د. هيثم مزاحم
يلاحظ الباحث الفرنسي أوليفييه روا أن جميع المدافعين عن "داعش" لا يتحثون أبداً عن الشريعة ولا يأتون تقريباً على ذكر المجتمع الإسلامي الذي سيقوم في ظل "داعش"، كأن إرادة القيام بالجهاد وإرادة العيش في ظل الإسلام أمران متعارضان. فالعيش في مجتمع إسلامي لا يعني الجهاديين، فهم لا يهاجرون للجهاد من أجل الحياة، وإنما من أجل الموت.
يلاحظ الباحث الفرنسي أوليفييه روا أن جميع المدافعين عن "داعش" لا يتحثون أبداً عن الشريعة ولا يأتون تقريباً على ذكر المجتمع الإسلامي الذي سيقوم في ظل "داعش"، كأن إرادة القيام بالجهاد وإرادة العيش في ظل الإسلام أمران متعارضان. فالعيش في مجتمع إسلامي لا يعني الجهاديين، فهم لا يهاجرون للجهاد من أجل الحياة، وإنما من أجل الموت.
نشر الباحث الفرنسي المعروف والمختص بالشؤون الإسلامية أوليفييه روا، قبل سنتين كتابه المعنون "الجهاد والموت" باللغة الفرنسية ونقله إلى العربية صالح الأشمر ونشرته دار الساقي عام 2017. وقد حاول روا فهم ظاهرة التطرف الذي يقوم به تنظيما "داعش" و"القاعدة" وخاصة في الدول الغربية وهل سببها الدين الإسلامي أو الظلم السياسي والاجتماعي في الدول العربية والإسلامية أو الاستعمار والغزو الغربيان لهذه الدول؟ هل السبب هو العقيدة السلفية التي تحولت إلى سلفية جهادية؟ هل يعود السبب إلى عدم اندماج هؤلاء الشبان المسلمين في المجتمعات الأوروبية التي نشأوا فيها أو هاجروا إليها وإلى التمييز والعنصرية اللذين يعاملون بهما في هذه الدول؟.
يسعى الباحث إلى فهم هذه الظاهرة وتفسيرها استناداً إلى فكرة الانتحار، المتمثلة بالعمليات "الجهادية" المزعومة، والتي يبدو أن هدفها الأول هو موت المنفذ أكثر من تحقيق أي أهداف سياسية أو عسكرية استراتيجية. لكن هذه الدراسة تختص بالمجتمعات الأوروبية وبشكل خاص "المقاتلين الجهاديين" الفرنسيين والبلجيكيين الذين يشكّلون العدد الأكبر من الجهاديين الغربيين. وينطلق روا من قاعدة بيانات كوّنها وتضم نحو مئة شخص متورطين في الإرهاب على الأراضي الفرنسية و/أو غادروا فرنسا للاشتراك في الجهاد "العالمي" بين عامي 1994 و2016، ومن ضمنهم جميع المشاركين الرئيسييين في هجمات ناجحة أو فاشلة استهدفت الأراضي الفرنسية والبلجيكية. وعلى أساس هذه القاعدة، أرسى الباحث تحليله، خصوصاً أنها معززة بقواعد البيانات الأخرى، وهو يعتبر أن مسارات "الجهاديين" متقاربة جداً وتنتمي إلى الفئات نفسها.
يقول روا إن من الشائع جداً النظر إلى الجهادية على أنها امتداد للسلفية. وليس كل السلفيين جهاديين، لكن كل الجهاديين سيصيرون سلفيين. إذن، السلفية ستكون ممراً للولوج إلى الجهادية. وبعبارة أخرى، سيكون التطرف الديني المرحلة الأولى للتطرف السياسي. لكن روا يرى أن الأمور أكثر تعقيداً. "فمن الواضح أن هؤلاء المتطرفين مؤمنون حقاً، يظنون أنهم سيذهبون إلى الجنة ومرجعيتهم إسلامية خالصة. فهم ينضمون إلى تنظيمات تريد إقامة نظام إسلامي، بل إعادة الخلافة بالنسبة إلى "داعش"". ويعتبر روا أن الخطأ يكمن في التركيز على اللاهوت ومن ثم على النصوص في فهم التطرف الإسلامي. لكن الجهاديين لا يقدمون على العنف بعد التأمل في النصوص، إذ ليس لديهم العلم الديني المطلوب، وقلّ ما يهتمون باكتسابها. فهم لا يصبحون متطرفين لأنهم أساؤوا قراءة النصوص، بل لأنهم اختاروا أن يكونوا متطرفين.
الدواعش جهلة بالإسلام
فبين أربعة آلاف مجنّد غربي في "داعش" تظهر سجلاتهم أنهم ذوو مستوى تعليم جيد، معظمهم أنهوا الثانوية العامة، لكن 70% منهم صرّحوا أن ليس لديهم سوى معرفة أولية بالإسلام. لكن ما يعمل هنا هو التديّن وليس الدين، أي الطريقة التي يعيش بها المؤمن الدين، من العقيدة، والممارسات، والمتخيّلات، والشعائر، لكي يبني تساميه الذي يدفعه إلى احتقار الحياة، حياته وحياة الآخرين. وعلى الرغم من اعتماد "داعش" على التفاسير للحديث النبوي، إلا أن المتطرفين الغربيين المنتمين إلى التنظيم لا يعمدون إلى هذه الشروح المطوّلة. فهم أقل كلاماً عن الدين من السلفيين، وصفحاتهم الالكترونية ونصوصهم أكثر تركيزاً على العمل منها على الدين.
يرجع الإرهابيون دوافعهم للقيام بأعمالهم الإرهابية إلى الانتقام من الغرب بسبب الفظاعات التي ارتكبتها الدول الغربية ضد المسلمين، حيث يلعب الجهادي دور البطل المنتقم، إضافة إلى دافع الموت المودي إلى الجنة واستقبال النبي له والدرجة التي ينالها.
يلاحظ الباحث الفرنسي أن الغريب أن جميع المدافعين عن "داعش" لا يتحثون أبداً عن الشريعة ولا يأتون تقريباً على ذكر المجتمع الإسلامي الذي سيقوم في ظل "داعش"، كأن إرادة القيام بالجهاد وإرادة العيش في ظل الإسلام أمران متعارضان. فالعيش في مجتمع إسلامي لا يعني الجهاديين، فهم لا يهاجرون للجهاد من أجل الحياة، وإنما من أجل الموت.
ارتباط الإرهاب والجهادية في السعي المتعمد إلى الموت، هو محور الكتاب، ومنها استمدّ عنوانه. فمن عملية الجزائري خالد كلكال من "الجماعة الإسلامية المسلحة"، منفذ تفجيرات مترو باريس في 29 أيلول سبتمبر 1995 إلى تفجيرات مسرح باتكالان في باريس في 13 تشرين الثاني نوفمبر 2015، نجد أن هؤلاء الإرهابيين أقدموا على تفجير أنفسهم أو الاشتباك مع الشرطة حتى الموت، من دون أن يحاولوا الهرب، بل حتى لم يكن موتهم ضرورياً على الدوام لإنجاز عملياتهم.
يقول روا إن العنف الإرهابي و"الجهادي"، الآخذ في الانتشار منذ عقدين من الزمن، ينطوي على حداثة متأصلة، برغم أن الإرهاب والجهاد ليسا بظاهرتين جديدتين، إذ ظهرت أنواع "الإرهاب العالمي" الذي "ينشر الرعب باختياره لأهداف ذات رمزية رفيعة، أو على العكس باستهداف مدنيين "أبرياء" من دون أن يعبأ بالحدود"، منذ سبعينيات القرن الماضي، حين نشأ تحالف بين عصابة "بادر" الألمانية وأقصى اليسار الفلسطيني والجيش الأحمر الياباني.
السعي إلى الموت: انتحار أم شهادة؟
لتأكيد مقاربته عن سعي "الجهاديين" إلى الموت، يستشهد روا بكلام أحد "الجهاديين" الفرنسيين دافيد فالا، الذي اعتنق الإسلام وكان قريباً من خالد كلكال وزوّده بسلاحه، إذ يقول: "كانت القاعدة هي ألا يؤخذ حياً. فعندما رأى كلكال رجال الدرك علم أنه سيموت، وأراد أن يموت". وردد أحدهم قولاً منسوباً لمؤسس تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن: "نحن نحب الموت، أنتم تحبون الحياة".
إذاً، لم يعد موت الإرهابي مع "الجهاديين" احتمالاً بل أصبح في صلب مشروعه، وبخاصة مع المنضمين إلى تنظيم داعش الذين يعتبرون الهجوم الانتحاري الغاية المثلى لالتزامهم.
هذا الاختيار المنهجي للموت من قبل الجيل الجديد للجهاديين أمر مستجد، إذ كان منفذو الهجمات بين عامي 1970 و1980، سواء كانوا من الشرق الأوسط أم لا، يساريين أو إسلاميين، يرتبون عملية فرارهم بعناية، لأن الفقه الإسلامي وإن كان يقر بفضل الشهيد الذي يقتل في الجهاد، إلا أنه يحرّم الانتحار. من هنا يطرح الباحث روا أسئلة عن سبب اختيار هؤلاء "الجهاديين" الجدد الموت المنهجي، وتفسير ذلك بشأن التطرف الإسلامي المعاصر؟
يتبنى روا مقاربة جديدة في هذا الخصوص تربط بين حب الموت والسعي له، وبين كون "الجهادية" في الغرب والمغرب وتركيا هي حركة شبّان، لا تنفصل عن "الثقافة الشابّة" لهذه المجتمعات. فهذا البُعد الجيلي جوهري، لكنه على حداثته، ليس وقفاً على الجهاد الحالي. ويذهب بعيداً إلى أن التمرد الجيلي قد نشأ مع الثورة الثقافية الصينية، فهي للمرة الأولى في التاريخ لم تكن ثورة ضد طبقة، بل ضد فئة عمرية معيّنة، باستثناء زعيم الثورة ماو تسي تونغ. وقد استعاد كل من "الخمير الحمر" في كمبوديا بين عامي 1975 و1979، و"داعش" هذه الكراهية للآباء ذات البعد المرضي والكوني، الذي يتجلى في ظهور الجنود الأطفال وتدمير الآثار الثقافية. فلا يقتصر الأمر هنا على تحطيم الأجساد، بل كذلك على إتلاف التماثيل والهياكل والكتب، أي تدمير الذاكرة.
يرى روا أن بُعد إماتة الجسد لا علاقة له البتة بالصراعات الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو غير منتج سياسياً واستراتيجياً. لكن هذا البُعد الانتحاري مرتبط بـخلافة "داعش"، وقبلها مشروع الجهاد العالمي مع "القاعدة"، التي ترفض أي حل سياسي أو تفاوض، لأن من يسعى إلى الموت لا يفاوض على شيء.
ويذهب الباحث الفرنسي إلى أن خلافة "داعش" وهم وخرافة وحدة أيديولوجية في توسع إقليمي مستدام، واستحالتها الاستراتيجية تفسّر لماذا كان أولئك المتماهون بها متعاقدين على الموت، بدلاً من نذر أنفسهم لمصلحة المسلمين، فلا وجود لأي أفق سياسي أو غد مشرق.
يرفض روا فكرة أن الإرهاب "الداعشي" أو "القاعدي" سببه الحرمان الاجتماعي والمظالم السياسية، لأن هذا الإرهاب يقتل السياسة قبل التساؤل عن الأسباب السياسية للنزوع نحو التطرف. وهذا الإرهاب "الانتحاري" ليس فعالاً من وجهة نظر عسكرية، بينما الإرهاب "البسيط" يتضمن بعض العقلانية المتعلقة بالحرب غير المتكافئة، حينما يقوم بعض الأفراد بإلحاق خسائر كبيرة بعدو أقوى منهم بكثير. بينما الإرهاب الانتحاري غير عقلاني بسبب استخدامه المقاتلين مرة واحدة وأخيرة، وهو يدفع المجتمعات الأوروبية إلى التطرف المضاد، ويقتل من المسلمين عدداً أكبر من عدد القتلى الغربيين.
يعتقد الكاتب أن الارتباط المنهجي مع الموت هو أحد المداخل لفهم التطرف الراهن، فالبُعد العدمي مركزي هنا، والعنف ليس وسيلة بل غاية، وهو عنف بلا مستقبل. يقول روا إنه بدلاً من اعتماد مقاربة عمودية تنطلق من القرآن لتصل إلى "داعش"، مروراً بإبن تيمية، وحسن البنا، وسيّد قطب، وابن لادن، على افتراض وجود ثابت "العنف الإسلامي" يظهر بانتظام، فقد فضّل اللجوء إلى مقاربة تحاول أن تفهم العنف الإسلامي المعاصر بالتوازي مع أشكال أخرى من العنف والتطرف، قريبة جداً منه(تمرّد جيلي، وقطيعة جذرية مع المجتمع، وجمالية الموت، واندراج الفرد المنقطع في سردية عالمية كبرى، وبِدع عالمية). فالإرهاب الانتحاري والظواهر من طراز "القاعدة" و"داعش" هي حديثة العهد في تاريخ العالم المسلم، ولا يمكن أن تفسّر بمجرد صعود الأصولية، ولذلك اعتبر روا أن "الإرهاب لا يتأتي من تطرف الإسلام، بل من أسلمة التطرف".
هل الإسلام ينتج العنف؟
وإذ يقر الكاتب الفرنسي بوجود أصولية إسلامية تنتشر منذ أربعين عاماً، لكنها لا تكفي لإنتاج العنف. وقد تعرّضت هذه المقاربة لنقد كثير من زملائه بينهم الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا الذي أخذ عليه أنه لم يلحظ الأسباب السياسية للتمرد، وهي الإرث الاستعماري، والتدخلات العسكرية الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط، والتهميش الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. كما اتهمه الباحث الفرنسي جيل كيبل بأنه يتجاهل العلاقة بين العنف الإرهابي والتطرف الديني للإسلام متجلّياً في السلفية.
لكن روا يقول إنه لا يتجاهل أياً من هذه الأبعاد، لكنها لا تكفي لتفسير الظواهر التي يدرسها، لأننا لا نجد أي صلة سببية انطلاقاً من المعطيات التجريبية التي يملكها. فالباحث يرفض مسألة "التطرف الديني" لأن إلصاق عبارة تطرف بالدين أمر سيء، إذ يترتب على ذلك أننا نحدد حالة معتدلة للدين، فلا توجد أديان معتدلة. أكان كالفن ولوثر معتدلين؟ بالتأكيد لا فالكالفانية مثلاً في المفهوم اللاهوتي تعد "متطرفة". وتقوم فرضيته على أن التطرف العنيف ليس نتيجة التطرف الديني، وإن اقتبس منه الطرق والنماذج، وهذا ما يسمّيه "أسلمة التطرف". فالأصولية الدينية موجودة طبعاً وتطرح مشكلات اجتماعية مهمة، لأنها ترفض القيم القائمة على مركزية الفرد وحريته في جميع المجالات، لكن هذه الأصولية لا تُفضي بالضرورة إلى العنف السياسي. فيهودي أو مسيحي متزمتان هما مؤمنان "مطلقان" بدلاً من أن يكونا متطرفين، ويعيشان نوعاً من الانفصال الاجتماعي لكنهما ليسا عنيفين سياسياً، وغالبية السلفيين تندرج في هذا السجل غير العنيف.
وينتقد روا فرضية فرانسوا بورغا بأن المتطرفين تحفّزهم معاناة المسلمين، المستَعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية والتمييز، وعمليات القصف الأميركية.. إلخ، وبالتالي فإن التمرد هو أولاً تمرد الضحايا. لكن روا يعتقد أن الصلة بين المتطرفين والضحايا صلة خيالية أكثر منها واقعية، والذين ينفذون التفجيرات في أوروبا ليسوا سكن قطاع غزة ولا الليبيين أو الأفغان، وما هم بالضرورة الأكثر فقراً، ولا الأقل اندماجاً. ويستدل الباحث بوجود 25% من المتحوّلين إلى الإسلام في صفوف "الجهاديين" على أن الصلة بين المتطرفين و"شعبهم" هي أيضاً من قبيل المتخيّل. فالثوريون لا ينحدرون مطلقاً من طبقات معذبة، إنما في تماهيهم في البروليتاريا و"الجماهير" والمستَعمرين، هي إعادة بناء خيالية لوجودهم في العالم وبلاغة للتعبير عنه. فقلة من المناضلين ينتمون إلى هذه البروليتاريا الافتراضية التي هم على استعداد للموت في سبيلها. فالمتمردون يعانون من معاناة الآخرين، وهم ليسوا ضحايا الظلم والاحتلال الإسرائيلي أو الغزو أو القصف الأميركي في أفغانستان أو العراق، لكنهم شاهدوا هذه المعاناة وتأثروا بها.
ولم تبدأ منهجة العمل الانتحاري إلا عام 1995، فقبل الثمانينيات، كان "الإرهاب العادي" سلاحاً تستخدمه مجموعات علمانية، قومية أو ثورية، بحسب تعبير روا، حيث اتسمت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسلسلة هجمات في أوروبا، مرتبطة باستراتيجيات دولية، فكانت هجمات مؤيدة لفلسطين أو سوريا أو ليبيا أو إيران، في سياق الرد على السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. حتى الهجوم الانتحاري ليس ابتكاراً إسلامياً، لقد بدأت منهجته منذ الثمانينيات على أيدي "نمور التاميل"، مخترعي الحزام الناسف.
ويلاحظ روا أن "الجهاديين" لا يترددون في ابتكار أشياء غير موجودة في العقيدة ويبتعدون عن النصوص المقدسة والتفاسير المجازة. فهذا النمط العملياتي للهجوم، أي موت المهاجم، يصير المعيار، وهو يتداخل مع إخفاق سياسي وتشاؤم عميق في الوقت نفسه، متأتٍ من مؤلفات سيّد قطب حول الجاهلية وتكفير المجتمع، وإضافة بُعد قيامي كامل وعدمي، والتفكير بالخلاص الشخصي بدلاً من التفرغ لبناء مجتمع أفضل، وهو خلاص يمر بالموت الانتحاري لأنه الطريق الأقصر والأضمن.
المتطرفون الجدد
حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان الجهاديون الدوليون أفراداً قادمين من الشرق الأوسط، قد مارسوا الجهاد في أفغانستان قبل أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية لكي يباشروا العمل فيها، أو بحثاً عن أراضٍ جديدة للجهاد بعد سقوط النظام الشيوعي في أفغانستان عام 1992. هؤلاء هم الذين نفذوا أول موجة تفجيرات عالمية. هؤلاء هم الجيل الأول من الجهاديين التابعين لأسامة بن لادن. لكن ابتداء من عام 1995، نشأ جيل جديد يسمّونه في الغرب "أبناء البلد"، ليس لهم علاقات مع بلدانهم الأصلية، وبينهم نسبة متزايدة من معتنفي الإسلام ومن النساء، ومجال عملهم عالمي تماماً. هم الجيل الثاني من الجهاديين، من خالد كلكال إلى الأخوين كواشي وعبد الحميد اباعود، ولهم الملامح نفسها. فهم قُتلوا كلهم أثناء العمل، إما قتلوا أنفسهم أم قتلوا خلال مواجهتهم مع الشرطة، ولم يهتموا بتدبير فرارهم.
يقول روا إن الإرهابيين الغربيين الذين نفذوا هجمات في أوروبا كلهم معروفون نتيجة وجود سجلات لهم لدى الشرطة وأجهزة الأمن الغربية، ويشير إلى وجود ملفات تضم أسماء 4118 جهادياً أجنبياً جنّدهم "داعش" بين عامي 2013 و2014. وهو يهتم في كتابه هذا خصوصاً بالفرنسيين والبلجيكيين الذين يشكّلون العدد الأكبر من الجهاديين الغربيين، دون أن يغفل نظراءهم الأوروبيين. وهو يجد خصائص مشتركة بينهم وبعض الاختلافات. وينطلق روا من قاعدة بيانات كوّنها وتضم نحو مئة شخص متورطين في الإرهاب على الأراضي الفرنسية و/أو غادروا فرنسا للاشتراك في الجهاد "العالمي" بين عامي 1994 و2016، ومن ضمنهم جميع المشاركين الرئيسييين في هجمات ناجحة أو فاشلة استهدفت الأراضي الفرنسية والبلجيكية.
ولا يجد روا صورة نمطية للإرهابيين، لكنه يقع على مميزات متواترة. فخالد كلكال أول إرهابي من أبناء البلد(عملية ليون، 1995)، والأخوان كواشي (عملية صحيفة شارلي ايبدو، 2015)، بينهم أوجه شبه محددة: هم من الجيل الثاني، ومندمجون جيداً في المجتمع الفرنسي، ومروا بمرحلة جنوحية قصيرة، وصاروا متطرفين في السجن، قاموا بهجمات وقتلوا، وشهروا أسلحة في وجه الشرطة.
كانت الصورة النمطية للإرهابيين ثابتة حيث نجد فئتين أساسيتين: الجيل الثاني (60% منهم)، والمتحولون إلى الإسلام يشكلون 25% منهم، وعلى نطاق أضيق الجيل الثالث(25%). أما الجيل الأول فمحدود (محمد الحويج بوهلال، منفذ مجزرة نيس في يوليو 2016). يفسّر روا غلبة الجيل الثاني بحقيقة أن التطرف قد ظهر في الوقت الذي بلغ فيه أبناء المهاجرين سن الرشد، بعد جمع شمل العائلات عام 1974. فعلى مدى عشرين سنة ظلت الغلبة للجيل الثاني، فيما كان الجيل الثالث يقترب من سن الرشد.
ثمة ميزة أخرى مشتركة بين جميع البلدان الأوروبية هي أن المتطرفين فيها جميعهم تقريباً من "المولودين الجدد" الذين بعدما عاشوا حياة دنسة (ملاهٍ، وكحول، وجنوحية)، اهتدوا فجأة إلى الممارسة الدينية، بصورة فردية أو في نطاق مجموعة صغيرة، وليس في إطار منظمة دينية. ونجد أن معظم المتطرفين غائصون عميقاً في "الثقافة الشابة" المعاصرة، في تقنيات الاتصالات، وبكونهم قد قصدوا علب الليل، وغازلوا الفتيات، واحتسوا الكحول، وارتكب نحو نصفهم جنحاً صغيرة، وأزياؤهم مماثلة لأزياء أترابهم، ملابس الشارع من قبعات وبرانس وعلامات، وما عادت اللحية علامة على التقوى. فهم لا يرتدون أبداً اللباس السلفي، ويحبون الراب، ويتابعون أفلام العنف الأميركية وربما ألعاب الفيديو، وارتياد صالات الرياضة وخاصة بعض الرياضات العنيفة كالكونغ فو والملاكمة، وركوب الدراجات النارية. كما أن لغة المتطرفين هي لغة بلد الإقامة، وهي الفرنسية في هذه الحالة، وهم يتحدثون بلغة "شابة"، لغة الضواحي المحوّرة سلفياً.
لا شك أنه لا يمكن تعميم استنتاجات الباحث روا على جميع "الجهاديين" وبخاصة في الدول العربية والإسلامية، فدوافعهم مختلفة عن دوافع نظرائهم الغربيين، وتلعب العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقدية الدينية، فضلاً عن التحريض الإعلامي والمذهبي، والتوظيف السياسي الدولي والإقليمي لبعض التنظيمات "الجهادية"، كل ذلك تلعب دوراً في تغذية هذا التطرف وتوحشه، حيث يكون "الجهادي" العربي والمسلم ضحية لهذا الفكر المتطرف حيناً، وللتوظيف السياسي والتحريض المذهبي حيناً آخر.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات