‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأصوليّة السلفية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأصوليّة السلفية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 31 مارس 2022

الاجتماع الوزاري لدول الجوار الافغاني: «العقبة الرئيسة أمام الاعتراف بهذه الحكومة هو افتقارها إلى التمثّل الكافي لفئات الشعب»

    مارس 31, 2022   No comments

 أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن أول ديبلوماسي أفغاني موفد من حكومة حركة «طالبان» وصل إلى موسكو الشهر الماضي، مضيفاً، خلال الاجتماع الثالث لوزراء خارجية الدول المجاورة لأفغانستان في تونكسي في الصين، أنه حصل على الاعتماد لدى وزارة الخارجية الروسية، بحسب وكالة «إنترفاكس» الروسية للأنباء.

في السياق، أكّد لافروف: «يمكن التأكيد على أنه بالرغم من الافتقار إلى الخبرة في الحكم، والقيود المالية والاقتصادية، والضغوط السياسية والديبلوماسية التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فإن إدارة أفغانستان، بشكل عام، تمكّنت من إبقاء الدولة واقفة على قدميها».

وأشار، من جهة أخرى، إلى أن «العقبة الرئيسة أمام الاعتراف بهذه الحكومة هو افتقارها إلى التمثّل الكافي لفئات الشعب».

في السياق، اعتبر لافروف أن السلطات الجديدة يجب أن تمثّل «ليس فقط مختَلَف الجماعات العرقية والأقليّات القومية والدينية في البلاد، ولكن أيضاً القوى السياسية جميعها».

الحدود الأفغانية

كذلك، نقلت وكالة «تاس» للأنباء، أمس، عن لافروف قوله إن موسكو لا تقبل بوجود أي بنية تحتية عسكرية للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي في دول تقع على الحدود مع أفغانستان.

كما أكد وزير الخارجية الايراني ضرورة اقامة حكومة شاملة بمشاركة جميع الطوائف ، ضمانا لأمن واستقرار وتنمية أفغانستان وشدد على ضرورة تحقيقها.

وتباحث حسين أمير عبد اللهيان و وزير الخارجية بالوكالة وزارة الخارجية في أفغانستان أمير خان متقي على هامش الاجتماع الوزاري لدول الجوار الافغاني في مدينة تونشي الصينية القضايا ذات الاهتمام المشترك.

و أكد أمير عبد اللهيان على مراعاة احترام حقوق المرأة ، وهو ما أكده الإسلام ورسوله العظيم ، ووصف التعليم على جميع المستويات والمشاركة الاجتماعية للمرأة بأنها قضية مهمة.

بدوره أكد أمير خان متقي أن أراضي أفغانستان لن تشكل مصدر تهديد للدول المجاورة وشدد على محاربة الإرهاب.كما شدد على ضرورة تنفيذ اتفاقية المياه.

وكان أمير عبد اللهيان التقى في وقت سابق وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ، ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ، ووزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي ، ووزير خارجية تركمانستان ، ووزيرة الخارجية الإندونيسية على هامش الاجتماع الوزاري لدول الجوار الافغاني في مدينة تونشي الصينية.

وغادر وزير الخارجية على رأس وفد سياسي قبل امس الثلاثاء طهران متوجها الى مدينة تونشي بشرق الصين في محافظة آنهوي للمشاركة في اجتماع وزراء خارجية دول الجوار الافغاني.

واستضافت بكين امس الاربعاء الاجتماع الثالث لوزراء خارجية دول جوار افغانستان حول المساعدات الإنسانية لهذا البلد بحضور وزراء خارجية وممثلي جيران أفغانستان.



الجمعة، 25 أكتوبر 2019

توظيف الرئيس بوتين للدبلوماسية والعسكروالدين لمواجهة تحركات الغرب ومراجعات إردوغان المنقوصة

    أكتوبر 25, 2019   No comments
توظيف الرئيس بوتين للدبلوماسية والعسكروالدين لمواجهة تحركات الغرب


لـ حسني محلي

انتبه بوتين إلى تحركات الغرب و "إسرائيل"، وهو يسعى اليوم إلى مواجهتها، ليس فقط عبر الدبلوماسية ولغة العسكر، بل من خلال الدين الذي يبحث له عن مضمون جديد يساعده على تحقيق أهداف روسيا للقرن الحادي والعشرين، كما ساعد الدين أميركا على الانتصار على الاتحاد السوفياتي والشيوعية خلال القرن الماضي.

في الوقت الذي كان الجميع يتوقع تنسيقاً وتعاوناً تركياً مشتركاً مع أميركا في موضوع المنطقة الآمنة شرق الفرات جاء اتفاق سوتشي الأخير ليثبت مدى عمق العلاقة الاستراتيجية، الشخصية والرسمية، بين الرئيسين الروسي والتركي فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان.
فرغم العداء التاريخي بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية- التركية منذ العام 1500م، تجاوز الرئيسان العقد النفسية بينهما، يساعدهما على ذلك جسر من المصالح "الشخصية والرسمية" الكبيرة والمتشابكة.
  بالمقابل فشل إردوغان في تجاوز مثل هذه العقد مع صديقه السابق بشار الأسد، والسبب في ذلك أحلامه في إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية عبر التحالف مع الإسلاميين العرب.
مع ذلك كله لم يكن سهلاً في البداية على بوتين إقناع إردوغان بضرورة التنسيق والتعاون العاجل والفعال في سوريا التي تعدّ ساحة الصراع الرئيسية، وذلك بسبب الذكريات المذكورة والتي اصطدمت بالدعمين الروسي والإيراني للرئيس الأسد. وجاء إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 ورد الفعل الروسي العنيف ليشجع إردوغان على مصالحة بوتين بعد أن اعتذر منه في 27 حزيران/ يونيو 2016.

وفتحت زيارة إردوغان إلى بطرسبيرغ في 9 آب/أغسطس 2016 أبواب "المودة والمحبة العميقة" بين الرئيسين، والتقيا بعد ذلك التاريخ وحتى الأسبوع الماضي 25 مرة، من بينها 14 مرة في زيارات متبادلة وخمس مرات خلال قمم ثلاثية بمشاركة الرئيس الإيراني حسن روحاني، وست مرات على هامش المؤتمرات الدولية كمجموعة العشرين أو قمة بريكس.

ولم تكن مثل هذه اللقاءات كافية في البداية للاتفاق حول تفاصيل العمل المشترك في سوريا على الرغم من سماح بوتين للقوات التركية بدخول جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016 وعفرين في كانون الثاني/ يناير 2018، الأمر الذي جعل من إردوغان طرفاً مباشراً وأساسياً في مجمل أحداث ومعادلات وتطورات الأزمة السورية، وما زال يملك العديد من مفاتيحها.

وفي إطار المسألة السورية تهاتف إردوغان وبوتين 45 مرة منذ حزيران/يونيو 2016، وربما تصل هذه المكالمات إلى المئة في حال لم يتخلَ إردوغان عن حساباته العقائدية في سوريا، التي من دونها لا يمكن له أن يستمر في برنامجه لأسلمة الأمة والدولة التركية.
ومن دونها أيضاً لا يستطيع إردوغان الاستمرار في نهجه وأسلوبه الحالي، فهو لا يتحمل أي صوت معارض له ولاسيما في موضوع سوريا، باعتبار أنها السبب المباشر وغير المباشر لكل مشاكله ومشاكل تركيا الداخلية والخارجية.

وأخيراً أثمرت لقاءات واتصالات بوتين الهاتفية مع إردوغان بالتوصل إلى الاتفاق "التاريخي" الأخير في سوتشي، فدخل الجيش السوري بفضلها إلى شرق الفرات وقضى على أحلام البعض من الكرد في إقامة كيان كردي مستقل. كما أبعد الاتفاق تركيا عن واشنطن مسافة إضافية بعد إهانات ترامب لإردوغان وتهديداته له بتدميره وتدمير اقتصاد بلاده. وقد يكون اللقاء المرتقب بينهما في 13 تشرين الثاني/نوفمبر نقطة تحول مهمة، هذا بالطبع إن لم يخطر في بال ترامب أن يغرد قبل ذلك على منصته المحببة "تويتر".

القيصر الروسي لم يكتف بمثل هذه التحركات فتجاوزها لتشمل الجانب الديني، وذلك عبر تحقيق المزيد من التقارب بين تركيا السنية وإيران الشيعية، وقاسمهما المشترك هو الفكر الصوفي الذي تعلمه بوتين من الرئيس الشيشاني قاديروف وهو مؤمن به.
فجلال الدين الرومي والطريقة البكداشية، وهي خليط من المذاهب العلوية والشيعية والسنية، انطلقت من أرض الأناضول ووصلت إلى أقاصي البلقان وآسيا الوسطى والقوقاز، وحاولت أميركا التصدي لها عبر الأموال السعودية التي سعت إلى تصدير الوهابية نحو هذه المناطق، كما سعت إلى تصديرها نحو جميع دول العالم الإسلامي من خلال تنظيمات القاعدة وطالبان والآن النصرة وداعش وأمثالها في سوريا والعراق. واستخدمت أميركا وحليفاتها في الغرب هذه الأسلحة ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان والشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز الإسلامية، ودائماً في إطار نظرية الحزام الأخضر لليهودي هنري كيسينجر إضافة إلى زبيغنيو بريجنسكي.

وجاءت أحداث "الربيع العربي" وانقلاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على جماعة الإخوان المسلمين في مصر تلاها إعلان السعودية والإمارات جماعة الإخوان تنظيماً إرهابياً، ثم فشل السعودية في اليمن والحملات الأميركية ضد إيران، لتشجع بوتين على مزيد من التحرك، تارة لإقناع الرياض بضرورة المساهمة في حل الأزمة السورية، وتارة أخرى لإقناعها في المصالحة مع إيران، كذلك دفعت التطورات بوتين للتحرك على خط الوساطة بين مصر وإثيوبيا من أجل المصالحة بينهما وهما على وشك الاصطدام بسبب سد النهضة ومياه النيل الأزرق.

ويهدف بوتين من وراء هذه التحركات إلى جمع كل الأعداء في سلة واحدة كان معظم من فيها أصدقاء لأميركا، بل وحتى لإسرائيل، التي كانت تنظر إلى إيران الشاه وتركيا وإثيوبيا خلال خمسينات القرن الماضي باعتبارها أهم حليفاتها، وهي تسعى الآن لتعويضها بالسعودية والإمارات. وكان البابا فرانسيس زار الثانية في شباط/ فبراير الماضي بحضور شيخ الأزهر أحمد الطيب.

انتبه الرئيس بوتين إلى تحركات الغرب و "إسرائيل"، وهو يسعى اليوم إلى مواجهتها، ليس فقط عبر الدبلوماسية ولغة العسكر، بل من خلال الدين الذي يبحث له عن مضمون جديد يساعده على تحقيق أهداف روسيا للقرن الحادي والعشرين، كما ساعد الدين أميركا على الانتصار على الاتحاد السوفياتي والشيوعية خلال القرن الماضي.

ويتمنى بوتين لهذا الفهم الجديد للدين أن يساعد شعوب المنطقة أيضاً على التخلص من الكثير من مشاكلها من خلال الاعتدال والوسطية، وهي ركيزة في التصوف وفق رؤية بوتين الجديدة. وكان مؤشرها الواضح الاستدلال بالآيات القرآنية الكريمة التي تلاها خلال القمة الثلاثية في أنقرة 16 من الشهر الماضي عندما كان يتحدث أولًا عن المصالحة بين اليمن والسعودية التي زارها مؤخراً، ومن ثم المصالحة بين تركيا وسوريا.

واتفاق سوتشي الأخير قد يكون بداية الطريق إليها من دون الحاجة إلى 25 لقاءً و45 اتصالاً هاتفياً جديداً.

الأحد، 2 سبتمبر 2018

ظاهرة الانتحار والتطرف عند "الجهاديين الجدد"

    سبتمبر 02, 2018   No comments
 د. هيثم مزاحم

يلاحظ الباحث الفرنسي أوليفييه روا أن جميع المدافعين عن "داعش" لا يتحثون أبداً عن الشريعة ولا يأتون تقريباً على ذكر المجتمع الإسلامي الذي سيقوم في ظل "داعش"، كأن إرادة القيام بالجهاد وإرادة العيش في ظل الإسلام أمران متعارضان. فالعيش في مجتمع إسلامي لا يعني الجهاديين، فهم لا يهاجرون للجهاد من أجل الحياة، وإنما من أجل الموت.

نشر الباحث الفرنسي المعروف والمختص بالشؤون الإسلامية أوليفييه روا، قبل سنتين كتابه المعنون "الجهاد والموت" باللغة الفرنسية ونقله إلى العربية صالح الأشمر ونشرته دار الساقي عام 2017. وقد حاول روا فهم ظاهرة التطرف الذي يقوم به تنظيما "داعش" و"القاعدة" وخاصة في الدول الغربية وهل سببها الدين الإسلامي أو الظلم السياسي والاجتماعي في الدول العربية والإسلامية أو الاستعمار والغزو الغربيان لهذه الدول؟ هل السبب هو العقيدة السلفية التي تحولت إلى سلفية جهادية؟ هل يعود السبب إلى عدم اندماج هؤلاء الشبان المسلمين في المجتمعات الأوروبية التي نشأوا فيها أو هاجروا إليها وإلى التمييز والعنصرية اللذين يعاملون بهما في هذه الدول؟.

يسعى الباحث إلى فهم هذه الظاهرة وتفسيرها استناداً إلى فكرة الانتحار، المتمثلة بالعمليات "الجهادية" المزعومة، والتي يبدو أن هدفها الأول هو موت المنفذ أكثر من تحقيق أي أهداف سياسية أو عسكرية استراتيجية. لكن هذه الدراسة تختص بالمجتمعات الأوروبية وبشكل خاص "المقاتلين الجهاديين" الفرنسيين والبلجيكيين الذين يشكّلون العدد الأكبر من الجهاديين الغربيين. وينطلق روا من قاعدة بيانات كوّنها وتضم نحو مئة شخص متورطين في الإرهاب على الأراضي الفرنسية و/أو غادروا فرنسا للاشتراك في الجهاد "العالمي" بين عامي 1994 و2016، ومن ضمنهم جميع المشاركين الرئيسييين في هجمات ناجحة أو فاشلة استهدفت الأراضي الفرنسية والبلجيكية. وعلى أساس هذه القاعدة، أرسى الباحث تحليله، خصوصاً أنها معززة بقواعد البيانات الأخرى، وهو يعتبر أن مسارات "الجهاديين" متقاربة جداً وتنتمي إلى الفئات نفسها.

يقول روا إن من الشائع جداً النظر إلى الجهادية على أنها امتداد للسلفية. وليس كل السلفيين جهاديين، لكن كل الجهاديين سيصيرون سلفيين. إذن، السلفية ستكون ممراً للولوج إلى الجهادية. وبعبارة أخرى، سيكون التطرف الديني المرحلة الأولى للتطرف السياسي. لكن روا يرى أن الأمور أكثر تعقيداً. "فمن الواضح أن هؤلاء المتطرفين مؤمنون حقاً، يظنون أنهم سيذهبون إلى الجنة ومرجعيتهم إسلامية خالصة. فهم ينضمون إلى تنظيمات تريد إقامة نظام إسلامي، بل إعادة الخلافة بالنسبة إلى "داعش"". ويعتبر روا أن الخطأ يكمن في التركيز على اللاهوت ومن ثم على النصوص في فهم التطرف الإسلامي. لكن الجهاديين لا يقدمون على العنف بعد التأمل في النصوص، إذ ليس لديهم العلم الديني المطلوب، وقلّ ما يهتمون باكتسابها. فهم لا يصبحون متطرفين لأنهم أساؤوا قراءة النصوص، بل لأنهم اختاروا أن يكونوا متطرفين.


الدواعش جهلة بالإسلام


فبين أربعة آلاف مجنّد غربي في "داعش" تظهر سجلاتهم أنهم ذوو مستوى تعليم جيد، معظمهم أنهوا الثانوية العامة، لكن 70% منهم صرّحوا أن ليس لديهم سوى معرفة أولية بالإسلام. لكن ما يعمل هنا هو التديّن وليس الدين، أي الطريقة التي يعيش بها المؤمن الدين، من العقيدة، والممارسات، والمتخيّلات، والشعائر، لكي يبني تساميه الذي يدفعه إلى احتقار الحياة، حياته وحياة الآخرين. وعلى الرغم من اعتماد "داعش" على التفاسير للحديث النبوي، إلا أن المتطرفين الغربيين المنتمين إلى التنظيم لا يعمدون إلى هذه الشروح المطوّلة. فهم أقل كلاماً عن الدين من السلفيين، وصفحاتهم الالكترونية ونصوصهم أكثر تركيزاً على العمل منها على الدين.

يرجع الإرهابيون دوافعهم للقيام بأعمالهم الإرهابية إلى الانتقام من الغرب بسبب الفظاعات التي ارتكبتها الدول الغربية ضد المسلمين، حيث يلعب الجهادي دور البطل المنتقم، إضافة إلى دافع الموت المودي إلى الجنة واستقبال النبي له والدرجة التي ينالها.

يلاحظ الباحث الفرنسي أن الغريب أن جميع المدافعين عن "داعش" لا يتحثون أبداً عن الشريعة ولا يأتون تقريباً على ذكر المجتمع الإسلامي الذي سيقوم في ظل "داعش"، كأن إرادة القيام بالجهاد وإرادة العيش في ظل الإسلام أمران متعارضان. فالعيش في مجتمع إسلامي لا يعني الجهاديين، فهم لا يهاجرون للجهاد من أجل الحياة، وإنما من أجل الموت.

ارتباط الإرهاب والجهادية في السعي المتعمد إلى الموت، هو محور الكتاب، ومنها استمدّ عنوانه. فمن عملية الجزائري خالد كلكال من "الجماعة الإسلامية المسلحة"، منفذ تفجيرات مترو باريس في 29 أيلول سبتمبر 1995 إلى تفجيرات مسرح باتكالان في باريس في 13 تشرين الثاني نوفمبر 2015، نجد أن هؤلاء الإرهابيين أقدموا على تفجير أنفسهم أو الاشتباك مع الشرطة حتى الموت، من دون أن يحاولوا الهرب، بل حتى لم يكن موتهم ضرورياً على الدوام لإنجاز عملياتهم.

يقول روا إن العنف الإرهابي و"الجهادي"، الآخذ في الانتشار منذ عقدين من الزمن، ينطوي على حداثة متأصلة، برغم أن الإرهاب والجهاد ليسا بظاهرتين جديدتين، إذ ظهرت أنواع "الإرهاب العالمي" الذي "ينشر الرعب باختياره لأهداف ذات رمزية رفيعة، أو على العكس باستهداف مدنيين "أبرياء" من دون أن يعبأ بالحدود"، منذ سبعينيات القرن الماضي، حين نشأ تحالف بين عصابة "بادر" الألمانية وأقصى اليسار الفلسطيني والجيش الأحمر الياباني.

 السعي إلى الموت: انتحار أم شهادة؟

لتأكيد مقاربته عن سعي "الجهاديين" إلى الموت، يستشهد روا بكلام أحد "الجهاديين" الفرنسيين دافيد فالا، الذي اعتنق الإسلام وكان قريباً من خالد كلكال وزوّده بسلاحه، إذ يقول: "كانت القاعدة هي ألا يؤخذ حياً. فعندما رأى كلكال رجال الدرك علم أنه سيموت، وأراد أن يموت". وردد أحدهم قولاً منسوباً لمؤسس تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن: "نحن نحب الموت، أنتم تحبون الحياة".

إذاً، لم يعد موت الإرهابي مع "الجهاديين" احتمالاً بل أصبح في صلب مشروعه، وبخاصة مع المنضمين إلى تنظيم داعش الذين يعتبرون الهجوم الانتحاري الغاية المثلى لالتزامهم.

هذا الاختيار المنهجي للموت من قبل الجيل الجديد للجهاديين أمر مستجد، إذ كان منفذو الهجمات بين عامي 1970 و1980، سواء كانوا من الشرق الأوسط أم لا، يساريين أو إسلاميين، يرتبون عملية فرارهم بعناية، لأن الفقه الإسلامي وإن كان يقر بفضل الشهيد الذي يقتل في الجهاد، إلا أنه يحرّم الانتحار. من هنا يطرح الباحث روا أسئلة عن سبب اختيار هؤلاء "الجهاديين" الجدد الموت المنهجي، وتفسير ذلك بشأن التطرف الإسلامي المعاصر؟

يتبنى روا مقاربة جديدة في هذا الخصوص تربط بين حب الموت والسعي له، وبين كون "الجهادية" في الغرب والمغرب وتركيا هي حركة شبّان، لا تنفصل عن "الثقافة الشابّة" لهذه المجتمعات. فهذا البُعد الجيلي جوهري، لكنه على حداثته، ليس وقفاً على الجهاد الحالي. ويذهب بعيداً إلى أن التمرد الجيلي قد نشأ مع الثورة الثقافية الصينية، فهي للمرة الأولى في التاريخ لم تكن ثورة ضد طبقة، بل ضد فئة عمرية معيّنة، باستثناء زعيم الثورة ماو تسي تونغ. وقد استعاد كل من "الخمير الحمر" في كمبوديا بين عامي 1975 و1979، و"داعش" هذه الكراهية للآباء ذات البعد المرضي والكوني، الذي يتجلى في ظهور الجنود الأطفال وتدمير الآثار الثقافية. فلا يقتصر الأمر هنا على تحطيم الأجساد، بل كذلك على إتلاف التماثيل والهياكل والكتب، أي تدمير الذاكرة.

يرى روا أن بُعد إماتة الجسد لا علاقة له البتة بالصراعات الجيوستراتيجية في الشرق الأوسط، وهو غير منتج سياسياً واستراتيجياً. لكن هذا البُعد الانتحاري مرتبط بـخلافة "داعش"، وقبلها مشروع الجهاد العالمي مع "القاعدة"، التي ترفض أي حل سياسي أو تفاوض، لأن من يسعى إلى الموت لا يفاوض على شيء.

ويذهب الباحث الفرنسي إلى أن خلافة "داعش" وهم وخرافة وحدة أيديولوجية في توسع إقليمي مستدام، واستحالتها الاستراتيجية تفسّر لماذا كان أولئك المتماهون بها متعاقدين على الموت، بدلاً من نذر أنفسهم لمصلحة المسلمين، فلا وجود لأي أفق سياسي أو غد مشرق.

يرفض روا فكرة أن الإرهاب "الداعشي" أو "القاعدي" سببه الحرمان الاجتماعي والمظالم السياسية، لأن هذا الإرهاب يقتل السياسة قبل التساؤل عن الأسباب السياسية للنزوع نحو التطرف. وهذا الإرهاب "الانتحاري" ليس فعالاً من وجهة نظر عسكرية، بينما الإرهاب "البسيط" يتضمن بعض العقلانية المتعلقة بالحرب غير المتكافئة، حينما يقوم بعض الأفراد بإلحاق خسائر كبيرة بعدو أقوى منهم بكثير. بينما الإرهاب الانتحاري غير عقلاني بسبب استخدامه المقاتلين مرة واحدة وأخيرة، وهو يدفع المجتمعات الأوروبية إلى التطرف المضاد، ويقتل من المسلمين عدداً أكبر من عدد القتلى الغربيين.

يعتقد الكاتب أن الارتباط المنهجي مع الموت هو أحد المداخل لفهم التطرف الراهن، فالبُعد العدمي مركزي هنا، والعنف ليس وسيلة بل غاية، وهو عنف بلا مستقبل. يقول روا إنه بدلاً من اعتماد مقاربة عمودية تنطلق من القرآن لتصل إلى "داعش"، مروراً بإبن تيمية، وحسن البنا، وسيّد قطب، وابن لادن، على افتراض وجود ثابت "العنف الإسلامي" يظهر بانتظام، فقد فضّل اللجوء إلى مقاربة تحاول أن تفهم العنف الإسلامي المعاصر بالتوازي مع أشكال أخرى من العنف والتطرف، قريبة جداً منه(تمرّد جيلي، وقطيعة جذرية مع المجتمع، وجمالية الموت، واندراج الفرد المنقطع في سردية عالمية كبرى، وبِدع عالمية). فالإرهاب الانتحاري والظواهر من طراز "القاعدة" و"داعش" هي حديثة العهد في تاريخ العالم المسلم، ولا يمكن أن تفسّر بمجرد صعود الأصولية، ولذلك اعتبر روا أن "الإرهاب لا يتأتي من تطرف الإسلام، بل من أسلمة التطرف".

 هل الإسلام ينتج العنف؟
وإذ يقر الكاتب الفرنسي بوجود أصولية إسلامية تنتشر منذ أربعين عاماً، لكنها لا تكفي لإنتاج العنف. وقد تعرّضت هذه المقاربة لنقد كثير من زملائه بينهم الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا الذي أخذ عليه أنه لم يلحظ الأسباب السياسية للتمرد، وهي الإرث الاستعماري، والتدخلات العسكرية الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط، والتهميش الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. كما اتهمه الباحث الفرنسي جيل كيبل بأنه يتجاهل العلاقة بين العنف الإرهابي والتطرف الديني للإسلام متجلّياً في السلفية.

لكن روا يقول إنه لا يتجاهل أياً من هذه الأبعاد، لكنها لا تكفي لتفسير الظواهر التي يدرسها، لأننا لا نجد أي صلة سببية انطلاقاً من المعطيات التجريبية التي يملكها. فالباحث يرفض مسألة "التطرف الديني" لأن إلصاق عبارة تطرف بالدين أمر سيء، إذ يترتب على ذلك أننا نحدد حالة معتدلة للدين، فلا توجد أديان معتدلة. أكان كالفن ولوثر معتدلين؟ بالتأكيد لا فالكالفانية مثلاً في المفهوم اللاهوتي تعد "متطرفة". وتقوم فرضيته على أن التطرف العنيف ليس نتيجة التطرف الديني، وإن اقتبس منه الطرق والنماذج، وهذا ما يسمّيه "أسلمة التطرف". فالأصولية الدينية موجودة طبعاً وتطرح مشكلات اجتماعية مهمة، لأنها ترفض القيم القائمة على مركزية الفرد وحريته في جميع المجالات، لكن هذه الأصولية لا تُفضي بالضرورة إلى العنف السياسي. فيهودي أو مسيحي متزمتان هما مؤمنان "مطلقان" بدلاً من أن يكونا متطرفين، ويعيشان نوعاً من الانفصال الاجتماعي لكنهما ليسا عنيفين سياسياً، وغالبية السلفيين تندرج في هذا السجل غير العنيف.

وينتقد روا فرضية فرانسوا بورغا بأن المتطرفين تحفّزهم معاناة المسلمين، المستَعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية والتمييز، وعمليات القصف الأميركية.. إلخ، وبالتالي فإن التمرد هو أولاً تمرد الضحايا. لكن روا يعتقد أن الصلة بين المتطرفين والضحايا صلة خيالية أكثر منها واقعية، والذين ينفذون التفجيرات في أوروبا ليسوا سكن قطاع غزة ولا الليبيين أو الأفغان، وما هم بالضرورة الأكثر فقراً، ولا الأقل اندماجاً. ويستدل الباحث بوجود 25% من المتحوّلين إلى الإسلام في صفوف "الجهاديين" على أن الصلة بين المتطرفين و"شعبهم" هي أيضاً من قبيل المتخيّل. فالثوريون لا ينحدرون مطلقاً من طبقات معذبة، إنما في تماهيهم في البروليتاريا و"الجماهير" والمستَعمرين، هي إعادة بناء خيالية لوجودهم في العالم وبلاغة للتعبير عنه. فقلة من المناضلين ينتمون إلى هذه البروليتاريا الافتراضية التي هم على استعداد للموت في سبيلها. فالمتمردون يعانون من معاناة الآخرين، وهم ليسوا ضحايا الظلم والاحتلال الإسرائيلي أو الغزو أو القصف الأميركي في أفغانستان أو العراق، لكنهم شاهدوا هذه المعاناة وتأثروا بها.

ولم تبدأ منهجة العمل الانتحاري إلا عام 1995، فقبل الثمانينيات، كان "الإرهاب العادي" سلاحاً تستخدمه مجموعات علمانية، قومية أو ثورية، بحسب تعبير روا، حيث اتسمت سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسلسلة هجمات في أوروبا، مرتبطة باستراتيجيات دولية، فكانت هجمات مؤيدة لفلسطين أو سوريا أو ليبيا أو إيران، في سياق الرد على السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط. حتى الهجوم الانتحاري ليس ابتكاراً إسلامياً، لقد بدأت منهجته منذ الثمانينيات على أيدي "نمور التاميل"، مخترعي الحزام الناسف.

ويلاحظ روا أن "الجهاديين" لا يترددون في ابتكار أشياء غير موجودة في العقيدة ويبتعدون عن النصوص المقدسة والتفاسير المجازة. فهذا النمط العملياتي للهجوم، أي موت المهاجم، يصير المعيار، وهو يتداخل مع إخفاق سياسي وتشاؤم عميق في الوقت نفسه، متأتٍ من مؤلفات سيّد قطب حول الجاهلية وتكفير المجتمع، وإضافة بُعد قيامي كامل وعدمي، والتفكير بالخلاص الشخصي بدلاً من التفرغ لبناء مجتمع أفضل، وهو خلاص يمر بالموت الانتحاري لأنه الطريق الأقصر والأضمن.

 المتطرفون الجدد
حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان الجهاديون الدوليون أفراداً قادمين من الشرق الأوسط، قد مارسوا الجهاد في أفغانستان قبل أن يعودوا إلى بلدانهم الأصلية لكي يباشروا العمل فيها، أو بحثاً عن أراضٍ جديدة للجهاد بعد سقوط النظام الشيوعي في أفغانستان عام 1992. هؤلاء هم الذين نفذوا أول موجة تفجيرات عالمية. هؤلاء هم الجيل الأول من الجهاديين التابعين لأسامة بن لادن. لكن ابتداء من عام 1995، نشأ جيل جديد يسمّونه في الغرب "أبناء البلد"، ليس لهم علاقات مع بلدانهم الأصلية، وبينهم نسبة متزايدة من معتنفي الإسلام ومن النساء، ومجال عملهم عالمي تماماً. هم الجيل الثاني من الجهاديين، من خالد كلكال إلى الأخوين كواشي وعبد الحميد اباعود، ولهم الملامح نفسها. فهم قُتلوا كلهم أثناء العمل، إما قتلوا أنفسهم أم قتلوا خلال مواجهتهم مع الشرطة، ولم يهتموا بتدبير فرارهم.

يقول روا إن الإرهابيين الغربيين الذين نفذوا هجمات في أوروبا كلهم معروفون نتيجة وجود سجلات لهم لدى الشرطة وأجهزة الأمن الغربية، ويشير إلى وجود ملفات تضم أسماء 4118 جهادياً أجنبياً جنّدهم "داعش" بين عامي 2013 و2014. وهو يهتم في كتابه هذا خصوصاً بالفرنسيين والبلجيكيين الذين يشكّلون العدد الأكبر من الجهاديين الغربيين، دون أن يغفل نظراءهم الأوروبيين. وهو يجد خصائص مشتركة بينهم وبعض الاختلافات. وينطلق روا من قاعدة بيانات كوّنها وتضم نحو مئة شخص متورطين في الإرهاب على الأراضي الفرنسية و/أو غادروا فرنسا للاشتراك في الجهاد "العالمي" بين عامي 1994 و2016، ومن ضمنهم جميع المشاركين الرئيسييين في هجمات ناجحة أو فاشلة استهدفت الأراضي الفرنسية والبلجيكية.

ولا يجد روا صورة نمطية للإرهابيين، لكنه يقع على مميزات متواترة. فخالد كلكال أول إرهابي من أبناء البلد(عملية ليون، 1995)، والأخوان كواشي (عملية صحيفة شارلي ايبدو، 2015)، بينهم أوجه شبه محددة: هم من الجيل الثاني، ومندمجون جيداً في المجتمع الفرنسي، ومروا بمرحلة جنوحية قصيرة، وصاروا متطرفين في السجن، قاموا بهجمات وقتلوا، وشهروا أسلحة في وجه الشرطة.

كانت الصورة النمطية للإرهابيين ثابتة حيث نجد فئتين أساسيتين: الجيل الثاني (60% منهم)، والمتحولون إلى الإسلام يشكلون 25% منهم، وعلى نطاق أضيق الجيل الثالث(25%). أما الجيل الأول فمحدود (محمد الحويج بوهلال، منفذ مجزرة نيس في يوليو 2016). يفسّر روا غلبة الجيل الثاني بحقيقة أن التطرف قد ظهر في الوقت الذي بلغ فيه أبناء المهاجرين سن الرشد، بعد جمع شمل العائلات عام 1974. فعلى مدى عشرين سنة ظلت الغلبة للجيل الثاني، فيما كان الجيل الثالث يقترب من سن الرشد.

ثمة ميزة أخرى مشتركة بين جميع البلدان الأوروبية هي أن المتطرفين فيها جميعهم تقريباً من "المولودين الجدد" الذين بعدما عاشوا حياة دنسة (ملاهٍ، وكحول، وجنوحية)، اهتدوا فجأة إلى الممارسة الدينية، بصورة فردية أو في نطاق مجموعة صغيرة، وليس في إطار منظمة دينية. ونجد أن معظم المتطرفين غائصون عميقاً في "الثقافة الشابة" المعاصرة، في تقنيات الاتصالات، وبكونهم قد قصدوا علب الليل، وغازلوا الفتيات، واحتسوا الكحول، وارتكب نحو نصفهم جنحاً صغيرة، وأزياؤهم مماثلة لأزياء أترابهم، ملابس الشارع من قبعات وبرانس وعلامات، وما عادت اللحية علامة على التقوى. فهم لا يرتدون أبداً اللباس السلفي، ويحبون الراب، ويتابعون أفلام العنف الأميركية وربما ألعاب الفيديو، وارتياد صالات الرياضة وخاصة بعض الرياضات العنيفة كالكونغ فو والملاكمة، وركوب الدراجات النارية. كما أن لغة المتطرفين هي لغة بلد الإقامة، وهي الفرنسية في هذه الحالة، وهم يتحدثون بلغة "شابة"، لغة الضواحي المحوّرة سلفياً.

لا شك أنه لا يمكن تعميم استنتاجات الباحث روا على جميع "الجهاديين" وبخاصة في الدول العربية والإسلامية، فدوافعهم مختلفة عن دوافع نظرائهم الغربيين، وتلعب العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقدية الدينية، فضلاً عن التحريض الإعلامي والمذهبي، والتوظيف السياسي الدولي والإقليمي لبعض التنظيمات "الجهادية"، كل ذلك تلعب دوراً في تغذية هذا التطرف وتوحشه، حيث يكون "الجهادي" العربي والمسلم ضحية لهذا الفكر المتطرف حيناً، وللتوظيف السياسي والتحريض المذهبي حيناً آخر.

السبت، 3 مارس 2018

سلفيون جهاديون من «عين الحلوة» يراجعون أدبياتهم

    مارس 03, 2018   No comments
رضوان مرتضى

قرّرت قيادات سلفية بارزة في مخيم «عين الحلوة»، ارتبطت بتنظيمي «جبهة النصرة» و«القاعدة»، إعلان «مراجعة» أدت إلى اتخاذ قرار «بتصويب البندقية باتجاه الصهاينة في فلسطين المحتلّة». يُريد هؤلاء السلفيون الجهاديون دحض التهمة التي التصقت بهم طوال السنين الماضية.

وبعدما قاتلوا في كل أصقاع الأرض ونسوا بيت المقدس، قرروا أن وجهتهم، اليوم، «ستكون القدس وحدها». لماذا الآن؟ هل يرتبط هذا القرار بالقيادة المركزية لتنظيم القاعدة؟ ماذا عن الصراع بين جبهة النصرة وقيادة «القاعدة» على الساحة السورية؟ هل مراجعتهم مرتبطة بالنكسة التي مُني بها تنظيم الجهاد العالمي على أرض الشام، بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من إقامة دولته في سوريا، بانشقاق أبو بكر البغدادي عن القاعدة، ثم ابتعاد الجولاني عن التنظيم الأم، في ظل الصراع على الترِكة؟ وهل نشهد قريباً عمليات استشهادية في العمق الفلسطيني بتوقيع هؤلاء «الجهاديين الجدد»؟


على عجل، طلب أحد مشايخ السلفيين الجهاديين الشيخ أسامة الشهابي، اجتماعاً طارئاً في عين الحلوة. «الموضوع في غاية الأهمية»، قالها الرجل عبر الهاتف. في اليوم التالي، جرى اللقاء ليلاً. داخل منزله المتواضع في حيّ الصفصاف، تحت رسم لبيت المقدس تظلله رايات الإسلام، جلسنا جنباً إلى جنب مع المرشد السابق لـ «تجمّع الشباب المسلم» الشيخ جمال حمد المشهور بـ «أبو محمد» وأسامة الشهابي الذي يحمل فكر «تنظيم القاعدة» - أسامة بن لادن وشاب ثالث يكنّى «أبو عبيدة».
الثلاثة فلسطينيون يعيشون على أمل استعادة أرضهم المحتلّة. اثنان منهما لم يغادرا المخيم منذ أكثر من عشرين عاماً بعد اتهامهما بالإرهاب. الثلاثة ينضوون ضمن مجموعة أكبر من حَمَلَة الفكر السلفي الجهادي الذين أجروا «مراجعة، وليس تراجعاً»، كما يبررون خطوتهم، والهدف منها «إعادة تصويب بوصلة البندقية».
ما الموضوع الطارئ يا شيخ؟ تساؤلٌ يجيب عنه الشهابي بأنّه «فلسطين ولا شيء سوى فلسطين». ينطق بها كمن يزفّ بشرى، كاشفاً عمّا يسميها «دراسة ومراجعة عمرها أشهر لمعاني ومباني وعقبات المشروع الذي قرروا المضي فيه».
ينطلق الشهابي من هذه المقدمة ليتحدث عن «تحوّل جديد» بشأن «أولوية أرض القتال». يتحدث عن «وجهة واحدة هي القدس وفلسطين»، قبل سوريا والعراق. يرى الشيخ الجهادي أنّ باقي الجبهات، «وإن كان محرّك انطلاقها الظلم، ونحن نعتقد بذلك، ولأجله خرجنا وخرج شبابنا، إنما لدينا يقين أنّ لأمريكا يداً في توجيه الثورات لحرف الصراع عن وجهته الحقيقية».
يشرح الشهابي أن «الجهاد في عقيدتنا ليس غاية،بل وسيلة. لا نُمانع إن سقط منا آلاف الشهداء، لكن نريد أن يكون ذلك من أجل هدف. من أجل غاية. نريد أن نأكل الثمرة، لا أن نُحرق الشجرة». يتحدث الشيخ، الذي يُعدّ من أحد رجالات «القاعدة» في «عين الحلوة»، عن خريطة طريق عملانية سيبدأ العمل بها. يتحفّظ عن الإجابة عن أسئلة ذات طابع أمني أو عسكري، لكنه يقطع بأن المشروع «سيطاول كل السُّبل».

لماذا قد تقرر مجموعة قيادات تحمل فكر السلفية الجهادية وتنظيم «القاعدة» فجأة أن تحوّل البندقية؟ وما هو موقف الدولة اللبنانية بأجهزتها الأمنية والسياسية من إعلان كهذا؟
تزدحم الأسئلة ليبرز بينها سؤال أساسي: هل هناك تنسيق مع القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة»؟ هل لحمزة بن أسامة بن لادن علاقة بذلك؟
السؤال الأول يجيب عنه الشيخ بأن الاتصالات مقطوعة مع قيادة التنظيم، مشيراً إلى أنّ المحرّك «ذاتي». ويلفت إلى أن الاستشارة والاستخارة شملت القيادات الإسلامية والوجوه السلفية داخل مخيم عين الحلوة. أما عن نجل أسامة بن لادن، فيردّ الشهابي بأن الشعار الذي يرفعه ابن زعيم «القاعدة» هو «مقاتلة الأميركيين أينما وُجِدوا»، لكنه يؤكد أنه لا يعلم شيئاً عن مكان وجوده وتوجهاته وأبجدياته «في الفترة الأخيرة».
«فلسطين لنا»، يقول الشهابي ويضيف: «هكذا كانت البوصلة، وهكذا يجب أن تعود». يخلُص إلى أنّ «ما قبل اليوم، لن يكون كما بعده». يتحدّث عمّا يسميه «مشروع مواجهة جديد، موجود في القلوب، لكنه يولد اليوم على أرض الواقع». لماذا الآن ياشيخ؟ وهل الهزيمة التي مُني بها مشروع «القاعدة» على أرض الشام دفعتكم إلى إجراء المراجعة لتحديد العدو؟
يردّ الشيخ بأن «فكرة قتال اليهود قديمة جداً، وكنا نحلم بأن نقاتل اليهود في مشروع كبير، لكن هذه المشاريع كلها باءت بالفشل». لكن لماذا التحول الآن بالتحديد، وليس قبل سنة أو سنتين؟ «كان هناك نوع من عدم الجرأة في التخلي عن بعض المفاهيم القديمة. نحن أهل فلسطين وأصحاب الحق والواجب شرعاً على أصحاب أهل الأرض أن يدافعوا عنها. وإن عجزوا تأتي باقي الدول لمساعدتهم».
وفي السياق نفسه، يرفض الشيخ جمال حمد ربط التحوّل بحدث بعينه، إنما يتحدث عن «نقاط تحول كبرى». يعتبر أن أبرزها «إعلان يهودية الدولة الذي يعني طرد كل من هم من غير اليهود وأن تُصبح فلسطين يهودية خالصة». يُضاف إلى هذه النقطة، قضية إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، معتبراً أنّ ذلك «معناه هدم الأقصى ومعناه بناء الهيكل ومعناه أيضاً تحقيق نبوءة اليهود التوراتية بأنّ أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل». يرى الشيخ حمد الذي يحمل الفكر السلفي الجهادي أنّ «هذا يعني أننا مقبلون على حرب طاحنة، ونحن ندعو المليار ونصف المليار مسلم، شباباً بمئات الملايين، ندعوهم لأخذ دورهم بتحرير فلسطين». وينطلق حمد، الذي قاتل ابنه تحت راية تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا قبل أن يعود إلى المخيم، من حديث نبوي يقول: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون»، ليعقّب قائلاً: «أدعو الشباب المسلم لكي يكون من أهل هذا الوعد ومن أهل الجهاد لتحرير فلسطين وقتال اليهود».
لماذا الآن؟ سؤال لا بدّ من إعادة طرحه، يجيب عنه حمد بالقول: «تمّ تعطيلنا تاريخياً ووُرّطنا بمسائل لا ناقة لنا بها ولا جمل. البندقية التي سنحملها منذ اليوم هي بندقية قتال المشروع الصهيوني الصليبي». وفي هذا السياق، يقول الشهابي: «سننأى عن الصراع داخل المخيم والساحة اللبنانية. سنتحوّل للدفاع عن الأقصى الأسير». من يحمل هذا المشروع غيركم أنتم؟ يجيب: «هناك الكثير من الشباب الذين كانوا ضمن الشباب المسلم، وآخرون لا يُريدون الكشف عن أنفسهم، عاهدنا أنفسنا على المضي في هذه الطريق». ويضيف الشيخ المعروف بلقب «أبو الزهراء الزبيدي»: «مشروعنا أن نقاتل اليهود لتحرير ديارنا، أولاً، نحن نسعى لتحرير فلسطين لأننا مسلمون، وثانياً، لأن الأقصى أقصانا ونحن أهل فلسطين. والأولى بنا في ظل هذه الظروف التي يسعى فيها اليهود لتهويد القدس أن تكون القبلة فلسطين وليس أي مكان آخر».
هذه الخطوة توقفت عندها الأجهزة الأمنية اللبنانية، ولا سيما أنها تعدّ «تحوّلا تاريخياً في خطاب السلفيين الجهاديين» على حد تعبير أحدهم. ورغم أن المصادر تقرأ هذا التحول منذ أشهر، تكشف عن اقتراح قدمه مطلوبو الإرهاب في عين الحلوة للدولة اللبنانية طلبوا فيه فتح طريق لهم للذهاب إلى الجولان لتشكيل «لواء غرباء فلسطين». تقول المصادر اللبنانية إن هؤلاء «تعهدوا بأنهم لا يريدون التورط في المستنقع السوري، بل يريدون إعداد العدة لجهاد فلسطين الذي يرونه قريباً. لكن الدولة اللينانية رفضت هذا الطرح الذي قُدِّم في سياق صفقة تبادل مرتبطة بمعركة عرسال».
غير أن التساؤلات التي يطرحها الأمنيون تتعلق بكيفية ترجمة هذه الخطوة؟ ماذا يعني إعداد العدة، وهل سنشهد مجدداً إطلاق صواريخ بشكل عشوائي باتجاه الأراضي المحتلة على طريقة «كتائب عبدالله عزام»؟ هل يعني ذلك فتح الحدود أمام الجهاديين؟ ماذا عن حزب الله؟ هل يقاتل جنباً إلى جنب الجهاديين في وجه العدو الإسرائيلي؟
«الجهاديون الجدد» يؤكدون أنهم لن ينتهكوا السيادة اللبنانية، لكنهم يجزمون «سنقاتل اليهود جنباً إلى جنب كل من يحمل السلاح لتحرير الأقصى». هم يرون أن الحرب المقبلة ستقسم العالم إلى معسكرين، «أحدهما سيكون الصهاينة، فيما سيضم المعسكر الآخر المسلمين».

أبرز من أعلن عن التوجّه الجديد للسلفيين الجهاديين في مخيم عين الحلوة هو الشيخ أسامة الشهابي، أحد قيادات السلفية الجهادية. في ما يأتي مقال كتبه الشهابي ليشرح فيه القرار الجديد:
العودةإلى القدس

لم نتراجع ولن نتراجع، لكننا أجرينا مراجعة لإعادة تصويب البندقية. نحن ثلة من الشباب المسلم المتعطّش لقتال اليهود المجرمين الذين احتلوا ديارنا وطردونا منها وحكموا علينا بالقتل والتشريد والظلم والسجون، لذلك قررنا بعد البحث والتنقيب والقراءة والاستشارة والاستخارة ما يأتي:

إعداد العدة بقدر استطاعتنا لمواجهة اليهود الصهاينة المجرمين، وهذه العدة هي مطلب شرعي وواقعي، لأن اليهود لا ينفع معهم مفاوضات ولا اعترافات ولا تنازلات، فالطلقة بحاجة لطلقة. إن إعداد العدة من المنطلق الشرعي هو أمر واجب، لأن قضية فلسطين والأقصى هي قضية كل المسلمين. ففلسطين أرض خِراجية فتحها المسلمون فتحاً، وتعاقب للحفاظ عليها القادة المسلمون، وإن اختلفت لغاتهم وجنسياتهم.
وإعداد العدة هو ضروري وواقعي علينا لأننا أهل فلسطين. فالواجب علينا مضاعف، والجهد علينا أكبر لأن الواجب على أهل البلد المحتل أن يجاهدوا بكل طاقتهم، فإن عجزوا انتقل الأمر إلى البلاد المجاورة. نحن سنعدّ العدة الفكرية لتاريخ اليهود ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ماذا يخططون وما هي أهدافهم وكيف يرسمون سياساتهم ومن يعينهم ويؤيد قراراتهم الظالمة، وكيف يحاربوننا حرباً عقائدية، ولماذا نجحوا وفشلنا؟ سنبدأ بأنفسنا وأهلينا، ولأن المعركة طويلة الأمد، سنهيئ للجيل القادم الأساليب والطرق لقتال اليهود من أجل أن يسيروا على بيّنة وأهداف واضحة. فالحرب طويلة، وهي ستكون محور الصراع المستقبلي مع الأمة لقتال اليهود. فالأمة عندها حبّ الدين والأقصى، وعندها إرادة التضحية والبذل، ولكن تنقصها القيادة المخلصة المضحية والوعي الشرعي والسياسي.
نحن سننأى عن الصراع داخل مخيم عين الحلوة، ولن نكون طرفاً في أي صراع. وإن استطعنا وقف أي إشكال سيحدث سنسعى بكل طاقاتنا وجهدنا لحفظ أمن الناس بالمخيم. فقد تعب الناس من الاشتباكات التي يُقتل فيها البريء ويصاب فيها الآمن. وهذه الاشتباكات ما زادت الناس إلا خوفاً وهلعاً وتهجيراً لهم وتهديماً لمساكنهم وإهداراً للطاقات التي لو وجهت لقتال اليهود، لكنا في أحسن حال اليوم. ومنذ ثلاثين عاماً من هذا الصراع داخل المخيم الذي تتوارثه الأجيال لا يُولِّد إلا الثأر وردات الفعل والمستفيد الأول هم اليهود وأعوانهم. نحن لن نتدخل في الصراع اللبناني، وسيكون هدفنا الدفاع عن الأقصى الذي يُراد تهويده وهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه. ومَن تتبع السياسة الأميركية الظالمة بقيادة ترامب (الأحمق المطاع) تجاه الأقصى يعلم خطورة الهجمة القادمة لإذلال الأمة الإسلامية وجعلها أمة مستسلمة للواقع خانعة خاضعة للأوامر اليهودية الأميركية.
نحن لا تربطنا علاقات خارجية ولا داخلية مع أية جهة، ولن نكون أداة بيد أحد، فالأقصى بالنسبة إلينا قضية دين وعقيدة ومبدأ وليس حجارة وطين، ونحن على استعداد لمدّ يد العون لكل مخلص يريد قتال اليهود والدفاع عن الأقصى الأسير.
البناء والتأسيس لمثل هكذا مشروع فيه صعوبة وعقبات كؤودة، ولكننا توكلنا على الله وانطلقنا من منطلقات شرعية ولن يُضيعنا الله، ولئن نبدأ متأخرين خير لنا من أن لا نبدأ، فأهل القوة والمنعة في بلادنا قد سكتوا عن اليهود وتآمروا على فلسطين وأهل فلسطين وبيع الأقصى بسوق النخاسة، لذلك سنصبر ونحن نسير في الطريق ولسوف نحفر بالصخر حتى نصنع لأمتنا مجداً قد ضُيّع.
والله نسأل أن يكتبنا من الصادقين وأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا.
أسامة الشهابي
_______
عن
الأخبار

الأربعاء، 14 يونيو 2017

السعودية تزعزع استقرار العالم

    يونيو 14, 2017   No comments
كتب ستيفن كينزر في بوسطن غلوب

قبل أشهر قليلة بدا حاكم جاكرتا، أكبر مدن اندونيسيا متجهاً نحو فوز سهل للمرة الثانية بالرغم من كونه مسيحياً في بلد ذي غالبية مسلمة. فجأة ساء الوضع على نحو جدي. وخرجت حشود من المسلمين الغاضبين في الشوارع رفضاً له متذرعة بملاحظة عفوية أبداها حول القرآن. وخلال وقت قصير خسر الانتخابات، اعتقل، اتهم بالإساءة للدين، وحكم عليه بالسجن لعامين.
 


هذه الحادثة تثير القلق على وجه الخصوص لأن أندونيسيا، التي تعد أكبر دول العالم الإسلامية، لطالما كانت أكثرها تسامحاً. الإسلام الاندونيسي كما معظم النظم العقائدية في هذا الأرخبيل الشاسع سمح ومنفتح، بيد أن السقوط المذهل لحاكم جاكرتا يؤشر للعكس: عدم التسامح والكراهية الطائفية ونبذ الديمقرطية. الأصولية آخذة في التنامي في إندونيسيا، الأمر الذي لم يحدث من تلقاء نفسه.

عملت السعودية لعقود على فصل اندونيسيا عن الإسلام المعتدل وتوجيهها نحو النموذج الوهابي الذي يعدّ الديانة الرسمية في المملكة. الحملة السعودية كانت بطيئة، متعددة الوجوه، ومموّلة بسخاء. لقد أكد الرؤساء الأميركيون المتعاقبون لنا أن السعودية صديقتنا وتتمنى لنا كل الخير، لكننا نعلم أن أسامة بن لادن وغالبية منفذي هجمات 11 أيلول كانوا سعوديين، وأن "المانحين السعوديين يشكلون المصدر الرئيسي لتمويل الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء العالم" وفق ما كتبت هيلاري كلينتون في وثيقة دبلوماسية قبل ثماني سنوات.  

الأحداث الأخيرة في إندونيسيا تسلط الضوء على مشروع سعودي أكثر ضرراً من تمويل الإرهابيين. فقد استخدمت السعودية ثروتها التي يأتي جزء كبير منها من الولايات المتحدة، لتحويل مجتمعات بكاملها إلى بؤر للإسلام الراديكالي. من خلال رفض التظاهر أو حتى الاعتراف رسمياً بهذا المشروع بعيد المدى نموّل قتلتنا والإرهاب العالمي.

إن مركز الحملة السعودية لتحول الإندونيسيين نحو الإسلام الوهابي هو عبارة عن جامعة مجانية في جاكرتا تعرف اختصاراً باسم "ليبيا" LIPIA حيث يعطي دروساً باللغة العربية دعاة من السعودية والدول المجاورة. في هذه الجامعة يتم الفصل على أساس الجنس، وفرض قواعد اللباس الصارمة، ويمنع استخدام التلفزيون وسماع الموسيقى والضحك بصوت عال. يتعلم الطلاب شكلاً محافظاً ومتشدداً للإسلام يجيز قطع يد اللصوص ورجم الزناة وقتل المثليين جنسياً والذين يهينون الذات الإلهية.

الكثير من طلاب هذه الجامعة يأتون من أكثر من 100 مدرسة داخلية تدعمها السعودية في اندونيسيا أو أنهم من الذين يرتادون أحد المساجد الـ150 التي شيدتها السعودية هناك. ويحصل أكثر الطلاب الواعدين على منح للدراسة في السعودية التي يعودون منها مستعدين على نحو كامل لنشر الفوضى الاجتماعية والسياسية والدينية في وطنهم. ويروّج البعض لمجموعات إرهابية مثل حماس إندونيسيا أو جبهة المدافعين عن الإسلام اللتين لم تكونا موجودتين قبل قدوم السعوديين.
حرصاً على تكريس هذا الحضور، قام ملك السعودية سلمان برحلة إلى إندونيسيا استمرت 9 أيام في آذار/ مارس محاطاً بـ1500 من الحاشية. سمح السعوديون لأكثر من 200 ألف اندونيسي بالسفر لأداء مناسك الحج في مكة سنوياً، أكثر من أي دولة أخرى وسعت للحصول على تراخيص لافتتاح فروع جديد لجامعة "ليبيا".

يحاول بعض الاندونيسيين منع الاعتداء السعودي على قيمهم التقليدية لكن من الصعب منع التراخيص للمدارس الجديدة حين تكون الدولة عاجزة عن تقديم البدائل العلمانية اللائقة. 
في إندونيسيا كما في الدول الأخرى التي ينشط فيها السعوديون في الترويج للوهابية، بما في ذلك باكستان وأفغانستان والبوسنة، يؤدي ضعف وفساد الحكومات المركزية إلى خلق أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل الذين يسهل إغواؤهم عن طريق وعود بالحصول على الغذاء مجاناً أو أن يكونوا جزءاً من جيش الله.

دروس كثيرة يمكن استخلاصها من تنامي الأصولية التي تتسبب بتحوّل اندونيسيا. أولها ما يجب أن نكون سبق أن أدركناه وهو طبيعة الحكومة السعودية، القائمة على المكلية المطلقة المدعومة من قبل واحد من أكثر المذاهب الدينية رجعية في العالم. تدفع الحكومة السعودية مبالغ مالية ضخمة لرجال الدين من أجل الترويج لمذهبها المتشدد المعادي للغرب والمسيحية والسامية في الخارج. في المقابل يمتنع رجال الدين عن انتقاد المملكة أو الآلاف من أمرائها الذين يعيشون في مستويات معيشية مرتفعة.

السعوديون الذين تربطهم علاقات وثيقة بالعائلة الحاكمة يقدمون دعماً رئيسياً لجماعات مثل القاعدة وطالبان وداعش. هذه الحقيقة يجب أن تكون ماثلة في أذهاننا كأولوية لدى إعادة النظر في سياستنا تجاه الشرق الأوسط بما في ذلك حين نقرر اذا ما كنا سننحاز للسعوديين في خلافهم الجديد مع جارتهم قطر.

إن نجاح السعودية في إعادة تشكيل إندونيسيا يظهر أهمية خوض معركة فكرية شاملة. كثيرون في واشنطن يعتقدون أن الإنفاق على مشاريع ثقافية وتلك التي تندرج في خانة "القوة الناعمة" هو بمثابة هدر للمال . لكن السعوديين يفكرون على نحو مختلف. فهم ينفقون الأموال والموارد بكثرة من أجل الترويج لوجهة نظرهم ويجب علينا القيام بالمثل.
    
الدرس الثالث من واقع اندونيسيا اليوم مرتبط بضعف الديمقراطية. في عام 1998 مهدت الديكتاتورية العسكرية القمعية في إندونيسيا الطريق لنظام جديد قائم على الانتخابات الحرة التي وعدت بمنح الحريات المدنية والسياسية للجميع. عندها وجد الدعاة، المتشددون الذين كانوا يسجنون في السابق لتأجيجهم الكراهية الدينية، أنفسهم أحراراً في نشر سمومهم. الديمقراطية مكنتهم من استقطاب حشود كبيرة من الذين يؤمنون بعقوبة الموت للمرتدين. أحزابهم السياسية تخوض الانتخابات الديمقراطية من أجل ممارسة حقها في الوصول إلى السلطة ومن ثم سحق الديمقراطية. هذه هي الحقيقة المرّة للذين يظنون أنه يجب أن يكون هناك نظام سياسي واحد لكل البلدان في كل الظروف.


الحملة السعودية لجعل الإسلام متطرفاً على مستوى العالم تظهر أيضاً أن الأحداث التي تهز العالم تحدث ببطء وهدوء في كثير من الأحيان، فالإعلام الذي يركز باهتمام على التقارير اليومية غالباً ما يفتقد للقصص الأعمق والأكثر أهمية. في بعض الأحيان يشير مؤرخو الصحافة إلى الهجرة الكبيرة للأميركيين الأفارقة بعد الحرب العالمية الثانية شمالاً بوصفها قصة معاصرة لم يلتفت إليها سوى قلة من الصحفيين لأنها كانت عبارة عن عملية بطيئة أكثر من كونها حدثاً يومياً.


الأمر نفسه ينطبق على الحملة السعودية الطويلة الأمد لإعادة 1.8 مليار  مسلم في العالم إلى القرن السابع. لا نكاد نلاحظ ذلك لكننا في كل يوم نشعر بآثاره من مومباي إلى مانشستر.  
____________

الاثنين، 12 يونيو 2017

«داعش»... غدر الذاكرة فشل التجربة وعقم الأيديولوجيا

    يونيو 12, 2017   No comments
فؤاد إبراهيم

لم يقدَّر لأحد من الأحياء أن يعيش تجربة التأسيس الأولى للدولة السعودية الوهابية. ولم يقرأ أكثر سكان العالم عنها، ولكن بالتأكيد هناك كثيرون في أرجاء العالم شاهدوا اقترافات مقاتلي «داعش» في سوريا والعراق ومصر وليبيا والجزيرة العربية وعدد من العواصم الأوروبية. الإعدامات الجماعية، ونحر الرقاب، وقطع الرؤوس، وحرق الأجساد، وجلد الظهور، وقطع الأطراف، وسرقة الممتلكات كغنائم، وفرض الإتاوات، وهدم الأضرحة والقبور والدور، وتحطيم التماثيل والرموز... هذه كلها مشاهد في تجربة التنظيم غير الحكومي الأشد خطورة على السلام العالمي.

يفعل ذلك كله بغطاء شرعي وديني، ويحتمي بسجل من الفتاوى والنصوص الدينية، والسوابق التاريخية التي تبرّر إنزال الرعب وإشاعة الهلع في قلوب من يصنّفهم بالكافرين.
لكن «داعش» ليس نبتة طارئة، بل كما يقول عنها الشيخ السلفي وإمام الحرم الأسبق عادل الكلباني «نبتة سلفية. هي حقيقة يجب أن نواجهها بكل شفافية». وفي ضوء التجربة الوهابية الأولى، يصبح «داعش» امتدادها التاريخي والأيديولوجي.

البغدادي... الرؤية الوهابية

في اليوم الثاني من رمضان لسنة 1435هـ الموافق للأول من يوليو/ تموز لسنة 2014، الموافق لليوم الثاني من إعلانه أميراً للمؤمنين على «الدولة الإسلامية» التي تضم أجزاءً من سوريا والعراق، وجّه أبو بكر البغدادي (إبراهيم بن عواد البدري) «رسالة إلى المجاهدين والأمة الإسلامية» تناول فيها طائفة من المسائل في مقدمتها الجهاد، وطالب بالإبقاء على السلاح مشهوراً: «السلاح السلاح يا جنود الدولة! والنزال النزال! إياكم أن تغترّوا أو تفتروا، واحذروا!». تحدث عن مشروعه الكوني، وقدّم نفسه ودولته باعتبارهما أمل الأمة الإسلامية عامة وفق رؤية كونية تقوم على أساس تقسيم العالم إلى دارين: دار إيمان ودار كفر، بحسب التصوّر الوهابي. خطاب يصدر عن منابذة الآخر، طائفة وفكراً، فرفض مفاهيم «الحضارة والسلام، والتعايش، والحرية، والديمقراطية، والعَلمانية، والبعثية، والقومية، والوطنية». كذلك انتقد «تحكيم القوانين الوضعية الشركية» حسب وصفه، التي تهدف إلى «انسلاخ المسلم عن دينه والكفر بالله» حسب تصوّره العقدي.

يخلص البغدادي بعد الفراغ من عملية تصنيف واسعة النطاق للطوائف والمعتقدات والمفاهيم، إلى أنّ البديل الالزامي هو «دولة الخلافة» التي تضم أطيافاً متنوعة من جنسيات مختلفة «القوقازي والهندي والصيني، والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي، والأميركي والفرنسي والألماني والأسترالي...»، وهم مقاتلو «داعش» الذين تحوّلوا إلى مواطنين في دولة الخلافة.
هذا العبور للدولة والوطن وحتى الاتحاد القاري، يصدر عن رؤية كلاسيكية نمطية لمفهوم الأمة، الكيان المعياري على أساس عقدي، لا جغرافي، حيث تصبح حدود الأمة مفتوحة ومتمدّدة بحسب حركة انتشار العقيدة. وهذا على وجه الدقّة التجسيد العملاني لقسمة العالم إلى دار إسلام ودار كفر، على طريقة ابن عبد الوهاب في تصنيف الدرعية دار إيمان وما سواها دار كفر.
بعد قيام دولة الخلافة وعاصمتها الموصل، دعا البغدادي المسلمين إلى الهجرة إليها، بما يبطن موقفاً عقدياً من الدول القائمة قاطبة بكونها كافرة. هي رؤية كونية مدغومة في استراتيجية التغيير التي وردت في وصية البغدادي لجنود دولته، وبشّرهم في ختامها: «هذه وصيتي لكم؛ إن التزمتموها: لَتفتحُنّ روما، ولَتملكنّ الأرض».

مأزق النظرية السياسية السلفية

خطبة أبو بكر البغدادي في المسجد الكبير في الموصل أعادت مأزق التنظير السلفي لقبول مبدأ ولاية المتغلب بالشوكة، من خلال دعوته المسلمين عامة لمبايعته وطاعته لمجرد تغلب «داعش» وإقامته للخلافة.
في الوهلة الأولى، قد تبدو خطابات البغدادي وكأنها خلاصة تأملات عميقة في النص الديني، والواقع التاريخي والمعاصر للمسلمين، ولكن ما لبث أن تكشّف تطابق النص والرؤية والموقف مع ما كان لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمتحدّرين من خطه الفكري.
يتعمّد البغدادي تكثيف حضور الآية القرآنية، وإن كان يستخدمها في غير محلها أحياناً كالهجرة إلى دولته التي أراد استغلال فقرة «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها...» كدليل على وجوب الهجرة إلى دولته، ما يدلّ على أن معرفة الرجل بتفسير الآيات القرآنية تخضع لعملية أدلجة فارطة، أو ما يسبغ عليه داريوش شايغان سمة «أدلجة المأثور».
يضاف إلى ذلك، تعمّد استخدام عبارة «اتقوا الله» في غير مكان يبدو متكلّفاً مقتفياً سيرة مشايخ الوهابيين في تدجيج الخطاب بالمفردة الدينية، وتلك التي تتضمن عنصر الترويع والتشويق.
أسهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رمي خصومه بضروب التهم مثل السفاهة، والابتداع. بل نجده يمنّ على أهالي الدرعية بالإسلام والهداية على يده: «فالرجل الذي هداكم الله به ـ في إشارة إلى نفسه ـ لهذا إن كنتم صادقين لو يكون أحب إليكم من أموالكم لم يكن كثيراً»، ومثل ذلك رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة: «فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، وأحمدوه سبحانه الذي منّ عليكم ويسّر لكم من يعرفّكم بدين نبيكم».
وكان من تلامذة الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ، قاضي بلدة الحلوة، في إقليم نجد، الشيخ حمد بن عتيق (1227 - 1301هـ). وهذا الشيخ العتيق، له رسالة في جواب لمن ناظره في حكم أهل مكة وما يقال في البلد نفسه جاء ما نصه من قوله: «جرت المذاكرة في كون مكة بلد كفر أم بلد إسلام...»، وخلص إلى «أن هذه البلاد محكوم عليها بأنها بلاد كفر وشرك، ولا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد، وساعين في إزالة دينهم، وفي تخريب بلاد الإسلام». وزاد على ذلك بالقول: «بل الظاهر عندنا وعند غيرنا أن شركهم اليوم أعظم من ذلك الزمان» (انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، فتاوى ورسائل لعلماء نجد الأعلام، مطبعة المنار في مصر، الطبعة الأولى سنة 1928، الجزء الأول، ص 742 – 745).
وكان نموذج الرسائل التي يبعثها أمراء آل سعود منذ الدولة السعودية الأولى يحمل دلالات أيديولوجية واضحة، فالسيف الذي يشهره الأمير يستظلُّ بحزمة مزاعم دينية. وكان نموذج تلك الرسائل ما نصه: «من عبد العزيز إلى قبيلة (..) سلام. واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت». وفي رسالة الأمير سعود إلى سكان المدينة المنورة يقول فيها: «إني أبتغي أن تكونوا مسلمين حقيقيين، آمنوا بالله تسلموا وإلا فإني سأقاتلكم حتى الموت» (لويس دوكورانسي، الوهابيون... تاريخ ما أهمله التاريخ، ص ص 62،92).

التكفير محصلة الهجرة والجهاد

ولفهم خطاب «داعش البغدادي»، يتموضع مفهوما الهجرة والجهاد في صميم الأيديولوجية الداعشية، وهما مفهومان دينيان وتاريخيان. فالهجرة تصدق فحسب على هجرة مسلمين من دار شرك وكفر إلى دار توحيد وإيمان، وبالتالي فإن فحوى دعوة البغدادي بوجوب الهجرة إلى دولته إنما تبطن موقفاً عقدياً وحكماً بكفر كل من هم خارج دولته الإسلامية، أو من يرفض الالتحاق بها طوعاً أو كرهاً. وبالعودة إلى أدبيات «داعش» التي تتقاطع فيها مع «القاعدة» يظهر بوضوح الموقف من الدول القائمة في العالم الاسلامي.
لفهم أعمق للعلاقة بين التكفير والهجرة والجهاد، يربط عبد المنعم مصطفى حليمة في كتابه «الهجرة... مسائل وأحكام» المنشور في 9 ديسمبر 2001، بين الهجرة والجهاد، وهما خطّان متوازيان «فمن أراد أن يُحيي فريضة الجهاد لا بد له أولاً من أن يُحيي في نفسه فريضة الهجرة والتمايز إلى الله ورسوله». والهجرة لا تكون إلا من بلاد شرك إلى بلاد إيمان، وهذا يعني أن المهاجر حسم موقفه العقدي من المجتمع الذي هاجر منه، إن كان مجتمعاً مسلماً أو كافراً، وإلا ما هاجر منه. ولذلك فإن الكاتب يضع استثناءً مقصوداً «وهذا لا يعني ضرورة انعدام الاحتكاك أو الاتصال بالتجمعات الجاهلية المعاصرة المحيطة بالدعوة بقدر ما تقتضيه الضرورة والمصلحة أو السياسة الشرعية...». وإن كان يشدد على العزلة الشعورية والهجرة الباطنة «عن كل ما يمت للجاهلية من صلة».
فالهجرة شرعاً بحسب تعريفه هي «الخروج في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دارٍ شديد الفتنة إلى دارٍ أقل منه فتنة». والهجرة نوعان: مكانية مرتبطة بالخروج والانتقال من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، وهذا ما دعا إليه أبو بكر البغدادي في خطاب التتويج بإمرة المؤمنين! وهجرة الذنوب والمعاصي والآثام. والهجرة المكانية واجبة، لأن الله نهى عن «الإقامة بين أظهر المشركين».
وسوف يظهر كم مثّلت تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تجسيد مشروع الخلافة الإسلامية في منتصف القرن الثامن عشر النموذج المعياري الذي تحوّل إلى مصدر إلهام لكل التنظيمات السلفية التي ظهرت في طول التجارب السعودية الثلاث، وكذلك التنظيمات الجهادية التي تعتنق الوهابية طريقة ونهجاً.
فكان انتقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قرية العيينة إلى قرية الدرعية وسط نجد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي تجسيداً لمفهوم الهجرة وإيذاناً بإقامة «دار هجرة وإسلام» تكون مقدّمة تمهيدية لإقامة الخلافة الإسلامية. ويشرح الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد ابن عبد الوهاب، هذا المفهوم على النحو الآتي: «ما يجب معرفته أنه حيثما ساد الظلم والعصيان، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالهجرة من أجل حفظ هذا الدين وصون أرواح المؤمنين ضد الشرور. فلا تخالط أهل الضلال والعصيان، حيث يتم تمييز أهل العدل والإيمان من طائفة الفساد والعدوان، وحينئذ ترتفع راية الإسلام. فبدون هجرة لا تقوم لهذا الدين من قائمة ولا يعبد الله، ومن المستحيل بدون هجرة أن يجحد بالشرك والظلم والشر».
في النتائج، إن عديداً من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب هاجر إلى الدار الجديدة والانضمام إلى المجتمع الناشئ من المؤمنين، فتمّ تنظيم وتالياً تجريد الحملات العسكرية ضد المناطق المجاورة المنضوية تحت تصنيف دار الحرب.
في سنة 1216هـ. غزا عبد العزيز بن سعود العراق، وأناخ على كربلاء فقتل أكثر أهلها، ونهب البلد، ويعلّق البصري بما نصّه: «حتى يقال إنه ما غنم ابن سعود في مدة ملكه بعد خزائن المدينة المنورة أكثر من غنائم كربلاء من الجواهر والحلي والنقد، ثم قفل إلى نجد متبجّحاً بما فعله من سفك دماء...» (انظر: الشيخ عثمان بن محمد بن أحمد بن سند البصري، مطالع السعود بأخبار الوالي داود، اختصار أمين الحلواني، نسخة مقتطعة من كتابة خزانة التواريخ النجدية، جمع وترتيب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، ص 283 – 283).
وفي سنة 1223 هـ. أمر السلطان العثماني محمود، والي مصر محمد علي باشا، أن يجهّز جيشاً لإزالة الوهابية بقيادة الأمير فيصل بن سعود بعدما استولى على الحرمين، ونهب جميع ما في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، ومنعه حجّاج مصر والشام من أداء الفريضة باعتبارهم مشركين فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (البصري، المصدر السابق، ص 295 – 296).

«إخوان من طاع الله» و«داعش»

وقائع التجربة التأسيسية لمشروع الدولة الدينية الوهابية مقاربة بتجربة «داعش» في المناطق الخاضعة تحت سيطرته من قتل جماعي، ومصادرة للممتلكات، وهدم للآثار، وتحطيم للقبور والرموز والأضرحة والقباب والتماثيل وغيرها، تظهر في النتائج أننا أمام تجربة إحيائية جديدة حاولت تجسيد ما عجرت تجارب تصحيح مسار الدولة السعودية التي يعتقد كثيرون من أتباعها بانحرافه عن تعاليم الوهابية المؤسّسة، وأخفقت في حفظ نقاوة المشروع الوهابي العابر للحدود بإلغائها لفريضة الجهاد، وفي التعامل مع بقية المسلمين بأنهم مشركون، بالرغم من أن الدولة السعودية ما قامت إلا على هذه التصوّرات العقدية.
جرت محاولة أخرى لإعادة التجربة الإحيائية الوهابية في وقت لاحق، على قاعدة استدراك أخطاء التجارب السابقة منها انحراف أهل الحكم عن المبدأ الذي قامت عليه الدولة السعودية الأولى، وهو ما ذكّر به الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة إلى الأمير فيصل بن تركي، من أمراء الدولة السعودية الثانية: «وأهل الإسلام ما صالوا على من عاداهم، إلا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت إلا بهذا الدين...) (الدرر السنية في الأجوبة النجدية، الجزء 14 ص 70).
وكانت تجربة «إخوان من طاع الله»، وهم الجيش العقائدي الذي أنشأه عبد العزيز آل سعود، والد الملك الحالي، على فكرة إعادة إحياء المجتمع الوهابي النقي، الذي يتطلع لأن يستعيد تجربة الإخوان الأوائل الذي تحلّقوا حول الشيخ المؤسسس محمد بن عبد الوهاب. وحين سيطرة عبد العزيز على الرياض عام 1902، قرر التمدّد خارج نجد، وتحديداً باتجاه السيطرة على الأحساء سنة 1912، استعان بجيش الإخوان، الذي اكتشف بأسهم وشراستهم في القتال، فعاد معهم من الاحساء إماماً بعد أن كان قائداً عسكرياً.
تعزّز لدى «الإخوان» حلم إحياء الدولة الدينية التي تقوم على الجهاد في الأرض وتتمدد في كل اتجاه يمكن أن تصل إليه راية التوحيد والجهاد. فكان عبد العزيز يرسلهم إلى المناطق للسيطرة عليها، ويكون ذلك في الغالب بارتكاب المجازر والقيام بأعمال السلب والنهب وتخريب الممتلكات وسفك الدم، وما تقوم به «القاعدة» و«داعش» ليس إلا تكراراً حتى في التفاصيل، كالذبح وقطع الرؤوس مثلاً.
نجح عبد العزيز في توظيف «إخوان من طاع الله» في مشروع دولة لأسرته، ولكنّ التناقض بين مشروعه السياسي المدعوم بريطانياً تجابه في لحظة ما مع مشروع الفتح الوهابي، فكانت معركة السبله في 1929 فاصلة لناحية إنهاء الرابطة بين مشروعي الدولة والعقيدة الوهابية التي تحوّلت إلى إيديولوجية مشرعنة للدولة وليست مسيّرة لها.
محاولات تصويب مسار الدولة السعودية باءت بالفشل (الجماعات السلفية المحتسبة، تيار الصحوة، قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية). وجاء تنظيم «داعش» كمشروع سياسي/ ديني ينتمي إلى الوهابية عقيدة ومشروعاً سياسياً فوق قطري وفوق قومي، ليجدد إحياء الحلم الوهابي بالعودة إلى تعاليم الجيل المؤسس ومشروعه. ما كانت تخشاه السعودية هو أن مشروع «داعش» ينشأ ويترعرع خارج حدودها وخارج سيطرتها وقد تغذيه في مقارعة خصومها، ولكن لا يعني أن «داعش» يتخلى عن مشروعه الأصلي في تجسيد حلم الوهابية الأول.
الأخطر من وجهة نظر آل سعود، أن «داعش» هدّد مشروعية الدولة السعودية، تلك المشروعية القائمة على الامتثال الأمين لتعاليم مؤسس المذهب الوهابي، ولعقيدة التوحيد ومنظومة المبادئ الدينية التي قامت عليها الدولة السعودية.
وفيما تتآكل أطراف «الدولة» على وقع انهيارات تحصيناتها ومراكزها المنيعة، مع تقدّم القوات العراقية والسورية في استرجاع ما وقع تحت سيطرة التنظيم، فإن التحدّي الذي سيبرز تالياً هو مآل الأيديولوجية المسؤولة عن تشكيل التنظيم وشرعنته وانتشاره. فهل يعود إلى مرحلة ما قبل «الدولة» على غرار الوهابية في لحظة ظهورها الأول، حين كانت قائمة على ثالوث التكفير والهجرة والجهاد قبل أن تؤتي ثمرتها في إعلان المملكة السعودية سنة 1932، أم تتحوّل الى تنظيم إرهابي جوّال، يطوف بانتحارييه عواصم العالم، ويضرب حيث يثبت وجوده على قيد الحياة، وعليه، يصبح نموذجاً مشوّهاً لجماعة فوضوية (anarchists) تخرج على الدولة ليس على أساس مقاومة محوريتها، بوصفها أداة لحماية المنتجين الكبار وسعياً إلى الحفاظ على الملكية الفردية، بل الانخراط في مهمة تخريبية للدولة بكامل حمولتها، بوصفها رجساً من عمل الشيطان لا بد من اجتنابه.
_______
مقالات «الأخبار»

ابحث عن مقالات مثل التي قرأت

Advertise Here

المقالات الأكثر قراءة

_____________________________________________________
حقوق التأليف والنشر © مراجعات. جميع الحقوق محفوظة.