طارق حمو
الثورات العربية التي اجتاحت منطقة الشرق الاوسط اثرّت بشكل كبير على التوازنات الاستراتيجية والسياسية في عموم المنطقة والعالم. انظمة عديدة تم العصف بها وحلت محلها انظمة اخرى، جاءت بانتخابات وصٌفت بالنزيهة ، وخرجت من بين جموع الجماهير لاول مرة منذ تشكيل "الدولة الوطنية" العربية بعد حقبة الاستعمار التي انتهت بعد النصف الاول من القرن الماضي. اذن فقد انتهت حقبة "الدولة الوطنية" وبدأت حقبة جديدة هي "دولة المواطنة" في العالم العربي، وبشكل أو بآخر، في عموم منطقة الشرق الأوسط. وكانت "الدولة الوطنية" هذه والتي تم اختيار هذا الاسم لها لفرزها عن "الوطن المٌستعمر" الواقع تحت نير الانتداب الغربي، ابعد ما تكون عن الوطنية في حقيقة الامر، فهي كانت تٌحكم بديكتاتورية العسكر وبمزيج غريب من العسكرتارية الاوليغارشية المدعومة من الغرب والامبريالية العالمية. وطوال خمسين عاما من الحكم لم تحقق هذه الدولة أي منجز، فقادت الشعوب من هزيمة الى اخرى، وتدهورت في ظلها مستوى المعيشة والحياة، وبات المواطن العربي في مصر وتونس وليبيا، مثلا، يتحسر على الزمن الماضي، زمن الاستعمار والطغم الملكية الرجعية. بل وبدا ان المواطن بات يحلم بالعودة الى مستوى للحياة والمعيشة يشبه ماكان سائدا ايام "الدولة التابعة"، وهي الدولة التي جاءت النخب العسكرتارية لتحرير الشعب منها ووضع حد لاستغلالها وارتباطاتها بالاستعمار والقوى الدولية المستغلة. ولكن هذه الشعارات لم تتحقق على ارض الواقع، بل صارت كابوسا مزعجا في دول سطت فيها احزاب قومية "مقاومة" على الحكم: سوريا والعراق مثالا هنا.
اذن"الدولة الوطنية" فشلت في التنمية والتحرير ولم تحقق أي طموح لمواطنيها الذين ساهم سوء التخطيط والانفجار السكاني في تضاعف عددهم مرات ومرات. وطبعا بدون ان يترافق هذا "التضاعف" والتزايد المخيف في عدد الشباب، فرص حقيقية للعمل والعيش الكريم. فبات كل عام مئات الالاف من الشباب يدخل اسواق العمل بدون أي أفق في عمل وحياة كريمة. الشباب الغاضب والحانق على كل شيء. الشباب الذي وقع بعضه في فخ المنظمات المتطرفة، بينما تعرض قسم آخر لقمع الدولة الديكتاتورية، في الحين الذي آثرّ فيه القسم الاخير الصمت والغرق في قاع المجتمعات والركون الى التأمل والاستسلام للواقع.
الشرارة التي اودت بالهياكل الشمولية والديكتاتورية الحاكمة في العالم العربي، جاءت من تونس. وتونس هذه الدولة الصغيرة كانت تملك كل مقومات التطور والنماء، لولا الطبقة الاوليغارشية التي كوّنت فئة منتفعة ساهمت في مصادرة كل موارد الدولة وحرمان المواطنين من التنمية. في تونس انطلقت شرارة الثورات العربية، وتحولت الى مد شعبي متسارع في الشارع، اختلف كليا عن "ثورات الخبز" القديمة، واودى خلال ثلاثة اسابيع برأس السلطة زين العابدين بن علي وطغمته الفاسدة. وجرت تحولات بعد النصر الشعبي المؤزر على الديكتاتور، عكست طبيعة وخصوصية المجتمع التونسي، وجمعت بين الحداثة التي يمثلها الشباب والفئات اليسارية، وبين "الاصالة" والتي يمثلها الاسلاميون والمحافظون، الذين كان لهم نصيب كبير من قمع النظام السابق. النموذج التونسي مابعد الثورة خاص وفريد من نوعه. رئيس الجمهورية مناضل يساري ورئيس الوزراء اسلامي محافظ. وبين هذا وذاك هناك مجموعة من الوزراء من شباب الثورة والمناضلين السابقين والمعارضين الذين جاؤوا من المنافي. طبعا الحكم على الحكومة الجديدة، أي حكومة مابعد الثورة امر سابق لأوانه. لكن الاكيد بان هناك تشريعات واساليب مراقبة ذاتية وصحافة حرة ستمنع من تكرار الاساليب السابقة في النهب والفساد وقمع الناس وكم افواههم.
في ليبيا كان التغيير دمويا. بدا معمر القذافي غير مستعد لاحداث أي تغيير، بل راهن على استخدام كل القوة ضد الجماهير الثائرة، فيما بدت قوات المعارضة مستعدة لحمل السلاح منذ البداية واستجداء التدخل العسكري من حلف شمال الاطلسي. ولذلك حدثت معارك وحرب اهلية بين الليبيين اسفرت عن مقتل عشرات الالاف. وجراء حسابات دولية تتعلق بخصوصية ليبيا وثروات البلاد من نفط وغيرها، واحتياج الغرب للطاقة، تدخلت قوات حلف شمال الاطلسي لمساعدة قوات المعارضة ضد نظام القذافي. وكان غريبا ان نشاهد قوات حلف شمال الاطلسي وهي تقصف قوات القذافي ممهدة الطريق لفرقة عسكرية يقودها الاسلامي المتطرف عبدالحكيم بلحاج، المعتقل السابق في"غوانتانامو" على لائحة تنظيم "القاعدة" الارهابي!. حدث توائم للمصالح بين الغرب والمعارضة التي ضمت من كل الالوان والتوجهات السياسية، مع غلبة للطيف الاسلامي، المدعوم مباشرة من امارة قطر الخليجية!. وكانت هناك تسمية جديدة لفريق المعارضة الليبية التي قادها الاسلامي مصطفى عبدالجليل وزير العدل السابق في نظام القذافي، والمتعاونة مع اميركا والغرب ومشيخة قطر، وهي: الاسلام الاطلسي!. أي اسلام من نوع حزب العدالة والتنمية التركي، يٌسيطر على افئدة الناس ويخدر عقولهم، مع بقاءه تحت سيطرة الغرب وولائه لحلف شمال الاطلسي!.
سقط القذافي وتصارع الفرقاء فيما بينهم على السلطة وحدثت مواجهات دموية انتهت بالتوافق والانتخابات. ومع اجراء اول انتخابات حرة بعد سقوط نظام القذافي، فاز الليبراليون المدعومون من الغرب والاميل الى الحداثة. وهي ايضا خصوصية ليبية فريدة: اذ كيف ينتصر ليبراليون في بلد تغلب عليه الطبيعة القبليّة والولاءات العشائرية والحس الاسلامي المحافظ؟. على كل حال فان شكل وطبيعة النظام السياسي القادم في ليبيا لم يتضح بعد لكي نكوّن حكما صادقا وموضوعيا حول المرحلة القادمة.
في مصر، والتي كانت فيها مؤسسات وصحافة حرة نوعا ما، جاء التغيير باقل الخسائر الممكنة. تم التخلص من تركة حسني مبارك والحجز عليه هو وابنائه. وجرّت انتخابات تصّدر فيها الاسلام السياسي، وسيطرت قواه: الاخوان المسلمون والسلفيون على مجلس النواب. ومن ثم جرت انتخابات الرئاسة والتي فاز فيها مرشح الاخوان المسلمين بفارق اصوات قليلة نوعا ما عن مرشح النظام السابق الفريق احمد شفيق، آخر رئيس وزراء في عهد حسني مبارك!. وتقول بعض التحليلات بان القوى المضادة للثورة والتي جمعت صفوفها رجعت بقوة الى المشهد السياسي وكادت ان تودي بقوى الثورة. ويقول فريق آخر من المحليين بان ابناء الشعب المصري قد غيّر قناعاته في تنظيمات الاسلام السياسي بعد ان احكمت قبضتها على مجلس النواب، حيث ظهرت بعض فضائح النواب الاسلاميين والتي اثرت في شعبيتهم. فقوى الاسلام السياسي التي سيطرت على 70% من مقاعد مجلس النواب، كادت ان تخسر امام تحالف القوى المضادة للثورة، وقطاع واسع من الاقباط واللييراليين والمرأة والغاضبين على الاسلاميين بسبب فضائح بعض نوابهم الاخيرة. اما قوى الشباب التي شاركت في نشر الثورة على شبكات التواصل الاجتماعي، فقد فشلت فشلا ذريعا في الحصول على أي مكسب سياسي. وهذا يعيد الى الاذهان الرأي الذي يقول بان "الثورة" ضاعت بين الاسلاميين وبين قوى الثورة المضادة!.
وكان المجلس العسكري وبالتعاون مع المحكمة العسكرية الدستورية قد وضع العديد من القوانين من اجل الحد من سيطرة مرتقبة للاسلاميين على مقاليد الحكم والسلطة في البلاد. ورغم ان الحكومة لم تتشكل في مصر، الا ان المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري ضمّن لنفسه مقعد وزير الدفاع مسبقا، وهذا يدل على نوع من السلطة تكون المؤسسة العسكرية وبالتعاون مع السلطة القضائية حاكمة وقادرة على ضبط أي توجه اسلامي قد يؤثر على مفاصل مصر وعلى طبيعة الحكم فيها وعلاقتها بالمنظومة الغربية. واقع شبيه بواقع تركيا، حيث المؤسسة العسكرية القوية والمحكمة الدستورية، قبل سيطرة وتغلغل حزب العدالة والتنمية على الحكم في البلاد.
اما التغييرات في اليمن فقد تم التحكم فيها عبر تنحي الرئيس علي عبدالله صالح وتسلم نائبه الحكم، في استمرارية للنظام القديم، لكن بمزيد من الوعود حول المشاركة الديمقراطية وحكم الشعب في صنع القرار.
يبقى وضع النظام السوري والذي شن حملة حرب كبيرة ضد المعارضة والمطالبين بالديمقراطية والتغيير. نموذج النظام السوري فريد من نوعه. فهو نظام عسكرتاري عنفي لم يتورع عن قتل عشرات الالاف في سبيل الحفاظ على السلطة. ولارتباطات الملف السوري بالعديد من الملفات الاقليمية (ايران والعراق ولبنان) وبالتوازنات الدولية (روسيا والغرب) فان اطرافا كبيرة تدخلت في مسار الثورة السورية وعملت على عسكرتها ودعمها بالمال والسلاح من اجل احداث تغييرات كبيرة وواضحة في التوازنات القائمة في المنطقة والتأثير على التجاذبات الدولية الكثيرة. وكان من ابرز اللاعبين تركيا وقطر والسعودية والذين ساعدوا المعارضة المسلحة وامدوها باسلحة متطورة في سبيل الانتصار على قوات النظام السوري، بينما سارعت ايران والعراق ومنظمة "حزب الله" اللبنانية الى دعم النظام السوري لاسباب ايديولوجية وسياسية ومذهبية واضحة، فكان الصراع بين هذه الاطراف بالوكالة، وكان صراعا دمويا طويلا.
نوعية وتحركات القوى التي تحارب النظام السوري الان لا يوحي بانها ستقيم دولة ديمقراطية تعترف بالقيم والاسس المتعارف عليها في الدول المتقدمة التي تحترم المواطنين وتدافع عن حقوقهم. هذه القوى مرتبطة باجندة اقليمية ولن تتوانى في تنفيذ هذه الاجندة حتى في داخل سوريا. وظهر ارتباط هذه القوى بالخارج من خلال موقفها من القضية الكردية في سوريا. فهذه القوى والتي ماتزال في المعارضة، لم تتوانى عن رفض فكرة وجود شعب كردي في سوريا، رضوخا لإملاءات تركية. وتبدو هذه القوى فكريا راضية ببقاء الشعب الكردي في سوريا غير معترف به دستوريا ومحروما من كل حقوقه، وهو ماكان قائما زمن النظام السوري ايضا.
هناك مفهوم واضح يصور وضع الكرد دون حقوق وكرامة واعتراف على انه الوضع الطبيعي وليس الشاذ. لكن الشاذ هو منح الكرد حقوقهم والاعتراف بهم دستوريا. انه شذوذ عن طبيعة الدولة السورية التي حرمت الكرد من كل شيء منذ استقلالها من فرنسا. ومن الواضح بان الشعب الكردي في سوريا سوف يواجه في المستقبل قوى شوفينية مرتبطة بالاجندة الخارجية لن تقبل بسهولة بوجود وهوية الكرد في بلد ماتزال تصفه هذه القوى بانه بلد "عربي سوري"، وجيشه "عربي سوري"، ونشيده "عربي سوري" يتحدث عن "عرين العروبة" وعن "الرشيد"و "الوليد"!.
والخلاصة بان منطقة الشرق الاوسط ستكون من الان ولعشرات السنين المقبلة محط انظار العالم ومصدرا للاخبار والتقارير، لما سيجري هناك من حوادث وتطورات متسارعة، ستؤثر حتما على العالم برمته، مثلما اثر في 11 سبتمر 2011 انطلاق 19 شابا عربيا مسلما صوب اميركا لغزوها، وهو ما سبب غزو اميركا لبلدين مسلمين واحداث الدمار فيهما وكل هذا الاهتمام بالمنطقة.
التغييرات الديمقراطية التي تقودها القوى الوطنية اليسارية ستستمر، ولكن ببطىء كبير نتيجة تسلح الاطراف الاخرى بالمال والسلاح والأوامر وعدم تكافئ الفرص والامكانات. من المهم القول بان مشروع "الاسلام الاطلسي" المنضبط تحت خيمة اميركا والغرب، سيكون البديل المطروح عن ثورة الشباب ونضال القوى الديمقراطية اليسارية الوطنية. انها اذن حرب طويلة ومواجهات طويلة بين قوى الرأسمالية وبين قوى التغيير الوطنية. قد تختلف الامكانات بين الجانبين، الا ان الامر الثابت هو ان الشعوب ستكون في ثورة دائمة، تصحح من خلالها كل التجاوزات على اهدافها ومصالحها وحياتها.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات