ليس من صديق لها، مهما بدا أن علاقاتها جيدة أو طبيعية مع هذه الدولة أو تلك. فـ»حزب العدالة والتنمية» الذي اتبع سياسات «صفر مشكلات»، ودخل الى كل البلاد العربية تحت شعارات مبهرجة وملونة ومزخرفة لم يمتلك القدرة على الصمود مع انطلاق أول «رصاصة» في مسار أسوأ ما عرفه العرب من حقبة، أطلق عليها اسم «الربيع العربي». فانقلب الحزب على الجميع، لا فرق بين عربي وكردي وفارسي وأرمني، أو بين شيعي وعلوي وسني ووهابي وزرادشتي وإيزيدي ومسيحي. كان الشعار الدائم هو الانحياز إلى مشروع واحد، تشاء الصدف انه يطل برأسه من جديد على أبواب مئوية موته، أي سقوط السلطنة العثمانية.
لقد عادت تركيا العرب وحركات تحررهم واستقلالهم على امتداد العقود التي تلت سقوط السلطنة. حتى شعار»سلام في الوطن سلام في العالم» الذي رفعه أتاتورك، انعكاساً لسياسة الانكفاء، عرف أطماعاً أولى في شمال العراق فشلت في العام 1925، وثانية نجحت في لواء الاسكندرون في العام 1939.
مهما يكن فإن علاقة تركيا بعد الحرب الباردة مع المنطقة العربية كانت انخراطاً في تحالف غربي وأطلسي في مواجهة الشيوعية وحركات التحرر العربية. كان يمكن لحكومات تركيا حينها أن تختار ما تريد من سياسات، ولكنها على الأقل كانت تتعاطى مع المنطقة على أساس دولة في مواجهة دولة.
غير أن الحال مع «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب أردوغان (ومعه احمد داود أوغلو) كان مختلفاً جداً. تجاوز الثنائي التركي اعتبارات الحدود والسيادة. وإلغاء الحدود الاقتصادية، حيث أمكن، لم يكن يقصد منه في ما بعد سوى إلغاء الحدود السياسية والاجتماعية والثقافية، لكن على أساس الهيمنة لا الندية والتسلط لا الأخوة والاستعلاء لا الإحترام.
دخل «حزب العادلة والتنمية» إلى كل مدينة وحي وشارع وبيت، داعماً هذا الطرف ضد ذاك، وهذه العشيرة ضد تلك، وهذا المذهب على حساب غيره. دخل إلى النسيج الداخلي الاجتماعي ممعناً فيه، مستغلا المشكلات الموجودة، والتي هي أيضا موجودة في تركيا، مستخدماً كل أنواع الأسلحة المحرمة أخلاقياً وإسلامياً، وفي مقدمها سلاح الفتنة المذهبية.
رغم أن تركيا جزء لا يتجزأ من السياسات الغربية والإسرائيلية في المنطقة، غير أنها بنزعتها العثمانية الجديدة أفردت لنفسها حيزاً خاصاً، وحيثية لا تلغيها التحالفات الدائمة مع الغرب. وهذه النزعة مضت إلى محاولة تحقيق أهدافها بقوة وبسرعة. ولأنها ذات رأسين، قومي متشدد ومذهبي بفرع «إخواني»، فهي دخلت في صدامات مع الجميع لأنها تلغي الجميع. ولأنها كذلك فقد واجهت رفضاً من قبل الجميع. لذا عندما ننظر إلى خريطة العلاقات الحالية لتركيا فلن نجد سوى علاقات صفرية مع الجميع.
كان «الربيع العربي» بمثابة اختبار «الكشف المبكر» عن الأمراض في عقول صانعي قرار السياسة الخارجية لدى النخبة الحاكمة في «العدالة والتنمية». فكانت الخلاصة مسيئة لصورة التركي، الذي لم يوفر وسيلة غير شرعية لتحقيق أهدافه متجاوزاً كل اللياقات والأعراف في العلاقات الدولية، ومنها علاقات الجيرة. فباتت صورة تركيا تلك الداعمة للإرهاب والممر له والمقر.
في تركيا مثل شائع، وهو انه «لا صديق للتركي سوى التركي». وللأسف ترجم «حزب العدالة والتنمية» هذا المثل على أرض الواقع، فاندفع في سياسات مخادعة للجميع، بمن فيهم من يمكن أن يكونوا في لحظة تقاطع حلفاء الضرورة، مثل السعودية.
سياسات مزدوجة، أو كما يقال «اللعب على الحبلين»، لا تنتج سوى انعدام ثقة في صانعيها.
على سبيل المثال كان أردوغان كلما ذهب إلى طهران يعود ويقوم بحركة سياسية، أو عسكرية، مسيئة لإيران ولحلفائها. في المرة الأولى عاد من طهران فاحتل كسب في ريف اللاذقية، وفي الثانية عاد منها وأرفقها بشن أعنف هجوم على الشيعة، وفي الثالثة الأخيرة قبل أسابيع، ولن تكون الأخيرة، عاد من طهران فاحتل ادلب وجسر الشغور. وإذا قسنا على هذه التجارب، فقد بتنا نخشى أي زيارة يقوم بها أردوغان لطهران، لأنه سيتبعها بسلوك أقل ما يقال فيه أنه خلاف ما يبلغه للمسؤولين الإيرانيين.
وعندما بدأت السعودية حربها على اليمن سارع أردوغان إلى إعلان تأييده لها، معرباً عن استعداده لتقديم معلومات استخبارية. وفي لغة السعودية فإن الدعم ليس سوى المشاركة الفعلية في الحرب، جواً وبراً وبحراً، وهذا قبل ان يعلن البرلمان الباكستاني تمنعه عن المشاركة في الحرب. بالطبع الرياض سعت لمنع بقاء حربها سعودية، وبحثت عن دعم دولي، لكنها بالتأكيد لن تجده لدى تركيا التي لا ترى في الرياض سوى أحد أسباب قصم ظهر مشروعها في مصر، وحيث لا توفر خطب أردوغان، ولا صحافته، الأسرة السعودية وسياساتها من النقد اللاذع، بل الشامت أحياناً كثيرة.
وعندما بدأ الاستعداد أو الحديث عن معركة تحرير الموصل بادرت أنقرة إلى رفض مشاركة «الحشد الشعبي» العراقي في تحريرها، بل أعربت تركيا، في خطوة لا تنطلي على اللبيب، عن استعدادها للمشاركة في تحرير المدينة، التي ساهمت في احتلالها العام الماضي عبر دعمها المفضوح لتنظيم «داعش» بكل الوسائل. فكيف لها أن تحرر مدينة ساهمت هي في احتلالها، كما في احتلال المناطق الأخرى من العراق وسوريا؟.
يتناقض المشروع الأردوغاني العثماني مع الجميع. لذا فإن تقاطعه مع بعض الدول الإقليمية، من أجل احتلال إدلب وجسر الشغور لن يمنح تلك الدول أماناً، ولا دعماً تركياً في أماكن اخرى من المنطقة.
مشكلة المشروع العثماني لأردوغان أنه يأتي في الزمان الخطأ، والمكان الخطأ، خارج أي اعتبار لمتغيرات على امتداد مئة عام. ولذلك فإن إنهزامه حتمي، وقد تحقق، ولن ينبعث من جديد، مهما لوّح أردوغان بالقرآن قبل أيام في استعادة خبيثة لمعاوية في صفين.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات