل لجنة الحريات الفردية والمساواة وتكليفها بإعداد تقرير في الغرض على أساس أحكام الدستور والالتزامات الدولية لتونس والتوجهات الحديثة في مجال الحريات الفردية والمساواة. فقراءة متأنيّة لمضمون خطابه في العيد الوطني للمرأة التونسية عام 2017 والذي أَعْتبِرُه خطاب التكليف الحقيقي، تجعلنا نقف على أنّ للرئيس ثلاثة أهداف جوهرية، الأوّل أن يكون ثالث إثنين هما المصلح الطاهر الحداد والزعيم الحبيب بورقيبة. أما الهدف الثاني فهو إعادة هندسة المشهد السياسي التونسي وهي أشمل بكثير من العبارة المتداولة المتمثّلة في "الأغراض الانتخابية"".
لكن كيف ذلك؟ يشرح الزبيدي "رئيس الجمهورية يريد أن يستردّ بيده اليُسرى ما فقده بيده اليُمنى، والمفقود المقصود هو الفشل الذريع في الخيارات السياسية وانقلاب رئيسيْ الحكومتين اللذين اختارهما شخصيّاً رغم أنّ الدستور لا يُخوّل له ذلك (الحبيب الصيد ويوسف الشاهد)، والعجز عن الإيفاء بتعهداته الانتخابية التي تتجاوز صلاحياته"، وذلك فإن مبادرة تشكيل اللجنة وتقريرها وما ترتب عنهما "من شأنه إعادة هندسة المشهد وذلك بوضع "حليف التوافق" أي حركة النهضة بين كماشتيّ الضغوطات الدولية وتوجّهات أنصارها. فهذا الحليف رفض مسايرة رئيس الجمهورية في مسعاه لإزاحة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، فأشهرَ له الباجي قايد السبسي ورقة مبادرة الحريات الفردية والمساواة في الإرث".
ويضاف إلى ذلك الهدف الثالث الذي يتمثل وفق الزبيدي في "إعطاء تأويل مستقر للدستور في فصوله ذات الصلة بالهوية والحريات، وهي التوطئة والفصلان الأول والثاني عن (طبيعة الدولة وعلاقتها بالإسلام) والفصول6-21-21-26-46-47-49 التي نصّت على رعاية الدين وحرية الضمير والحريات الفردية وحقوق المرأة".
على أية حال، وبغضّ النظر عن أهداف الرئيس التونسي يبقى من الضروري الاحتكام إلى مقتضيات دستور 2014 ومنطقه الداخلي وأولوياته الحقيقية. إذ إن تقديم مبادرة حول الحريات الفردية أو المساواة يتطلّب عرضها للاستشارة الوجوبية أمام الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان والتنمية المُستدامة، في حين أنّ البرلمان لم ينظر أصلاً في النص المؤسّس لها. فضلاً عن انتخاب أعضائها، بالإضافة إلى أنّ من شروط المصادقة النهائية على مشروع قانون الميراث أو إمكانية عرضه على الاستفتاء يتطلّب مُصادقة المحكمة الدستورية التي لم تَر النور بعد.
وعليه، من الضروري إنشاء الهيئتين ثم إثر ذلك يكون عرض المبادرة التشريعية على البرلمان. أما في ما يتعلق بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى في ذاتها، يظل الفصل بين مسارين إثنين حاسماً. المسار الأول فكري وتقوده النخبة بمختلف توجّهاتها ضمن جدل له أوجهه الأكاديمية والمجتمعية، أما الثاني فسياسي وتشريعي يكون لاحقاً وليس سابقاً للمسار الفكري.
_________________
ورغم تعرّض هذا التقرير للحقوق والحريات الفردية مقترحاً توصيات عدّة في هذا الشأن من قبيل الحق في الحياة والحرية والأمان والتفكير والعقيدة، غير أن ما أثار الضجة التي تبعها جدل حاد في جميع وسائل الإعلام وصل إلى درجة التظاهر والاحتجاج في الشوارع، هو مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، الذي أعاد النقاش في قضية المرأة في الإسلام إلى المربّع الأول.
في العام 1899 أصدر قاسم أمين كتاباً بعنوان "تحرير المرأة". العنوان وحده كان كافياً ليلفت الأنظار ويطرح عاصفة من الردود على شكل أسئلة موجِعة، ومنها تحرير المرأة ممن؟ من الرجل؟ من المرأة؟ من عقلية الذكورة؟ ناهيك أن عنوان الكتاب ينطلق من بديهة أساسية وهي أن المرأة سجينة. لم يكن بإمكان قاسم أمين حينها أن يتجرّأ في الذهاب نحو الأبعد في محاربته التفكيكية لوضع المرأة في التشريع الإسلامي، رغم أن نظرة كبار عُلماء المسلمين في ذلك العصر من أمثال الكواكبي والأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا كانت منفتحة وإصلاحية.
في تلك السنة خرج إلى الوجود الطاهر الحداد الذي قلب الطاولة على الجميع في كتابه "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي صدر سنة 1930. لم يكن الحداد مُصلحاً اجتماعياً، كما لم يكن عالِم دين، بل ناشطاً في المجالين النقابي والسياسي باعتباره عضواً في الحزب الدستوري المعارض للاستعمار الفرنسي. غير أن ذكاءه الألمعي أوصله إلى أن صلاح هذه الأمّة لن يتم إلا بصلاح المجتمع، وبالأساس العائلة. لذلك اشتغل على وضع المرأة في المجتمع الإسلامي وأصدر كتابه الذي أعلن فيه عدم جواز تعدّد الزوجات، وأن المرأة مساوية الرجل في الكثير من الحقوق الاجتماعية.
في هذه البيئة تربّى فكر الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس بعد الاستقلال. ولا غرابة أنه لما عاد من المنفى في العام 1955 ترجم هذا الفكر بعد سنتين في مجلة الأحوال الشخصية في العام 1957 والتي كانت ثورة كبرى على الوضع النسوي حيث تضمّنت مسألة تعدّد الزوجات والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في مجالات عدّة. لقد شكّلت المجلة المذكورة ثورة حقيقية وإعلان بداية تمرّد على الوضع المتكلّس للاجتهاد، بل لقد ذهب بعض علماء الدين وقتها إلى تكفير الحبيب بورقيبة. غير أن المجلة كانت تعبيراً عن تحرير عقلية التونسي من التزمّت والتطرّف، وجاءت انسجاماً مع معاهدة حقوق الإنسان للأمم المتحدة. كما أتت نتيجة لتراكم تحرّكات المرأة التونسية خلال عقود من أجل تحرّرها من عقلية الذكورة. ولم تكتف المرأة بما جاء في مجلة الأحوال الشخصية بل واصلت نضالاتها وكانت لها مواقف ثورية في عهد زين العابدين بن علي، حتى أنها ضحّت بنفسها وسقط الكثير منهن الشهيدات في المواجهة مع بوليس بن علي أثناء ثورة 2011.
هذا يؤكّد قوّة التحدّي الذي انخرطت في سياقه المرأة التونسية التي لم تعد ترضى أن تكون مجرّد أنثى أو امرأة، بل تطالب أن تتم معاملتها كإنسان كامل للحقوق شأنها شأن الرجل. وفي هذا السياق يتجدّد السؤال في مُقاربة مُغايرة. هل أن توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة جاءت في حجم هذا التحدّي؟ ام أنها كانت لغايات أخرى لا يعلمها إلا السبسي؟ بكل الأحوال، نجح الرئيس التونسي على الأقل في توجيه أنظار الرأي العام في البلاد نحو ما جاء به تقرير اللجنة من توصيات، وذلك في ظل أزمة سياسية حادّة تعيشها الحكومة وتوقّف مسار ميثاق قرطاج وما أسفر عنه من طلاق غير مُعلَن لــ "الزواج العرفي" بين حزبي "النداء" و"النهضة". ولذلك جاءت ردود الفعل مُتباينة بخصوص التقرير بل رافضة حتى ممَن هم من غير المحسوبين على تيارات اليمين، ممَن يناضلون من أجل مدنية الدولة وحرية الفكر والمعتقد. هو ما تصرّح به الصحفية والروائية وحيدة ألمي للصفحة الثقافية في الميادين نت قائلة:
"لم يكن مطلب المساواة في الميراث حديث عهد بآلاف الأصوات المساندة التي يضجّ بها الشارع التونسي في كل مناسبة، وآخرها عيد المرأة الموافق ليوم 13 أغسطس. فهذا المطلب كان من بين أهم النقاط المطروحة في لائحة مطالب تقودها نساء حداثيات يطالبن بمساواة مُطلقة مع الرجل في الحقوق. غير أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي لم يتجرّأ على إدخال يده إلى غار النّمل وتحلّى بذكاء سياسي جعله لا يتورّط في وعود ولا التزامات بقبول المُقترح رسمياً، لإدراكه بأن هذا الموضوع المحسوم شرعاً يفتح أبواب الجدل واسعاً"، مُضيفة "غير أنه مع هشاشة الدولة بعد ثورة يناير عاد التأجيج على أشدّه للضغط على الحكومة وحسم الأمر. مسألة المساواة وغيرها من مطالب جاءت في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بما في ذلك إيجاد موضع قدم للمثليين داخل المنظومة الاجتماعية التونسية رسمياً، جاءت وفق إملاءات خارجية أخذت شكل "النضال الحقوقي". فهذه الأصوات المساندة تدخل في إطار النضال مدفوع الأجر من منظمات دولية تزرع أبواقها في كل دولة عربية لأجل إعادة هيكلة مجتمعاتها وتفتيتها قيمياً وإعادة بنائها تحت مظلّة الحداثة وحقوق الإنسان".
تواجه المرأة التونسية اليوم جملة من المطالب الحياتية التي لم تتحقّق رغم ترسانة من القوانين المُناصرة لها في الظاهر. ففي حالات الطلاق مثلاً تعجز الأمّ الحاضنة للأبناء عن الحصول على النفقة لإعالة أطفالها، وتصطدم منذ رفع القضية لدى المحاكم بصعوبات التأجيل وتنفيذ الأحكام. كما أنها غير قادرة اليوم على الطلاق للضرر النفسي والاستغلال الجنسي والاقتصادي، رغم إيجاد القانون المنظّم لذلك ودخوله حيّز التنفيذ في شباط/فبراير 2018.
المرأة التونسية تشكو أيضاً من التحرّش في العمل وتُساوَم في قوتها وترقياتها وتعيش على المحك رغم التبجّح بقانون يجرّم ذلك. غير بعيد من هذه الفكرة تقول خديجة معلى المستشارة الدولية إنه "صحيح أن واقع المعيشة حالياً في تونس يرزح تحت وطأة المشاكل الحياتية التي تتطلّب حلاَّ عاجلاً نظراً لتأثيرها السلبي على حياة المواطنين، وعلى أمن المجتمع وتقدّم الشعب"، غير أن تأصيل حقوق الإنسان، وخاصة المساواة بين الجنسين في كل المجالات بدءاً من الميراث هي حقوق لا ترتبط بوقت أو بظرف. علماً وأن لتونس أسبقية تاريخية في مجال تمتّع المرأة بحقها في التعليم، وفي العمل والتنظيم العائلي، وجميع الحقوق المدنية والسياسية".
معلى رأت أنه وبغضّ النظر عما قيل عن المبادرة الرئاسية الحالية من أنها "مناورة سياسية أم لا، إلا أنها بالتأكيد تُعبّر عن المرأة، لأن النضال من أجل استكمال حقوقها لم ينقطع حتى في عهد النظام السابق للثورة".
يتمثل ذلك، وفق معلى، في نضال شخصيات حقوقية ومنظمات المجتمع المدني مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وغيرها "من الذين لم ينقطعوا عن المُطالبة بجميع الحقوق والحريات الفردية والمساواة".
تكريس للمساواة؟
أما فتحية السعيدي، أستاذة العلوم الاجتماعية والقيادية في "حزب المسار" اليساري، فترى أن تونس "تعيش جدلاً اجتماعياً فريداً من نوعه تراوح بين النقاش الهادئ والرصين، وبين التعبيرات الانفعالية حول ما جاء في تقرير "لجنة الحريات"". فالتقرير برأيها "تناول عدداً من القضايا المجتمعية المهمة التي تستهدف تغيير التمثلات والتصوّرات الاجتماعية في اتجاه تطويرها ضمن مقاربة اتجهت إلى اعتماد القراءة المقاصدية المستنيرة والمتفتحة للنص الديني".
السعيدي أضافت إن من بين أبرز القضايا التي طرحها التقرير "مراجعة مختلف القوانين التي أصبحت مُتعارِضة مع دستور الجمهورية الثانية الصادر في العام 2014، علماً أنه قد أقر المساواة التامة بين النساء والرجال ومنع التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المعتقد، أو العرق، أو الجنس وهو ما يستلزم ملاءمة مختلف القوانين مع ما ورد في الدستور".
ذلك أن المبادرة التشريعية الأخيرة حول المساواة في الميراث تعدّ "أحد الخطوات المهمة في اتجاه تكريس المساواة بين النساء والرجال. فالقاعدة الأساسية هي المساواة واللامساواة هي الاستثناء"، بحسب وصف القيادية في "حزب المسار" التي أشارت إلى ضرورة مراجعة مجلة الأحوال الشخصية وخاصة الفصل 13 المتعلّق بالمهر والفصل 23 المتعلّق برئاسة الأسرة وكل ما يليه من مشمولات الحضانة والولاية".
بشكل عام، يمثل تقرير (لجنة الحريات) "خطوة عملاقة رغم كل الصخب الذي رافقها ورغم محاولات تسييس المطالبات الواردة فيه واعتبارها مناقضة للعادات وللتشريع الإسلامي"، كما تقول السعيدي مذكّرة بأن تونس "دولة مدنية تفرض علوية الدستور".
أغراض انتخابية؟
هل ما جرى يرتبط بشكل أو بآخر بحسابات انتخابية؟ المستشار السابق للإعلام والاتصال في حكومتي على العريض ومهدي جمعة، عبد السلام الزبيدي يؤيّد هذا الرأي. فهو يقول إن السبسي "لم يُخف أهدافه الحقيقية من مبادرته تشكيل لجنة الحريات الفردية والمساواة وتكليفها بإعداد تقرير في الغرض على أساس أحكام الدستور والالتزامات الدولية لتونس والتوجهات الحديثة في مجال الحريات الفردية والمساواة. فقراءة متأنيّة لمضمون خطابه في العيد الوطني للمرأة التونسية عام 2017 والذي أَعْتبِرُه خطاب التكليف الحقيقي، تجعلنا نقف على أنّ للرئيس ثلاثة أهداف جوهرية، الأوّل أن يكون ثالث إثنين هما المصلح الطاهر الحداد والزعيم الحبيب بورقيبة. أما الهدف الثاني فهو إعادة هندسة المشهد السياسي التونسي وهي أشمل بكثير من العبارة المتداولة المتمثّلة في "الأغراض الانتخابية"".
لكن كيف ذلك؟ يشرح الزبيدي "رئيس الجمهورية يريد أن يستردّ بيده اليُسرى ما فقده بيده اليُمنى، والمفقود المقصود هو الفشل الذريع في الخيارات السياسية وانقلاب رئيسيْ الحكومتين اللذين اختارهما شخصيّاً رغم أنّ الدستور لا يُخوّل له ذلك (الحبيب الصيد ويوسف الشاهد)، والعجز عن الإيفاء بتعهداته الانتخابية التي تتجاوز صلاحياته"، وذلك فإن مبادرة تشكيل اللجنة وتقريرها وما ترتب عنهما "من شأنه إعادة هندسة المشهد وذلك بوضع "حليف التوافق" أي حركة النهضة بين كماشتيّ الضغوطات الدولية وتوجّهات أنصارها. فهذا الحليف رفض مسايرة رئيس الجمهورية في مسعاه لإزاحة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، فأشهرَ له الباجي قايد السبسي ورقة مبادرة الحريات الفردية والمساواة في الإرث".
ويضاف إلى ذلك الهدف الثالث الذي يتمثل وفق الزبيدي في "إعطاء تأويل مستقر للدستور في فصوله ذات الصلة بالهوية والحريات، وهي التوطئة والفصلان الأول والثاني عن (طبيعة الدولة وعلاقتها بالإسلام) والفصول6-21-21-26-46-47-49 التي نصّت على رعاية الدين وحرية الضمير والحريات الفردية وحقوق المرأة".
على أية حال، وبغضّ النظر عن أهداف الرئيس التونسي يبقى من الضروري الاحتكام إلى مقتضيات دستور 2014 ومنطقه الداخلي وأولوياته الحقيقية. إذ إن تقديم مبادرة حول الحريات الفردية أو المساواة يتطلّب عرضها للاستشارة الوجوبية أمام الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان والتنمية المُستدامة، في حين أنّ البرلمان لم ينظر أصلاً في النص المؤسّس لها. فضلاً عن انتخاب أعضائها، بالإضافة إلى أنّ من شروط المصادقة النهائية على مشروع قانون الميراث أو إمكانية عرضه على الاستفتاء يتطلّب مُصادقة المحكمة الدستورية التي لم تَر النور بعد.
وعليه، من الضروري إنشاء الهيئتين ثم إثر ذلك يكون عرض المبادرة التشريعية على البرلمان. أما في ما يتعلق بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى في ذاتها، يظل الفصل بين مسارين إثنين حاسماً. المسار الأول فكري وتقوده النخبة بمختلف توجّهاتها ضمن جدل له أوجهه الأكاديمية والمجتمعية، أما الثاني فسياسي وتشريعي يكون لاحقاً وليس سابقاً للمسار الفكري.
_________________
* كاتب وشاعر من تونس
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات