عبدالباري عطوان
لا جدال في ان الرئيس السوري بشار الاسد محاصر امنيا وعسكريا على الارض، ولكنه بات طليقا في الفضاء، والاعلامي منه على وجه الخصوص، مما يعني ان نظريته التي اطلقها سابقا، في منتصف عمر الازمة السورية وقال فيها ‘اننا نسيطر على الارض وهم يسيطرون على السماء’ في اشارة الى القنوات الفضائية العربية المؤثرة، قد ‘تغيرت’ ان لم تكن قد ‘انقلبت’ ولو جزئيا.
فعندما يدلي الرئيس السوري بحديث الى صحيفة اجنبية، ولو كانت شبه مجهولة، فان مضمونه يتصدر العناوين الرئيسية في معظم الصحف ونشرات الاخبار المتلفزة على طول عالمنا وعرضه، ويعكف الخبراء على تحليله وقراءة ما بين سطوره، وكذلك اجهزة المخابرات العالمية.
بالامس اختار الرئيس الاسد قناة الاخبارية السورية، التي حجبتها الجامعة العربية واقمارها الصناعية، للادلاء بحديث بمناسبة عيد الجلاء، احتلت فقرات منه مكانا بارزا في القنوات الفضائية الصديقة والمعادية، حتى قبل بثه على الهواء مباشرة بساعات.
الحديث الصحافي الذي جرى الاعداد له بطريقة جيدة، ولا نستبعد ان تكون الاسئلة جرى اعدادها بشكل دقيق مسبق من القسم الاعلامي في القصر الجمهوري، ولم يتعد دور المذيعة والمذيع قراءتها، والالتزام بالنص حرفيا لان الاجتهاد ليس ممنوعا فقط، وانما قد تترتب عليه عواقب وخيمة.
رسائل عديدة اراد الرئيس الاسد ايصالها لجهات عديدة من خلال هذا الخطاب المقابلة نوردها في النقاط التالية:
اولا: التركيز بالدرجة الاولى على خطر تنظيم ‘القاعدة’ ومحاولة تحذير الغرب من اخطاره، ليس في سورية فقط وانما في قلب اوروبا وامريكا، وكأنه يقول ‘نحن في خندق واحد، والخطر يشملنا جميعا، وانا مستعد للتعاون معكم في مواجهة هذا التنظيم، اذا اردتم.
ثانيا: الربط بين وجوده واستمراره في الحكم وبين وجود سورية كدولة وكيان، عندما يقول ‘لا خيار لنا غير الانتصار في هذه الحرب الدائرة منذ سنتين، والا فان سورية ستنتهي’ في تلميح مباشر الى احتمالات تفتيت سورية على اسس عرقية وطائفية في حال سقوط النظام وانتصار الثورة المسلحة.
ثالثا: الانتقال من مرحلة الدفاع الى الهجوم، والمقصود هنا الهجوم الاعلامي، الذي قد يكون تمهيدا لهجوم امني او عسكري، ففي جميع الخطابات السابقة تجنب الرئيس الاسد التطرق الى الدول التي تدعم الثورة بالاسم وانتقادها، وكان يغرق في العموميات، ولكنه في هذا الحديث كان صريحا مباشرا في هجومه على الاردن الجار الجنوبي، واتهامه بالسماح لآلاف المقاتلين واسلحتهم بالتدفق الى العمق السوري، ‘بينما كان الاردن قادرا على ايقاف او القاء القبض على شخص واحد يحمل سلاحا بسيطا للمقاومة في فلسطين’ وهذا كلام صحيح اختلف البعض مع الاسد او اتفقوا.
رابعا: استهداف تركيا حزب العدالة والتنمية والهجوم الشخصي على رجب طيب اردوغان وفشل سياسة الصفر مشاكل التي ابتكرها وزير خارجيته احمد داوود اوغلو بالقول انها انتهت ‘صفر رؤية’ و’صفر سياسة’ و’صفر اخلاق’. وتركيزه على الاردن وتركيا يعكس مدى تأذيه من دور الدولتين في دعم الثورة السورية المسلحة وارسال الاسلحة والمقاتلين الى بلاده.
خامسا: محاولة عزل الاكراد عن النفوذ التركي والغربي، من خلال التودد لهم والتأكيد على وطنيتهم، والايحاء بان سورية لم ترتكب اي مجازر ضدهم.
سادسا: الرسالة الاهم في هذه المقابلة الخطاب، كانت موجهة الى الشعب السوري ومحاولة حشده خلف النظام، والقاء تهم الطائفية وتقسيماتها على المعارضة الاسلامية وحركة الاخوان بالذات، ومن سماهم بالتكفيريين، وما زال من السابق لاوانه الحكم بنجاح او فشل هذا التركيز.
الرئيس الاسد بدا قلقا في هذه المقابلة، على عكس المقابلات والخطابات السابقة، وقلقه الاكبر من تنظيم ‘القاعدة’ والجماعات الجهادية الاخرى المتحالفة معه، ومخاوفه من تأثير هذا التواجد على مستقبل النظام، وسورية بشكل عام، وهذا ما يفسر هجومه الشرس على دولتي الممر لهذه الجماعات وهما الاردن وتركيا، وتوجيه انذار مباشر لهما من ان الحريق لن يتوقف عند حدود سورية’
من الواضح، وبسبب الخوف من الجماعات الجهادية، ان الرئيس الاسد اغلق باب الحوار مع معظم شخصيات المعارضة الخارجية، والائتلاف الوطني على وجه الخصوص، عندما اتهم هذه المعارضات بانها ليست احزابا وليس لها وجود على الارض، ولا تتمتع بدعم شعبي، ومعظمها فاقد استقلالية القرار، ويرتهن لرهانات خارجية، وهذا يتعارض كليا مع تصريحات سابقة لمسؤولين سوريين ترحب بالحوار مع الجميع، فقد قسم معارضي نظامه الى تكفيريين ومرتزقة، وهذا تقسيم يعني انه اختار الاستمرار في الحلول الامنية الدموية، وان كل الاحاديث عن الحوار كانت من اجل كسب الوقت لا اكثر ولا اقل.
المعارضة السورية تضم شخصيات وطنية مستقلة، واذا كانت هذه الشخصيات تعيش خارج سورية، فان هذا لا يعيبها، لانها لو استمرت في التواجد في سورية، ومارست المعارضة فانها اما ستكون في السجون والمعتقلات او تكون قد انتقلت الى الرفيق الاعلى.
الرئيس الاسد اكد اكثر من مرة ان الوضع في سورية الآن افضل مما كان عليه في بداية الازمة، وربما وصل الى هذه القناعة بسبب صمود نظامه عامين على الاقل، وافشل بذلك كل الرهانات على سقوطه بعد اسابيع او اشهر، ولكن ما يمكن ان نختلف عليه معه ان حالة الجمود الحالية على الجبهات القتالية تعكس فشل النظام ايضا على تحقيق الحسم العسكري الذي كان يأمله.
فرص الحل السياسي، وبعد مقابلة الرئيس الاسد هذه تراجعت، ان لم تكن تبخرت، فطالما انه ربط بقاء سورية كوطن وكيان، باستمرار النظام الذي يرأسه في الحكم، فاننا امام حرب طويلة جدا، لا يمكن ان تنتهي الا بانتصار طرف على آخر.
الرئيس الاسد يعتقد انه المنتصر في النهاية وان ‘الشعب السوري العظيم سيصمد’ ولا اعتقد انه من الممكن ان يقول غير ذلك حتى لو وصل عدد القتلى الى مئات الآلاف.
_____________________عبدالباري عطوان-القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات