* علي السقا
لم تفعل الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
غالباً ما تمنح نظرية المؤامرة أولئك الذين يتعطّشون لفهم ما يجري من حولهم ما يكفي من الطمأنينة التي تحرّر أكتافهم من المسؤولية متعدّدة الوجوه حيال الأحداث الجسيمة التي يعيشون تداعياتها. وهؤلاء إذ يغذّون تلك النظرية فيعمدون إلى ترسيخ وظيفتيها السياسية والاجتماعية، يستحيل معها أيّ حدث عبارة عن منتوج خارجي على هيئة جسم غريب يكفي أن يواجه بالقوّة إجمالاً ليتم التخلّص منه.
الكلام الآنف ليس وظيفته الحطّ من نظرية المؤامرة ولا الإعلاء من شأنها فهذا بحث آخر، إلا أن مُقاربة ظواهر حسّاسة، وتكاد تكون مصيرية، مثل ظاهرة المقاتلين المراهقين في داعش، يُفترض أن تتم مناقشتها وتحليلها باستخدام أدوات مفاهيمية تتجاوز الركون إلى نظرية المؤامرة كمرجعية وحيدة.
في ما يلي، قراءة مطوّلة تحاول الإحاطة بالأسباب السياسية والاجتماعية والنفسيّة، التي ربما قد تكون دفعت وتدفع الكثير من الشباب إلى أتون المعارك في سوريا والعراق. وهذا يستدعي الحديث بنود يفترض أنها تلعب دور المساعد على "فهم" ظاهرة نشوء داعش ثم قدرته على استقطاب المقاتلين، وذلك لغاية السعي إلى استجلاء الصورة في أبعادها المكانيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة.
- ولكن يا أبي، هل سنربح الحرب؟
- طبعاً يا بُنيّ، لا بل ستنتهي قبل أن تستيقظ.
- لماذا؟
- لأنها إن لم تنتهِ بسرعة، فسوف يغضب الناخبون من السيّد بوش، وربما امتنعوا عن الاقتراع لصالحه في آخر الأمر.
- ولكن هل سيكون هناك قتلى يا أبي؟
- لن يُقتل أحد ممن تعرفهم يا بُنيّ. الغرباء فقط سيُقتلون.
- وهل سأرى كل هذا على التلفزيون؟
- فقط إذا وافق السيّد بوش.
- وبعد ذلك، سيعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي؟ ولن يرتكب أحد أية فظاعات؟
- هسّ يا بُنيّ، هيا نم[1].
تكاد هذه المحادثة المُتخيّلة بين أب وابنه، أن تلخّص تاريخاً مديداً من إزدواجية المعايير الأخلاقية عند الغرب. وإذ ليس من الموضوعية في شيء اعتماد أسلوب الإطلاق على شعوب بأكملها، فإن التاريخ السياسي الأوروبي والأميركي القريب والبعيد، لا يزال يؤشّر صراحة إلى وجود هذه الازدواجية. ولذلك فإن سؤالاً أخلاقياً لا ينفكّ يكرّر نفسه. إذا كان حقّ الانسان في أوروبا وأميركا في الحياة مُقدّس، وغير قابل للمَسَاس به إلا في حدود ما تمّ التعاقد عليه بين الشعب والسلطة، فما هي القاعدة الأخلاقية التي تخوّل هذه السلطة سلب مَن هم خارج نطاق سلطانها حقّهم في الحياة؟ ثم ما هي المبرّرات الأخلاقية لفعل القتل؟ وكيف لشعوب تقدّس الحقّ في الحياة، أن تُسهم في وصول سلطة وتمنحها الشرعية السياسية والقانونية التي تخوّلها ممارسة القتل؟
يكشف الواقع الحالي والتاريخ القريب لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، إن فعل القتل إنما تمّ ولا يزال يتمّ باستسهال مُطلِق. هكذا يمكن العثور بشكلٍ شبه يومي على أخبار عن مقتل مدنيين "عن طريق الخطأ"، في كلٍ من الدول التي أعلنت الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001، حربها ضد الإرهاب فيها أو حربها عليها. ففي العراق، أُبيدت الشهر الماضي عائلة زيدان العراقية المكوّنة من 36 مدنياً بأكلمها في قصفٍ مخزن لتنظيم داعش في منطقة اليابسات السكنية في الموصل، من بينهم 17 امرأة و11 طفلاً.
هذه المجزرة جاءت قبل إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قبل نحو شهر الموافقة على توجيه الضربات الجويّة ضدّ أهداف داعش في العراق وسوريا، حتى لو أدّت إلى سقوط الضحايا من المدنيين ومن دون الرجوع إلى القيادة العسكرية، إذا ما تبين أن هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.
وهذا يعني أن ما حصل مع عائلة زيدان في الموصل، سيحصل مع غيرها، لكنّه مدّعم بغطاء قانوني يبرّر فعل القتل تحت مُسمّى "أضرار جانبية". لماذا؟
ليس من الإجحاف القول إن لهذا النوع من القتل اليومي بالشكل الآنف الذكر سيرورته. ذلك أن هذا الشكل من القتل لم يكن إبن وقته. فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن لفعل القتل الذي مُورِسَ بحقّ العرب والمسلمين، من الانتداب وصولاً إلى الحرب على الإرهاب، له جذوره الفكريّة والفلسفيّة. ليست الغاية من هذا الكلام محاولة إيجاد تقابل بين جلاّد وضحية. ذلك أن لكل مجتمع من المجتمعات منهما نصيب، وما عدا ذلك فهو ضرب من المثالية فارغ. لكن الثابت إلى الآن أن فعل القتل المُمارس ضدّ العرب وغيرهم، إنما خضع لتبريرات تجد أسسها في الثقافة.
تتحمّل الثقافة وِزرَ أكبر قدر من الفظاعات المُرتكبة في تاريخ البشرية. إنطلاقاً من هذه المُسلّمة انطوت الثقافة الأوروبية على كمّ من الأحكام المُسبَقة، التي أجازت عبر تاريخ طويل قتل "الغريب المتخلّف". الحداثة الغربية رسّخت عبر مسيرتها إزدواجية المعايير الأخلاقية تجاه فعل القتل. فقد ثبّتت الحكم الديني والثقافي والاخلاقي على أديان وشعوب في افتعال مقارنة مضطربة وظالمة، ومن بينها المقارنة بين المسيحية والإسلام، ثم القول بقدرة الأولى المتحقّقة في التقدّم والتطوّر، ولعب الثاني دور إقعاد أتباعه والعالم عن سلك دروب التّحديث.
تشهد كتابات بعض المستشرقين[2] طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على توكيد تلك النظرة المُسبَقة التي حملت ثقافة الحداثة الغربية على الاعتداد بما يكفي بقيمها، لرمي الآخر المُسلِم بصفة التخلّف، الذي تأسّس على الربط بين تديّنه بالإسلام وبين "تخلّفه وتوحّشه"، ثم انسحب لاحقاً ليطال جغرافيا تشمل مسيحيين أيضاً (أفريقيا وأوروبا الشرقية)، حيث أُرسيت مقولة عالمي الشمال والجنوب بشكل إطلاقي وصلف.
يمكن القول إن السياسة الأميركية ومنذ أكثر من عقد، هي الإبن الشرعي للتاريخ الأوروبي الذي سبقها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بعقود. فازدواجية المعايير الأخلاقية هي نفسها التي ظلّ مسرحها عالم "الأغراب"، حيث القتل مُباح غالباً بحجة دفع الخصم إلى "التحضّر والمدنيّة".
ليس من الصعب على أي دارس لتاريخ المنطقة العربية أن يعثر على سُحُب الدّم المُتتالية. بإمكان هذا الدارس أن يُلصِق صورتين للمكان نفسه وفي زمنين مختلفين، ثم يتأملهما من دون أن يجد أدنى فرق بين ممارسات الانتداب وبين السياسة الأميركية منذ العام 2003، سوى أن الصورة الأولى لم تتمكّن من إظهار أحمر الدّم على هيئته الحقيقيّة.
وفي هذا السِياق بإمكاننا أن نستشهد بتقريرٍ صدر العام الماضي عن جمعية أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية "بي إس آر"، والتي توصّلت فيه إلى أن عدد القتلى نتيجة عشر سنوات من "الحرب على الإرهاب"، أي منذ هَجَمَات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قد "وصلت على الأقل إلى 1.3 مليون، وقد تصل إلى مليونين".
هذه الحرب التي بدأت باجتياح أفغانستان ثم العراق بعناوين فضفاضة تمتاز بها العقليّة الأميركية ومنها "الحرب العادلة"، رفدت حينها برسالة موقّعة من مجموعة كبيرة من المثقفين الأميركيين، الذين سعوا إلى إيجاد ما يكفي من مسوّغات فكرية وأخلاقية لتلك الحرب، بالرغم من اعترافهم الضمني بمشاعر الحقد الذي يكنّه المسلمون للولايات المتحدة رداً على سياستها.
في ما يلي، قراءة مطوّلة تحاول الإحاطة بالأسباب السياسية والاجتماعية والنفسيّة، التي ربما قد تكون دفعت وتدفع الكثير من الشباب إلى أتون المعارك في سوريا والعراق. وهذا يستدعي الحديث بنود يفترض أنها تلعب دور المساعد على "فهم" ظاهرة نشوء داعش ثم قدرته على استقطاب المقاتلين، وذلك لغاية السعي إلى استجلاء الصورة في أبعادها المكانيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة.
- ولكن يا أبي، هل سنربح الحرب؟
- طبعاً يا بُنيّ، لا بل ستنتهي قبل أن تستيقظ.
- لماذا؟
- لأنها إن لم تنتهِ بسرعة، فسوف يغضب الناخبون من السيّد بوش، وربما امتنعوا عن الاقتراع لصالحه في آخر الأمر.
- ولكن هل سيكون هناك قتلى يا أبي؟
- لن يُقتل أحد ممن تعرفهم يا بُنيّ. الغرباء فقط سيُقتلون.
- وهل سأرى كل هذا على التلفزيون؟
- فقط إذا وافق السيّد بوش.
- وبعد ذلك، سيعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي؟ ولن يرتكب أحد أية فظاعات؟
- هسّ يا بُنيّ، هيا نم[1].
تكاد هذه المحادثة المُتخيّلة بين أب وابنه، أن تلخّص تاريخاً مديداً من إزدواجية المعايير الأخلاقية عند الغرب. وإذ ليس من الموضوعية في شيء اعتماد أسلوب الإطلاق على شعوب بأكملها، فإن التاريخ السياسي الأوروبي والأميركي القريب والبعيد، لا يزال يؤشّر صراحة إلى وجود هذه الازدواجية. ولذلك فإن سؤالاً أخلاقياً لا ينفكّ يكرّر نفسه. إذا كان حقّ الانسان في أوروبا وأميركا في الحياة مُقدّس، وغير قابل للمَسَاس به إلا في حدود ما تمّ التعاقد عليه بين الشعب والسلطة، فما هي القاعدة الأخلاقية التي تخوّل هذه السلطة سلب مَن هم خارج نطاق سلطانها حقّهم في الحياة؟ ثم ما هي المبرّرات الأخلاقية لفعل القتل؟ وكيف لشعوب تقدّس الحقّ في الحياة، أن تُسهم في وصول سلطة وتمنحها الشرعية السياسية والقانونية التي تخوّلها ممارسة القتل؟
يكشف الواقع الحالي والتاريخ القريب لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، إن فعل القتل إنما تمّ ولا يزال يتمّ باستسهال مُطلِق. هكذا يمكن العثور بشكلٍ شبه يومي على أخبار عن مقتل مدنيين "عن طريق الخطأ"، في كلٍ من الدول التي أعلنت الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001، حربها ضد الإرهاب فيها أو حربها عليها. ففي العراق، أُبيدت الشهر الماضي عائلة زيدان العراقية المكوّنة من 36 مدنياً بأكلمها في قصفٍ مخزن لتنظيم داعش في منطقة اليابسات السكنية في الموصل، من بينهم 17 امرأة و11 طفلاً.
هذه المجزرة جاءت قبل إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قبل نحو شهر الموافقة على توجيه الضربات الجويّة ضدّ أهداف داعش في العراق وسوريا، حتى لو أدّت إلى سقوط الضحايا من المدنيين ومن دون الرجوع إلى القيادة العسكرية، إذا ما تبين أن هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.
وهذا يعني أن ما حصل مع عائلة زيدان في الموصل، سيحصل مع غيرها، لكنّه مدّعم بغطاء قانوني يبرّر فعل القتل تحت مُسمّى "أضرار جانبية". لماذا؟
ليس من الإجحاف القول إن لهذا النوع من القتل اليومي بالشكل الآنف الذكر سيرورته. ذلك أن هذا الشكل من القتل لم يكن إبن وقته. فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن لفعل القتل الذي مُورِسَ بحقّ العرب والمسلمين، من الانتداب وصولاً إلى الحرب على الإرهاب، له جذوره الفكريّة والفلسفيّة. ليست الغاية من هذا الكلام محاولة إيجاد تقابل بين جلاّد وضحية. ذلك أن لكل مجتمع من المجتمعات منهما نصيب، وما عدا ذلك فهو ضرب من المثالية فارغ. لكن الثابت إلى الآن أن فعل القتل المُمارس ضدّ العرب وغيرهم، إنما خضع لتبريرات تجد أسسها في الثقافة.
تتحمّل الثقافة وِزرَ أكبر قدر من الفظاعات المُرتكبة في تاريخ البشرية. إنطلاقاً من هذه المُسلّمة انطوت الثقافة الأوروبية على كمّ من الأحكام المُسبَقة، التي أجازت عبر تاريخ طويل قتل "الغريب المتخلّف". الحداثة الغربية رسّخت عبر مسيرتها إزدواجية المعايير الأخلاقية تجاه فعل القتل. فقد ثبّتت الحكم الديني والثقافي والاخلاقي على أديان وشعوب في افتعال مقارنة مضطربة وظالمة، ومن بينها المقارنة بين المسيحية والإسلام، ثم القول بقدرة الأولى المتحقّقة في التقدّم والتطوّر، ولعب الثاني دور إقعاد أتباعه والعالم عن سلك دروب التّحديث.
تشهد كتابات بعض المستشرقين[2] طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على توكيد تلك النظرة المُسبَقة التي حملت ثقافة الحداثة الغربية على الاعتداد بما يكفي بقيمها، لرمي الآخر المُسلِم بصفة التخلّف، الذي تأسّس على الربط بين تديّنه بالإسلام وبين "تخلّفه وتوحّشه"، ثم انسحب لاحقاً ليطال جغرافيا تشمل مسيحيين أيضاً (أفريقيا وأوروبا الشرقية)، حيث أُرسيت مقولة عالمي الشمال والجنوب بشكل إطلاقي وصلف.
يمكن القول إن السياسة الأميركية ومنذ أكثر من عقد، هي الإبن الشرعي للتاريخ الأوروبي الذي سبقها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بعقود. فازدواجية المعايير الأخلاقية هي نفسها التي ظلّ مسرحها عالم "الأغراب"، حيث القتل مُباح غالباً بحجة دفع الخصم إلى "التحضّر والمدنيّة".
ليس من الصعب على أي دارس لتاريخ المنطقة العربية أن يعثر على سُحُب الدّم المُتتالية. بإمكان هذا الدارس أن يُلصِق صورتين للمكان نفسه وفي زمنين مختلفين، ثم يتأملهما من دون أن يجد أدنى فرق بين ممارسات الانتداب وبين السياسة الأميركية منذ العام 2003، سوى أن الصورة الأولى لم تتمكّن من إظهار أحمر الدّم على هيئته الحقيقيّة.
وفي هذا السِياق بإمكاننا أن نستشهد بتقريرٍ صدر العام الماضي عن جمعية أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية "بي إس آر"، والتي توصّلت فيه إلى أن عدد القتلى نتيجة عشر سنوات من "الحرب على الإرهاب"، أي منذ هَجَمَات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قد "وصلت على الأقل إلى 1.3 مليون، وقد تصل إلى مليونين".
هذه الحرب التي بدأت باجتياح أفغانستان ثم العراق بعناوين فضفاضة تمتاز بها العقليّة الأميركية ومنها "الحرب العادلة"، رفدت حينها برسالة موقّعة من مجموعة كبيرة من المثقفين الأميركيين، الذين سعوا إلى إيجاد ما يكفي من مسوّغات فكرية وأخلاقية لتلك الحرب، بالرغم من اعترافهم الضمني بمشاعر الحقد الذي يكنّه المسلمون للولايات المتحدة رداً على سياستها.
في معرض نقاشه لهذه الرسالة يرى المفكّر الفرنسي جان بودريار أن أي قارىء لها "يُدرك المكانة الرمزية العالية التي ينبغي أن يحتلّها الوازِع الاخلاقي في صنع السياسات، لكنّه هو أيضاً، وهم يتميّز به الأميركيون"، ويتابع أن هذا الوهم هو الذي يجعل الأميركيين "يقيمون في اليوتوبيا[3] المتحقّقة" التي تنبني على "بلوغ قدر موصوف من القوّة المُطلقة العسكرية والاقتصادية والسياسية"، ليوضح تلك الازدواجية في المعايير الأخلاقية فيقول "تصبح الفضائل الشمولية مبادىء لا ينطبق اعتبارها إلا في الحاضرة الامبراطورية ... على غِرار التجارب اليونانية والرومانية والبريطانية ... فما ينطبق على المواطنين من أهلها لا ينطبق على الخارج البربري، وكل ما ليس هي، هو بربري تعريفاً. وعلى الخارج البربري أن يكتفي بسبيلين للتدخّل: عسكري ماحِق، و"إنساني" خيري"[4].
لم تفعل تلك الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
___________________"الإسلام هو الحلّ"
لم تفعل تلك الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
___________________"الإسلام هو الحلّ"
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.
في الجزء الأول من هذه القراءة، ناقشنا الخلفية الثقافية التي أسست لفعل القتل الذي مورس بحق العرب والمسلمين، لأكثر من قرنين. الأمر الذي جعل من الحروب المتتالية على المنطقة، تدفع نحو تعميق الشعور الإسلامي بالظلم المقيم أمام القوة الغربية. غير أن هذا الشعور ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، متخذاً بعداً تراجيدياً مع انهيار الخلافة الإسلامية التي شكلت لقرون عنوان القوة الإسلامية الماحقة.
في الجزء الثاني من هذه القراءة، سنقوم بتسليط الضوء على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، ثم صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة جديدة جامعة هي القومية العربية. قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية العربية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها.
من الخِلافة إلى القومية العربية ... "الإسلام هو الحلّ"
في الجزء الثاني من هذه القراءة، سنقوم بتسليط الضوء على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، ثم صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة جديدة جامعة هي القومية العربية. قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية العربية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها.
من الخِلافة إلى القومية العربية ... "الإسلام هو الحلّ"
استطاعت كتابات أغلب المستشرقين أن تؤسّس للسيرورة التاريخية للاستعمار. وإذا كانت الغاية غير المُعلن عنها حينها هي الهيمنة الاقتصادية، فإن الغرب خاطب شعوبه باللّغة التي يفهمها، لتكون مسوّغاً منطقياً لوجود جنوده في أراضٍ غريبة. أي تلك اللغة التي احتكمت إلى قِيَم الحَدَاثة الأوروبية، حيث "الرقّي" مقابل "التوحّش"، و"التقدّم" و"العلم" مقابل "التخلّف" و"الغيبيات". لغة جعلت الاستعمار واجباً "إنسانياً"، لتحضير هؤلاء "الأغراب" غير المؤهّلين لحكم أنفسهم وربطهم بالحَدَاثة، ولو استلزم هذا الربط قتل ما يكفي من المعارضين.
قد لا يختلف واحدنا بأنه كان للاستعمار وجه إيجابي، حيث مثّلت تواريخ مُعيّنة ممهّدة له، صدمة دفعت ببعض العرب[1] ومنهم مسلمين كباراً إلى محاولة تلقّف منجزات الحَدَاثة الغربية، لكن انطلاقاً من مقولة إن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث السياسي والاقتصادي وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية والثقافية (الإمام محمّد عبده [2]، رفاعة الطهطاوي وغيرهما).
لكن بالرغم مما حقّقه الاستعمار من صدمة إيجابية في بعض النواحي، إلا أن ثقله كان لا يزال رابضاً فوق صدور شعوب المنطقة العربية التي ينتمي جلّها إلى الإسلام. حيث مثّل الاستعمار بالنسبة إلى شرائح واسعة، الحقيقة القاطعة بانهيار آخر فصول التاريخ الإسلامي مع إرث المسلمين الطويل مع الخلافة.
كان لهذا الواقع أثر الصدمة على الكثيرين. وظل الوعي العام منقسماً بين ثلاثة أجنحة، جناح يسعى إلى استعادة الخلافة، وجناح يروم الغاية نفسها ولكن بشروط سياسية واجتماعية جديدة، أي دولة إسلامية ببنى حديثة، وهو ما عبّرت عنه حركة الإخوان المسلمين، وبين طرف ثالث قال بضرورة تكوين دول وطنية على قاعدة قوميّة جاءت في الأساس رداً على سياسة التتريك التي فرضت على المسلمين والمسيحيين الالتحاق بتركيا بوصفهم رعايا أتراكاً.
لكن الغَلَبَة وقتها كانت للحركة القومية العربية، التي حاولت أن تقدّم نفسها بوصفها بديلاً، يحاول المواءمة بين الإسلام والعروبة، لكنه مفتوح بالدرجة الأولى على استيعاب التنوّع الديني والإثني (المسيحي خصوصاً)، وهذا كان يستلزم شكلاً جديداً من أنماط الدول التي لم يكن للعرب بها عهد من قبل. هكذا عبّدت القومية العربية الطريق أمام صعود أنظمة "علمانية" حاولت أن تستنسخ في جلّها العلمانية الفرنسية، التي تمتلك هي الأخرى خصوصيتها في أوروبا (كما هي الحال في تونس إبّان حكم بو رقِيبة وصولاً إلى بن علي).
قد لا يختلف واحدنا بأنه كان للاستعمار وجه إيجابي، حيث مثّلت تواريخ مُعيّنة ممهّدة له، صدمة دفعت ببعض العرب[1] ومنهم مسلمين كباراً إلى محاولة تلقّف منجزات الحَدَاثة الغربية، لكن انطلاقاً من مقولة إن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث السياسي والاقتصادي وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية والثقافية (الإمام محمّد عبده [2]، رفاعة الطهطاوي وغيرهما).
لكن بالرغم مما حقّقه الاستعمار من صدمة إيجابية في بعض النواحي، إلا أن ثقله كان لا يزال رابضاً فوق صدور شعوب المنطقة العربية التي ينتمي جلّها إلى الإسلام. حيث مثّل الاستعمار بالنسبة إلى شرائح واسعة، الحقيقة القاطعة بانهيار آخر فصول التاريخ الإسلامي مع إرث المسلمين الطويل مع الخلافة.
كان لهذا الواقع أثر الصدمة على الكثيرين. وظل الوعي العام منقسماً بين ثلاثة أجنحة، جناح يسعى إلى استعادة الخلافة، وجناح يروم الغاية نفسها ولكن بشروط سياسية واجتماعية جديدة، أي دولة إسلامية ببنى حديثة، وهو ما عبّرت عنه حركة الإخوان المسلمين، وبين طرف ثالث قال بضرورة تكوين دول وطنية على قاعدة قوميّة جاءت في الأساس رداً على سياسة التتريك التي فرضت على المسلمين والمسيحيين الالتحاق بتركيا بوصفهم رعايا أتراكاً.
لكن الغَلَبَة وقتها كانت للحركة القومية العربية، التي حاولت أن تقدّم نفسها بوصفها بديلاً، يحاول المواءمة بين الإسلام والعروبة، لكنه مفتوح بالدرجة الأولى على استيعاب التنوّع الديني والإثني (المسيحي خصوصاً)، وهذا كان يستلزم شكلاً جديداً من أنماط الدول التي لم يكن للعرب بها عهد من قبل. هكذا عبّدت القومية العربية الطريق أمام صعود أنظمة "علمانية" حاولت أن تستنسخ في جلّها العلمانية الفرنسية، التي تمتلك هي الأخرى خصوصيتها في أوروبا (كما هي الحال في تونس إبّان حكم بو رقِيبة وصولاً إلى بن علي).
وعلى الرغم من التقاطع بين الإسلام وبين القومية العربية في العديد من المُشتَركات التي يجسّدها الإسلام الثقافي وأولها اللغة، لم تتمكّن القومية العربية من أن تحصّل للمسلمين ما ضاع منهم. فهي لم تستطع، أن تثبت لهم عن مقدرتها في أن تكون بديلاً نهائياً من الخلافة، كما لم تستطع أيضاً استعادة ما خسره المسلمون في بداية عمر دولهم القُطرية، أي فلسطين.
فالبديل عن الخلافة الإسلامية وقتها كان يعني فعلياً، تنامي الحضور السياسي والثقافي والاجتماعي للتيّارات اليسارية والاشتراكية في عالم مستقطب بين قوتين، ظلتا توسمان إسلامياً بأنهما شيوعية "مُلحدة"، وليبرالية "صليبية" لاحقاً. لقد نمت هذه التيّارات في مقابل ضمور حركات الإسلام السياسي تحت وطأة التعاطي الرسمي الأمني والعسكري (من اعتقال قياداتها وتعذيبهم وقتلهم وإقصائهم عن الحياة السياسية)، وبسبب التحاق الأنظمة العربية وأحزابها الواحدة، وإلحاق شعوبها "المسلمة" بهذا القطب أو ذاك.
ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 1967، حيث هزيمة العرب أمام إسرائيل، (أو ما اصطلح على تسميته نكسة هروباً من الواقع آنذاك وتلاعباً بالوعي)، ليخسر العرب أجزاء أخرى من أراضيهم.
فالبديل عن الخلافة الإسلامية وقتها كان يعني فعلياً، تنامي الحضور السياسي والثقافي والاجتماعي للتيّارات اليسارية والاشتراكية في عالم مستقطب بين قوتين، ظلتا توسمان إسلامياً بأنهما شيوعية "مُلحدة"، وليبرالية "صليبية" لاحقاً. لقد نمت هذه التيّارات في مقابل ضمور حركات الإسلام السياسي تحت وطأة التعاطي الرسمي الأمني والعسكري (من اعتقال قياداتها وتعذيبهم وقتلهم وإقصائهم عن الحياة السياسية)، وبسبب التحاق الأنظمة العربية وأحزابها الواحدة، وإلحاق شعوبها "المسلمة" بهذا القطب أو ذاك.
ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 1967، حيث هزيمة العرب أمام إسرائيل، (أو ما اصطلح على تسميته نكسة هروباً من الواقع آنذاك وتلاعباً بالوعي)، ليخسر العرب أجزاء أخرى من أراضيهم.
لقد كان من شأن هذه الهزيمة أن تشكّل امتحاناً قاسياً للقومية، حيث أعادت إحياء النقاش الواسع وتحديداً داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول أسبابها، وذلك بالتضافر مع أزمات إقتصادية وسياسية كبرى، خَلُص فيها النقاش إلى أن الخسائر المتكرّرة للشعوب العربية "المُسلِمة" إنما جاءت بسبب ابتعادها عن دينها، ليعلو بعدها شعار "الإسلام هو الحل"، والذي اتّخذ منذ ثمانينات القرن الماضي شكل وصفة خلاصية لكل ما يتخبّط به العرب من أزمات.
ولذلك فإن ما يُسمّى "الإسلام الأصولي الجهادي" الذي نشهد معاركه اليوم، لم يكن ابن ساعته. فقد سبقه ما يكفي من وقت لتبلور "الاجتهادات" الخاصّة داخل الجسم الواحد، الذي اجتمعت أطرافه الموسومة بالاعتدال على ثلاثة مشتركات:
أولاً: تحميل الأنظمة العربية مسؤولية "تغريب" المسلمين ودفعهم إلى أحضان الشيوعية "المُلحِدة"، وما استتبعه من تكفير زعامات عربية ومنها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ورميه بالكفر وبالتالي إهدار دمه.
ثانياً: ربط هزائم العرب وتفاقم أزماتهم مجتمعة بالعقاب الإلهي بسبب ارتمائهم في أحضان الشيوعية، والدعوة إلى طلب الرحمة لرفع هذا العقاب عبر العمل السريع لإعادة المجتمعات العربية إلى "إسلامها"، والذي لن يتم إلا بوجود دول رؤساؤها "مؤمنون" يفتحون المجالين الاجتماعي والسياسي للتيّارات والحركات الإسلامية لأن تعمل بحرية تامّة.
ثالثاً: التسليم بضرورة وجود قوّة تتزعّم المسلمين لتكون بديلاً موضوعياً من الخلافة المُنهارة، وهو ما أخذته المملكة العربية السعودية وإيران على عاتقيهما، كل في زمنه ووفق منطقه ورؤيته، من خلال تقديمهما الدعم المالي والفكري والسياسي لكل حركات الإسلام السياسي.
لقد تبلورت "الاجتهادات" المذكورة أعلاه، في وقت وفّرت دول عربية وعلى رأسها مصر للحركات الإسلامية، هامشاً واسعاً من حرية التحرّك والتحشيد والأدلَجَة، قبل دخول المنطقة في عصر التحوّلات السياسية الكبرى، التي أعاقت قدرة بعض الأنظمة العربية على ضبط هذه الحركات. والمقصود هنا، معاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي عنت لحركات الإسلام السياسي والمتعاطفين معها، وغير المتعاطفين داخل مصر وخارجها، دليلاً إضافياً على "غياب" الجدوى من الرابطة القوميّة.
لعل ما يذكره الكاتب المصري بلال فضل[3] في هذا الشأن، يُعيد التدليل على النتائج الكارثية لسياسة البطش التي مارستها بعض الأنظمة العربية، وبالأخص مصر الساداتية، من خلال الركون إلى تحالف واسع مع الحركات الإسلامية بغية ضرب الخصوم والتخلّص منهم، قبل إعلان الحرب الضروس على الحليف الجديد لاحقاً وتحوّل الرئيس "المؤمن" إلى آخر "كافر". والحديث عن مصر هنا، إنما يكتسب حيثيّته التاريخية والثقافية، استناداً إلى ما مثُلته مصر لعقود بالنسبة إلى العرب والمسلمين، من حاضنة للقومية العربية ورافع لرايتها.
لقد مثّل كامب ديفيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إعلاناً صريحاً عن تغيّر تاريخ المسار السياسي بين العرب وإسرائيل، حيث الانتقال من المواجهة ولغة التحرير إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع. بعد هذا التاريخ الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور الراعي للاحتلال الإسرائيلي في سياسته الاستيطانية وحاميته من المُساءلة الدولية على جرائمه، ظلّ ينظر إليها بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي". وإذا كانت السياسة الإسرائيلية، في بعض وجوهها، "قابلة" للهضم أوروبياً إنطلاقاً من أزمة الديمقراطية الأوروبية نفسها[4]، فإنها أميركياً كانت على درجة كبيرة من الصَلاَفَة.
أولاً: تحميل الأنظمة العربية مسؤولية "تغريب" المسلمين ودفعهم إلى أحضان الشيوعية "المُلحِدة"، وما استتبعه من تكفير زعامات عربية ومنها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ورميه بالكفر وبالتالي إهدار دمه.
ثانياً: ربط هزائم العرب وتفاقم أزماتهم مجتمعة بالعقاب الإلهي بسبب ارتمائهم في أحضان الشيوعية، والدعوة إلى طلب الرحمة لرفع هذا العقاب عبر العمل السريع لإعادة المجتمعات العربية إلى "إسلامها"، والذي لن يتم إلا بوجود دول رؤساؤها "مؤمنون" يفتحون المجالين الاجتماعي والسياسي للتيّارات والحركات الإسلامية لأن تعمل بحرية تامّة.
ثالثاً: التسليم بضرورة وجود قوّة تتزعّم المسلمين لتكون بديلاً موضوعياً من الخلافة المُنهارة، وهو ما أخذته المملكة العربية السعودية وإيران على عاتقيهما، كل في زمنه ووفق منطقه ورؤيته، من خلال تقديمهما الدعم المالي والفكري والسياسي لكل حركات الإسلام السياسي.
لقد تبلورت "الاجتهادات" المذكورة أعلاه، في وقت وفّرت دول عربية وعلى رأسها مصر للحركات الإسلامية، هامشاً واسعاً من حرية التحرّك والتحشيد والأدلَجَة، قبل دخول المنطقة في عصر التحوّلات السياسية الكبرى، التي أعاقت قدرة بعض الأنظمة العربية على ضبط هذه الحركات. والمقصود هنا، معاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي عنت لحركات الإسلام السياسي والمتعاطفين معها، وغير المتعاطفين داخل مصر وخارجها، دليلاً إضافياً على "غياب" الجدوى من الرابطة القوميّة.
لعل ما يذكره الكاتب المصري بلال فضل[3] في هذا الشأن، يُعيد التدليل على النتائج الكارثية لسياسة البطش التي مارستها بعض الأنظمة العربية، وبالأخص مصر الساداتية، من خلال الركون إلى تحالف واسع مع الحركات الإسلامية بغية ضرب الخصوم والتخلّص منهم، قبل إعلان الحرب الضروس على الحليف الجديد لاحقاً وتحوّل الرئيس "المؤمن" إلى آخر "كافر". والحديث عن مصر هنا، إنما يكتسب حيثيّته التاريخية والثقافية، استناداً إلى ما مثُلته مصر لعقود بالنسبة إلى العرب والمسلمين، من حاضنة للقومية العربية ورافع لرايتها.
لقد مثّل كامب ديفيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إعلاناً صريحاً عن تغيّر تاريخ المسار السياسي بين العرب وإسرائيل، حيث الانتقال من المواجهة ولغة التحرير إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع. بعد هذا التاريخ الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور الراعي للاحتلال الإسرائيلي في سياسته الاستيطانية وحاميته من المُساءلة الدولية على جرائمه، ظلّ ينظر إليها بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي". وإذا كانت السياسة الإسرائيلية، في بعض وجوهها، "قابلة" للهضم أوروبياً إنطلاقاً من أزمة الديمقراطية الأوروبية نفسها[4]، فإنها أميركياً كانت على درجة كبيرة من الصَلاَفَة.
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.
يمكن القول إن هذا الواقع وقتها، أطلق العنان لتعود البُنية الفوقية عند غالبية التيّارات "الجهادية" الإسلامية إلى السَيَلان من جديد. والمقصود هنا، جملة الأفكار الثابتة التي أرستها القراءة الأحادية للقرآن والسيرة والتاريخ، فأسّست لنظرة واحدة إلى المسيحي باعتباره "صليبياً" (وما تفعله إسرائيل يغذّي هذه النظرة يومياً)، على حساب دفن البنية التحتية التي كانت تعني قبل الدخول الأميركي إلى الكويت، إمكانية عقد الصلات مع واشنطن "الصليبية" على قاعدة وحدة المصالح ضد العدوّ المشترك، أي الشيوعية. وعنى أيضاً، تكفيراً لأنظمة وسلطات وشعوب حمل بعضها مسؤولية الدخول الأميركي إلى المنطقة (العراق)، فيما حمل البعض الآخر ثمن القبول بهذا التواجد في أرض الحرمين (السعودية ودول الخليج عموماً)، بعدما كان بعضها، وأولها العربية السعودية، يُطلق على ملكها "أمير المسلمين".
________________
يمكن القول إن هذا الواقع وقتها، أطلق العنان لتعود البُنية الفوقية عند غالبية التيّارات "الجهادية" الإسلامية إلى السَيَلان من جديد. والمقصود هنا، جملة الأفكار الثابتة التي أرستها القراءة الأحادية للقرآن والسيرة والتاريخ، فأسّست لنظرة واحدة إلى المسيحي باعتباره "صليبياً" (وما تفعله إسرائيل يغذّي هذه النظرة يومياً)، على حساب دفن البنية التحتية التي كانت تعني قبل الدخول الأميركي إلى الكويت، إمكانية عقد الصلات مع واشنطن "الصليبية" على قاعدة وحدة المصالح ضد العدوّ المشترك، أي الشيوعية. وعنى أيضاً، تكفيراً لأنظمة وسلطات وشعوب حمل بعضها مسؤولية الدخول الأميركي إلى المنطقة (العراق)، فيما حمل البعض الآخر ثمن القبول بهذا التواجد في أرض الحرمين (السعودية ودول الخليج عموماً)، بعدما كان بعضها، وأولها العربية السعودية، يُطلق على ملكها "أمير المسلمين".
________________
هوامش
هوامش:
[1] بودريار جان – دريدا جاك – فوليامي اد – ايكو أمبرتو، ذهنية الإرهاب، ص 101، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2003.
[2] يقول المستشرق الفرنسي د. كيمون: إن "الإسلام يعمل على الدماغ البشري مثل السم فيخدّر أجزاء المخّ بسرعة مُذهلة، ما يؤدّي إلى زجّ الآليّة الطبيعيّة في حال من الفوضى، تجعل المُسلِم يتحوّل إلى نوع معُين من وحوش البريّة. المسلمون بشكل ٍعام لا يمكن دراستهم إلا بوصفهم فئة من الوحوش الشرسة. مثل الحيوانات البريّة والزواحف والقوارض في شكل إنسان"، ويقول في موضعٍ آخر رابطاً بين التخلّف وبين الدين الإسلامي: " المسلم ليس لديه القدرة على التفكير لنفسه، لصياغة شخصيته، لعقد الرأي، أو الذوق الفردي، إلى تفضيل رائحة واحدة على أخرى. (...).لاتوجد عند المُسلِم روح الإبداع ولا حتى المحافظة بالمعنى المسيحي. كما أنه لا يصدر عنه أدنى إشارة من أي شعور بالمودّة أو بالحبّ بالمعنى الأفلاطوني. كل ما يفهمه ويقوم به هو ما يُمليه عليه القرآن للقيام به. فهو ملتزم بالقرآن وهذا القرآن هو الذي يوجّهه. ونتيجة لذلك، قد يتم تمثيل جميع المسلمين بوصفهم آلة كهربائية كبيرة نسبياً تتصرّف بأمرٍ من قِبَل مركز كهربائي أكبر هو الإسلام".
The Genocidal Islamophobia of a Late Nineteenth-Century French Anti-Semite: D. Kimon and The Pathology of Islam (p:9-11)
[3] تعرف اليوتوبيا بأنها عكس الأيديولوجيا. فالأولى تشمل أفكاراً تسعى إلى تجاوز الواقع وتغييره بشكلٍ جذري، لكنها تفتقر إلى المقوّمات التي توصل إلى هذا التغيير، ولذلك توصَف بأنها مثالية، على العكس من الأيديولوجيا التي تعمل على تزييف الواقع بغية تكريسه.
[4] بودريار جان، ذهنية الإرهاب، ص 139، مصدر سابق.
[5] الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) وما أعقبها من توجّه تحديثي شرع به محمّد علي باشا ثم إبنه إبراهيم باشا.
[6] حول هذه المسائل يمكن مراجعة كتاب "الإسلام بين العلم والمدنيّة" للإمام محمّد عبده.
[7] يقول بلال فضل في واحد من سلسلة تحقيقات تحت عنوان (السادات وما أدراك ما السادات) إن "تحالف السادات مع "الإخوان" كان قد تمّ بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقّف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيّارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السريّة والمسلّحة، والتي كان النظام يظنّ أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمّد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سريّة وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلّت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المُعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري".
[8] يرى الفرنسي جاك رانسيير أن "الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية" هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط والحل السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويُطلق هذا التوصيف على عملية السلام لأنه يعني في نهاية المطاف "دمار إسرائيل". فالديمقراطيات الأوروبية إنما "طرحت سلامها لحل المشكلة الإسرائيلية. لكن السلام الديمقراطي الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة اليهود"، فالبناء الديمقراطي الأوروبي أصبح برأي رانسيير ممكناً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لسبب وحيد هو أن "الأرض الأوروبية وبنجاح الإبادة النازيّة، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها، وهو اليهود". رانسيير جاك، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، دار التنوير، 2012، ص 19 -20.______________
[6] حول هذه المسائل يمكن مراجعة كتاب "الإسلام بين العلم والمدنيّة" للإمام محمّد عبده.
[7] يقول بلال فضل في واحد من سلسلة تحقيقات تحت عنوان (السادات وما أدراك ما السادات) إن "تحالف السادات مع "الإخوان" كان قد تمّ بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقّف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيّارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السريّة والمسلّحة، والتي كان النظام يظنّ أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمّد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سريّة وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلّت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المُعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري".
[8] يرى الفرنسي جاك رانسيير أن "الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية" هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط والحل السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويُطلق هذا التوصيف على عملية السلام لأنه يعني في نهاية المطاف "دمار إسرائيل". فالديمقراطيات الأوروبية إنما "طرحت سلامها لحل المشكلة الإسرائيلية. لكن السلام الديمقراطي الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة اليهود"، فالبناء الديمقراطي الأوروبي أصبح برأي رانسيير ممكناً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لسبب وحيد هو أن "الأرض الأوروبية وبنجاح الإبادة النازيّة، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها، وهو اليهود". رانسيير جاك، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، دار التنوير، 2012، ص 19 -20.______________
* كاتب ومحرر في موقع الميادين منذ العام 2012. عمل خلال الأعوام 2007 - 2012 في صحيفتي السفير والأخبار اللبنانيتين، ويكتب منذ 2013 مقالات دورية حول الميديا والنيو ميديا في جريدة المدن الإلكترونية.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات