‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحركات الإسلامية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحركات الإسلامية. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 31 أغسطس 2016

توصيات مؤتمر أهل السنة والجماعة المنعقد فى الشيشان ورد السلفية التكفيرية

    أغسطس 31, 2016   No comments
أصدر المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين الذي انعقد في مدينة جروزني عاصمة جمهورية الشيشان والذي استمر ثلاثة أيام من 25 إلى 27 أغسطس 2016، عدد من النتائج والتوصيات ، وجاء أبرزها:

- أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقا وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى.

- للقرآن الكريم حرم يحيطه من العلوم الخادمة له، المساعدة على استنباط معانيه، وإدراك مقاصده وتحويل آياته إلى حياة وحضارة وآدابا وفنون وأخلاق ورحمة وراحة وإيمان وعمران وإشاعة السلم والأمان في العالم حتى ترى الشعوب والثقافات والحضارات المختلفة عيانا أن هذا الدين رحمة للعلمين وسعادة في الدنيا والآخرة.

ويعتبر هذا المؤتمر نقطة تحول هامة وضرورية لتصويب الانحراف الحاد والخطير الذي طال مفهوم "أهل السنة والجماعة" إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب الشريف وقصره على أنفسهم وإخراج أهله منه.

وخرج المؤتمر الذى افتتحه الدكتور أحمد الطيب ،شيخ الازهر الشريف، بعدة توصيات وهى:

1. أوصى المؤتمر بإنشاء قناة تليفزيونية على مستوى روسيا الاتحادية لتوصيل صورة الإعلام الصحيحة للمواطنين ومحاربة التطرف والإرهاب.

2. زيادة الاهتمام بقنوات التواصل الاجتماعي وتخصيص ما يلزم من الطاقات والخبرات للحضور الإيجابي في تلك الوسائط حضورا قويا وفاعلا.

3.  أن يتم إنشاء مركز علمي بجمهورية الشيشان لرصد ودراسة الفرق المعاصرة ومفاهيمها وتشكيل قاعدة بيانات موثقة تساعد على التفنيد والنقد العلمي للفكر المتطرف واقترح المتجمعون أن يحمل هذا المركز اسم "تبصير".

4.  عودة مدارس العلم الكبرى والرجوع إلى تدريس دوائر العلم المتكاملة التي تخرج العلماء والقادرين على تفنيد مظاهر الانحراف الكبرى.

5.  ضرورة رفع مستوى التعاون بين المؤسسات العمية العريقة كالأزهر الشريف والقرويين والزيتونة وحضرموت ومراكز العلم والبحث فيما بينها ومع المؤسسات الدينية والعلمية في روسيا الاتحادية.

6. ضرورة فتح منصات تعليمية للتعليم عن بعد لإشاعة العلم الآمن.

7. توجيه النصح للحكومات بضرورة دعم المؤسسات الدينية والمحاضن القائمة على المنهج الوسطي المعتدل والتحذير من خطر اللعب على سياسية الموازنات وضرب الخطاب الديني ببعضه.

8.  يوصي المؤتمر الحكومات بتشريع قوانين تجرم نشر الكراهية والتحريض على الفتنة والاحتراب الداخلي والتعدي على المؤسسات.

9.  أوصى المشاركون مؤسسات أهل السنة الكبرى – الأزهر ونحوه-بتقديم المنح الدراسية للراغبين في دراسة العلوم الشرعية من مسلمي روسيا.

10.  كما أوصى المشاركون بأن ينعقد هذا المؤتمر الهام بشكل دوري لخدمة هذه الأهداف الجليلة.

كما تقدم المشاركون بالشكر للرئيس رمضان أحمد قديروف لجهوده المباركة في خدمة القرآن الكريم والسنة المطهرة.



تعليقات وردود:

أخراج الوهابية السلفية من دائرة مذهب أهل السنة والجماعة

 بهدف التعريف بهوية “أهل السنة والجماعة”، حشد المؤتمر الذي افتتحه شيخ الأزهر أحمد الطيب واستضافته العاصمة الشيشانية غروزني، كبار علماء ومفكري العالم الإسلامي من مصر وسورية والأردن والسودان وأوروبا، بينهم: مفتي مصر الشيخ شوقي علّام، ومستشار الرئيس المصري ووكيل اللجنة الدينية بالبرلمان المصري الشيخ أسامة الزهري ومفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة، إضافة إلى مفتي دمشق الشيخ عبدالفتاح البزم والداعية اليمني علي الجفري، كما حضر المؤتمر المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم.

أخرج المؤتمر الوهابية السلفية من دائرة مذهب أهل السنة والجماعة، في موقف لم يكن جديداً على المستوى الديني، إلا أن الجهر به كان مقتصراً على الحلقات الدينية، لأسباب سياسية ومادية في غالبها.

المشاركون في المؤتمر وصفوه بأنه “نقطة تحول هامة وضرورية لتصويب الانحراف الحاد والخطير الذي طال مفهوم “أهل السنة والجماعة” إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب الشريف وقصره على أنفسهم وإخراج أهله منه”، في إشارة واضحة إلى الجماعات التكفيرية الوهابية المذهب السعودية الدعم. 


ما الوهابية السعودية
 
لم يكن المؤتمر بحاجة إلى زوبعة إعلامية من قبل دعاة المملكة السعودية، لتبيان أن الهدف هو إعلان براءة “أهل السنة والجماعة” من الإنحرافات التي أدخلتها الوهابية بلبوسها الديني، والتي تمثلها المملكة السعودية بمشروعها السياسي.


"الدم بالدم والهدم بالهدم" كان الركيزة الأساس لتحالف محمد بن عبدالوهاب مع محمد بن سعود عام 1745 م، لا انفصام بين الوهابية الدينية والسعودية السياسية، لن تقوم الأولى بلا الثانية وليس مقدراً للثانية ان تستمر بلا الأولى، هذا ما تعهد به المحمدان، وهذا ما يبرر حمام الدم المفتوح منذ نشأة التحالف أو ما عُرف بـ "ميثاق الدرعية" الذي قاد إلى الدولة السعودية الأولى، والثانية، ووريثتهما الدولة السعودية الثالثة التي أسسها عبدالعزيز ابن سعود.

منذ العام 1932 (إعلان قيام المملكة السعودية بعد السيطرة على كامل أراضي نجد والحجاز)، كان العالم الإسلامي مفتوحاً أمام التمدد الوهابي-السعودي، استخدمت المملكة السعودية “الوهابية” كسلاح لتعزيز نفوذها في العالم الإسلامي الذي أخرجت أهاليه من دائرة الإسلام ما عدا من قال بما جاء به ابن عبدالوهاب. المنطق الديني الهش لم يكن وحده سلاح المملكة، بل دعمته أموال النفط التي أُنفقت على تحويل أبناء المسلمين إلى الوهابية، عن طريق المدارس الدينية أو المساجد التي أنشأتها المملكة حول العالم.

الصراعات السياسية شغلت دول العالم الإسلامي عن التغلغل الديني الناعم للوهابية في هذه الدول، ما سمح لاحقاً بنشأة الجماعات المتطرفة التي استخدمتها السعودية سياسياً، ووجدت نفسها في مواجهتها بعد أن فرّخت جماعات استفحلت في التطرف، وتفوقت على المملكة بإطلاق العنان للتكفير.

مؤخراً، طرق إرهاب التكفير أبواب أوروبا بعد أن استهدف الدول الإسلامية، الشيشان الأوروبية-الإسلامية استشعرت خطر تكفير يوظف أبناء المسلمين لقتل أبناء المسلمين. وعلى المستوى العالمي بدأ الحديث عن آليات مواجهة التكفير، حتى في داخل السعودية التي لاتزال ترعاه فكرياً ومادياً. وفي هذا السياق العالمي العام أتى مؤتمر الشيشان، إلا أن الجديد في المؤتمر كان الموقف الحازم المُعلن تلميحاً  في تحميل الوهابية-السعودية مسؤولية التكفير والتشدد.

حملةاعلامية سعودية


يوم السبت 27 آب/أغسطس انتهت فعاليات المؤتمر الذي استمر لأيام ثلاث، لتنطلق حملة إعلامية شعواء رعتها المؤسستين الدينية والسياسية في السعودية. فغرد الكاتب في صحيفة “الجزيرة” السعودية محمد آل الشيخ: “اختلف مع المتطرفين الغلاة و نالني منهم الكثير لكن اذا تعلق الامر بتقزيم الوطن وتهميشه سأتحول الى اكبر متشدد؛ فالوطن قضية موت وحياة في معاييري”.

وفي سياسة التمنين بالمال السعودي كتب الأكاديمي محمد عبدالله العزام: “مفتي مصر السابق علي جمعة تتلمذ على الشيخ حمود التويجري رحمه الله وأكرمه علماء السعودية وشبع من علمهم وموائدهم… مكافأة شيخ الأزهر للسعودية على مشاريعها الضخمة في الأزهر التحالف مع بوتين لطردها من العالم الإسلامي.. تحتاج لطبيب نفسي.”

فيما وصف المشرف على مؤسسة الدرر السنية الداعية علوي السقاف بيان مؤتمر الشيشان بالمخزي لأنّه فرّق الجماعة بإخراجة الوهابية من مذهب أهل السنة والجماعة. وتهجم السقاف على الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف واصفاً إياه بـ “الصوفي الخرافي”، مستعرضاً مقاطع مرئية “يتَّهم فيه الوهابيةَ بالخيانةِ لتعاليمِ الدِّين، ويقول عن المجاهِدين في سُوريَّة: إنَّهم ليسوا بمُجاهدِين وإنَّهم يُشوِّهون الإسلامَ”، وفق تعبير السقاف.

وعلى صورة السقاف، تداعى دعاة المملكة السعودية إلى مهاجمة المؤتمر، ومهاجمة “الصوفية” التي يتشكل منها غالبية مسلمي الشيشان، والتي تتهمها الوهابية بالشرك وتخرج من دائرة الإسلام عموماً، كحال مختلف المذاهب الإسلامية. النفير العام لدعاة المملكة، تجلى في تغريدة لإمام وخطيب جامع الملك خالد بالرياض سابقاً عادل الكلباني الذي قال: “ليكن مؤتمر الشيشان منبِّها لنا بأنَّ العالم يجمع الحطب لإحراقنا!”

إلا أن صوتاً فريداً مختلفاً خرج من داخل المملكة. انتقد الشيخ حسن فرحان المالكي مؤتمر الشيشان لتكريسه المذهبية مؤكداً على أن “الانتساب للفرق والمذاهب ليس شرعياً إنما الإنتساب للإسلام فقط هو الشرعي”، إلا أنه قال أيضاً إن “الذين أخذوا على مؤتمر الشيشان الإقصاء، هم من أكثر الناس إقصاء وعداوة لجميع المسلمين”، مضيفاً أنّ ” خطوة مؤتمر الشيشان سلبية وإيجابية في وقت واحد فهي سلبية من حيث تكريسها المذهبية وهي إيجابية من حيث استعادة أكثر أهل السنة لدورهم.”


الرد السعودي الرسمي: بيان الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
حذرت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من الدعوات التي تهدف إلى إثارة النعرات وإذكاء العصبية بين الفرق الإسلامية، مؤكدة أن كل ما أوجب فتنة أو أورث فرقة فليس من الدين في شيء، وليس من نهج محمد صلى الله عليه وسلم في شيء، الذي تنزل عليه
قول الله تعالى:(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء).
جاء ذلك تعليقًا على البيان الختامي للمؤتمر الذي عقد بمدينة غروزني-الشيشان بعنوان:(من هم أهل السنة).
وأضافت في بيان لها اليوم: إنه في محكم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد ?: أنه لا عز لهذه الأمة ولا جامع لكلمتها إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن أمة الإسلام أمة واحدة، وتفريقها إلى أحزاب وفرق من البلاء الذي لم تأت به الشريعة، وعلى الإسلام وحده تجتمع الكلمة، ولن يكون ذكر ومجد لهذه الأمة إلا بذلك، قال الله تعالى:(وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون).
وأورد البيان أنه " في ضمن ذلك ؛ فإن الفقهاء والعلماء والدعاة ليسوا بدعا من البشر؛ فأنظارهم متفاوتة، والأدلة متنوعة، والاستنتاج متباين، وكل ذلك خلاف سائغ، ووجهات نظر محترمة، فمن أصاب من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.
والخلاف العلمي-بحد ذاته- لا يثير حفائظ النفوس، ومكنونات الصدور؛ إلا عند من قلّ فقهه في الدين، وساء قصده ونيته.
وأبان البيان أنه " ليس من الكياسة ولا من الحكمة والحصافة؛ توظيف المآسي والأزمات لتوجهات سياسية، وانتماءات فكرية، ورفع الشعارات والمزايدات والاتهامات والتجريح .
وقالت الأمانة في بيانها :" ومن ثَمَّ: فإن الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء تحذر من النفخ فيما يشتت الأمة ولا يجمعها، وعلى كل من ينتسب إلى العلم والدعوة مسؤولية أمانة الكلمة، ووحدة الصف، بخلاف أهل الأهواء الذين يريدون في الأمة اختلافًا وتنافرًا وتنابذًا وتنابزًا؛ يؤدي إلى تفرق في دينها شيعا ومذاهب وأحزابًا ، وما تعيشه الأمة من نوازل ومحن؛ يوجب أن يكون سببًا لجمع الصف والبعد عن الاتهامات والإسقاطات والاستقطابات؛ فهذا كله يزيد من الشُّقة ولا يخدم العالم الإسلامي، بل ينزع الثقة من قيادات العلم والفكر والثقافة ".



عن الموقع الحكومي:  http://www.spa.gov.sa
 ...

______________________________

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

خلفيات وأهداف انفكاك النصرة عن القاعدة

    أغسطس 02, 2016   No comments
د. محمد علّوش*

تعلم "جبهة فتح الشام" كما غيرها من الفصائل الجهادية المسلحة أن مشروعهم في سوريا بدأ يترنح وقد يسقط، بعد أن تمكن الأسد من الصمود مع تزايد دعم حلفائه إيران وحزب الله، وان ترتيبات روسية أمريكية قد وصلت مرحلة التفاهم في كثير من نقاطها على كيفية التعاطي مع المشهد السوري بشكل عام ومع الفصائل المسلحة بشكل خاص، وان الدعم الخارجي للفصائل المسلحة أصابه العطب أو الانكفاء لأسباب كثيرة، ولم يتبق أمام هذه الجماعات سوى إعادة تقييم لنفسها وللمشهد برمته قبل أن يفوت الأوان.
لم تكن "جبهة النصرة" صاحبة الحالة الأولى الذي يقدم فيها تنظيم من تيار السلفية الجهادية على تغيير اسمه
لم تكن "جبهة النصرة" صاحبة الحالة الأولى الذي يقدم فيها تنظيم من تيار السلفية الجهادية على تغيير اسمه
لم تكن "جبهة النصرة" صاحبة الحالة الأولى الذي يقدم فيها تنظيم من تيار السلفية الجهادية على تغيير اسمه، فقد حدث ذلك مرات عدّة، وفي عدد من البلدان، كما أن اسم" القاعدة" كانت تتخفف منه التنظيمات الموالية لـ "بن لادن" يوم كانت الثورات العربية في أوج اندفاعها قبل خمس سنيين، وقد ابتكرت أسماء جديدة كان أكثرها رواجا "أنصار الشريعة" الذين انتشروا في اغلب الدول التي حصلت فيها انتفاضات شعبية باستثناء سوريا، لأسباب سنأتي على ذكرها.
بل تكشف الرسائل السرّية التي ضبطت في منزل أسامة بن لادن حين اغتياله، والتي كشفت عن جزء منها الاستخبارات الأمريكية، أن زعيم "القاعدة" كان يفكر جدياً في إجراء مراجعات فكرية وتنظيمية لمنظمته. أما لماذا لم تشهد سوريا رواجاً لمصطلح "أنصار الشريعة"؟ فذلك يعود إلى أن "جبهة النصرة" حين أوفدها أبو بكر البغدادي إلى سوريا لم تظهر تبعيتها لأحد. وقد أحدث وجودها فرقاً واضحاً في العمليات والهجمات التي كانت تستهدف مفاصل الدولة السورية. ولولا أن البغدادي طمع في القدوم إلى الشام بعد خروج مناطق شاسعة عن سيطرة الحكومة السورية لما حصل النزاع بينه وبين الجولاني عام 2013 الذي اضطر معه الأخير إلى التنصل من بيعة البغدادي بعد رفض متكرّر لعدد من الأوامر، وإعلان البيعة للظواهري لضمان وصول الإمدادات البشرية والمالية التي تأتي من الداعمين لفكر "القاعدة" عالمياً بعد أن حوصر التنظيم، وانفض عنه العشرات الذين التحقوا بتنظيم داعش.
 خلال السنوات التي أعلنت "النصرة" بيعتها لتنظيم القاعدة، حاولت الاستفادة من أخطاء التنظيم في العراق، فمالت نحو الانخراط في جبهة أوسع مع الفصائل المسلحة السورية على شاكلة "حلف المطيبين" الذي هندسته "القاعدة" عام 2004 في العراق لمواجهة الاحتلال الأمريكي في حينه. وبالفعل نجحت في أن تكون جزءاً أصيلا في ائتلاف "جيش الفتح" في الشمال السوري. ومعلوم حجم الإنجازات العسكرية التي حققها جيش الفتح بعد تشكيله.
 ورغم المناشدات المكثفة والنصائح الموجهة لها من الداخل السوري وخارجه لفك ارتباطها ب"القاعدة" من أجل استمرار الدعم الخارجي للفصائل المعارضة، وأملاً في خلق كيان عسكري موحد لجميع الفصائل المسلحة، إلا أن "النصرة" كانت تردّ أن هذا "المطلب لن يغير من واقع أهل الشام شيئا.. فالغرب مصر على قتالنا وسلبنا حقوقنا، سواء كنا قاعدة أو غير قاعدة لأننا نحمل منهاجا يهدم آمالهم في المنطقة ولأن الإسلام هو المستهدف قبل القاعدة ولأن فك الارتباط لن يعتد به في حرب هدفها تحطيم كل ما هو قوة إسلامية ضاربة. وأن الوحدة لو كانت مطلبا مرهون تحقيقه بفك الارتباط، لتوحدت جميع الفصائل الأخرى بعيدا عن النصرة ولكنها لم تفلح في التوحد".
أسباب فك الارتباط بين "النصرة" وخصومها:
"فك الارتباط جاء الآن تحديدا، ولأن المطالبة به جاءت من أهل الشام (يقصد الشعب السوري) لا من المقتاتين على فتات الأنظمة الطاغوتية أو المفحوصين بأجهزة الاستخبارات الأمريكية". بهذه الكلمات يحدّد أحد منظري "القاعدة" أسباب انفكاك جبهة النصرة عن تنظيمه، في حين يبرر أبو محمد الجولاني اتخاذه لهذه الخطوة "نزولاً عند رغبة أهل الشام في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي".
في حوار مسرب للقائم على مؤسسة "المنارة البيضاء" التابعة لجبهة النصرة، يقول: "مخطط الاتفاق بين أمريكا وروسيا على استهداف وقصف النصرة عامة كان له دور في اتخاذ الخطوات العملية. أما الفكرة فهي مطروحة من قبل الشيخ أيمن منذ كلمة (نداء عاجل لأهلنا في الشام).. قيادات "القاعدة" و"النصرة" يرون أنها على الأقل ستعرقل الاتفاق بين أمريكا وروسيا وستعطي مجالا أكبر ومرونة للفصائل الصادقة في الساحة للتعاون فيما بينها لصد العدو الصائل على الإسلام والمسلمين.. فستنتقل قوة جبهة النصرة وإمكانياتها في الساحة من كونها مصنفة على قائمة الإرهاب وتحت البند السابع.. ستنتقل هذه القوة بإمكانياتها (بنفس منهجها) إلى اسم جديد نظيف ليس مصنفًا تحت أي وصف".
يتابع المصدر" فحتى لا يُقال يومًا إن "القاعدة" كانت هي السبب في إنهاء الجهاد بالشام لتعنتها في التمسك باسمٍ يتخذه الكفر العالمي ذريعة لإنهاء الجهاد في أرض الشام.. فلله ثم للتاريخ ولمصلحة الساحة الشامية، كان فك الارتباط التنظيمي".
 من أبرز الاتهامات التي وجهت لجبهة النصرة أنها لم تُقدم على فك ارتباطها بتنظيم القاعدة يوم كان ذلك في مصلحة سوريا، وكان يُرمى من يناشدهم بالانفكاك بالخيانة حتى إذا وصل البلل إلى ذقونهم تقرر الانفصال الذي لم يكن خياراً قد اتُخذ من أجل سوريا والسوريين وإنما استجابة للمخاطر الخارجية وليس الداخلية.
فك الارتباط، عند المنتقدين له، جاء متأخرا، وبعد أن استنفذت جبهة النصرة وقتها في الكبر والمراوغة، وهي لم تستسلم لرأي القائلين بضرورة فك ارتباطها ب "القاعدة" إلاّ بعد أن أعلن الحلف الأمريكي الروسي قصفها دون هوادة.
 وقد عدّ بعضهم عشرة مآخذ على جبهة النصرة، كلّها من ثمرات المنهج القاعدي، "أهمّها البغي على فصائل الثورة وقتالها واستحلال دمائها وأموالها وأملاكها بغير حق، والتسلط على الناس والتدخل في حياتهم وحكمهم رغماً عنهم". وإذا كان حالها هذا لم يتغير، فبماذا سينفع السوريين تغير اسم "النصرة" وفك ارتباطها التنظيمي ب "القاعدة".. ألم تفك داعش ارتباطها ب "القاعدة" من قبل، ثم شرعت في تكفير قادتها واتباعها وفجرت في خصومتها مع كل من يعارضها أو يرفض الإذعان لمشروعها؟ وما الذي يضمن ألاّ تحذو "جبهة فتح الشام" حذو داعش طالما أنها تنهل من نفس مشربها العقدي والفكري؟
 لم يطلب أحدٌ في الفصائل المسلحة من جبهة النصرة أن تغير اسمها يوماً. وكان المطلوب أن يكون انفصالها عن تنظيم القاعدة انفصالا منهجياً، ذاك المنهج الذي "دفع جبهةَ النصرة، وما يزال يدفعها إلى التميز عن ثورتنا والاستعلاء على ثوارنا واستباحة الأنفس والأموال بذرائع واهية لا يقبلها عقل ولا دين".
 وتخلص الفصائل المنتقدة أو المتوجسة إلى ضرورة أن يكون انفصال جبهة النصرة عن منهج "القاعدة" وليس عن الارتباط التنظيمي بها وحسب، وأن تُطلّق منهجه طلاقاً بائناً لا رجعةَ فيه، وأن تصبح جزءاً من مشروع الوطني الذي يهدف إلى تحرير سوريا من الاستبداد بجميع صوره وأشكاله، حتى لو كان باسم الدين.
تمكن الجيش السوري وحلفاؤه من محاصرة ما تبقى من المناطق الخارجة عن سيطرته في مدينة حلب، وانكفاء تركيا إلى الانشغال بأوضاعها الداخلية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وعجز الدول المؤيدة لفصائل المعارضة المسلحة عن تقديم الدّعم في الشمال السوري تحديدا دون تنسيق مع تركيا، مرفقاً بحجج صعوبة وصول الدعم وتقلصه وفتور الحراك السياسي الداعم للمعارضة دولياً يعود لوجود تنظيمات مسلحة مدرجة على قوائم المنظمات الإرهابية دولياً، عجل من اتخاذ القرار لدى "النصرة" رغم أنه كان يدرس لفترة طويلة وكانت الأمور تتجه إلى إعلانه دون الاتفاق على التوقيت المناسب.
إمكانية الانشقاق داخل النصرة، ومستقبل المهاجرين داخلها؟
أشاعت جبهة النصرة خبر انفكاكها عن "القاعدة" وسربته لوسائل الإعلام المختلفة قبل أيام عديدة من إعلانه بشكل رسمي، ودون أن تعلّق على ما تمّ تداوله إعلامياً من حيث التأكيد أو النفي. وكان الهدف منها هو رصد ردّات الفعل داخلياً وخارجياً، ومحاولة امتصاصها بعد أن يكون النقاش قد استنزف طاقته بين معارض ومؤيد. وتهيأ العناصر الدنيا في التنظيم لما ستقدم عليه جبهة النصرة. تبع ذلك ظهور احمد الحسن أبو الخير النائب العام لزعيم القاعدة أيمن الظواهري مباركاً لجبهة النصرة قرارها بالانفصال، موحياً انه تم بناء على مشاورة وتراضي بين الطرفين، وأنه انفكاك تنظيمي لن يغير من مبادئ وثوابت الطرفين.
 وقد جرى الإعلان الرسمي بعد استكمال الإجراءات الإدارية الخاصة بها والتي منها إبلاغ فروع القاعدة في العالم بقرار التنظيمين. وتطلب الأمر أن تسبق كلمة أبو الخير كلمة الجولاني لقمع أي حالة تمرد داخل "النصرة" بعد أن تحولت إلى تنظيم سوري بحت لا رابط له بأي جهة إقليمية أو دولية.
 خرج الجولاني مكشوف الوجه والى جانبه كل من عبد الله عطون (أبو عبد الله الشامي) وهو سوري الجنسية، واحمد سلامة مبروك (أبو الفرج المصري) وهو من قيادات "القاعدة" و"الجهاد الإسلامي" المصري تاريخياً.
 وتأتي هذه الخطوة لرأب الصدع في صفوف قيادة "النصرة" وعناصرها المنقسمين على أنفسهم بشأن قرار ترك "القاعدة". حيث أن جلُّ مجلس الشورى وقيادات الصف الأول والثاني يعلمون الخطر المحدق بهم في المرحلة الحالية. كما سبق لقيادة الجبهة أن وعت الدرس الذي حدث بينها وبين تنظيم داعش. ولا ترغب بتكرار ذلك مع وضعها الجديد.
 بين أبو الفرج المصري، رمز "المهاجرين" وأبي عبد الله الشامي رمز "الأنصار"، رسالة مفادها مشروع "جبهة فتح الشام" ماض بسواعد المهاجرين والأنصار. ووجود أبو الفرج المصري إلى جانب الجولاني كانت رسالة للجهاديين من غير السوريين الذين يقاتلون في صفوف "النصرة" وغيرها من المكونات الأخرى أنهم لن يتركوا لحالهم. فهم جزء من مكونات الكيان الجديد.
 وقد قصد الجولاني من خلال هذه الرمزية الدلالة على تماسك "المهاجرين والأنصار" وإظهار اتفاقهم على القرار المتّخذ، كون المصري يُمثّل "المهاجرين" والشامي يمثّل "الأنصار" حيث تتجاوز نسبة المهاجرين في "النصرة" ثلث عددها أو تزيد قليلاً، وتراهن "جبهة فتح الشام" أن انفكاكها عن "القاعدة" سيزيد عدد التجنيد الداخلي في حين سيبقى باب استقبال المهاجرين والتنسيق معهم مفتوحا كما كان من قبل.
 ستبقى إمكانية الانقسام داخل "جبهة فتح الشام" قائمة، وان كانت حظوظها ستضعف كلما طال الزمن، طالما أن "النصرة" كانت تحوي تيارات داخلها تتراوح بين اللّين تجاه الفصائل المسلحة بما فيها الجيش الحرّ وبين التشدد الذي يصل حدّ التماهي شبه التام مع توجهات وممارسات تنظيم داعش.
هل يتغير المنهج بتغير الأسماء؟
إذا كانت المسالك التنظيمية والحركية متغيرات اجتهادية مرحلية تتطور وتزول بحسب الضرورة والحاجة، فهل يعتبر فك الارتباط التنظيمي تغيراً في المبادئ والأهداف؟ يجيب أحد قيادات "النصرة": "التخلي عن التبعية التنظيمية للقاعدة لا يعني التخلي عن أي ثابت من ثوابت الدين ولا حتى ما نراه ونعتقده من السياسة الشرعية، كما أن الأخوة والولاء الإيماني مع تنظيم قاعدة الجهاد بكل فروعه باق بالطبع، وهو أعلى وأدوم من أي ولاء تنظيمي".
وإذا ما عطفنا الكلام الوارد آنفاً مع كلمات الجولاني حيث اختفى من خطابه شعار إقامة "خلافة على منهاج النبوة"، ليبقى "العمل على إقامة دين الله، وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين الناس" يتبين لنا أن التغير هو في الاسم فقط أما المنهج والثوابت فكما هي لم ولن تتغير على ما يبدو في المستقبل المنظور.
هل فك الارتباط سينهي قتالها؟
وجود أبو الفرج المصري إلى جانب الجولاني دلّ على قلّة حنكة سياسية عند قيادات جبهة النصرة من ناحية وعلى حجم تأثير المقاتلين الأجانب داخل الجبهة من ناحية أخرى. وهذا يضيف معضلة جديدة إلى قائمة المعضلات التي تواجه "جبهة فتح الشام" الجديدة إذ أن الإشكال الغربي والروسي معها ومع غيرها هو أيديولوجيتها الهادفة إلى إقامة دولة إسلامية، فضلاً عن عدوى الفكر الجهادي العابر للحدود القطرية بين الدول.
تعلم جبهة النصرة يقينا أن تغير اسمها وفك ارتباطها بتنظيم القاعدة لن يغير من الموقف الغربي والروسي، ولا حتى من مواقف النظم العربية منها قيد أنملة. وليس ذلك لاجتهاد كبير لديها وتبحر في العلوم السياسية وخباياها ودسائسها وإنما لأسباب أيديولوجية عقدية صرفة، تُستدعى الشواهد السياسية إليها لتعزيز القناعة بها ليس أكثر. وتنص أيديولوجية السلفيات الجهادية قاطبة على أن الغرب بقدّه وقديده، وبرّه وفاجره، ويساره ويمينه، يسعى للقضاء على الإسلام واستئصال شأفته بالكلية ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. أما النظم العربية، وفق الأدبيات عينها، هي أنظمة وظيفية متغربة تسعى لإحداث قطيعة معرفية مع الإسلام وتاريخه، وتبذل جهدها في لجم الشعوب المسلمة والحيلولة دون نهضتها وتحكيمها الإسلام. 
والسؤال الوجيه: إذا كانت "النصرة" كما أخواتها من تيارات السلفية الجهادية لديها هذه القناعة التامة بالمفاصلة التامة بين الإسلام الذي تمثله هي حصرا وبين الكفر الذي يمثله الآخر، وهنا هو الغرب بتشكيلاته المختلفة. فلماذا ننفصل عن تنظيم القاعدة طالما أن الأمر يشتتها ويفرقها ويضعفها ويذهب وحدتها "ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون". وإذا كان الانفكاك التنظيمي عن "القاعدة" لا يحقق النكاية في الخصم، فلماذا تنصاع إليه جبهة النصرة؟
الجواب الأكثر وجاهة هو حالة الاهتراء التي تعانيها جبهة النصرة في الحاضنة الشعبية في المناطق السورية. فقد تآكلت شعبيتها على مدار ثلاث سنوات بعد الخلاف الذي حصل بينها وبين تنظيم داعش وما أعقبه من اقتتال وتعدي تنظيم داعش على بقية الفصائل المسلحة وخوضه حروبا شرسة ضدها هي أشدّ بكثير مما يخوضه ضدّ النظام السوري. ولا يخفى هنا التجاوز الذي تمارسه جبهة النصرة لمرات متعددة على ما تدعيه فصائل مسلحة أخرى أنه من حقها أو من اختصاصها.
 ترغب "النصرة" في أن تبرهن لمنتقديها من الفصائل ولعموم الشعب السوري المتذمر من وجودها في سوريا أن الحالة المأساوية التي تعيشها المناطق الخارج عن سيطرة النظام لا تعود لوجود جبهة النصرة، ولا لارتباطها ب "القاعدة" وإنما هي النقمة من الشعب لأنه ثار وطالب بفك أغلاله.
أما الولايات المتحدة التي تقود التحالف الغربي، فهي تملك من المرونة ما يدفعها لتقييم وضع "جبهة فتح الشام" بشكل دوري، وهي لن تستجيب إلى مطالبات وقف استهداف الجبهة فوراً كما أنها لن تقطع عليها الطريق في تجنب معاداتها. وجلّ ما تريده الولايات المتحدة من الجولاني أن تتحول جبهته إلى أداة تحقق أهداف واشنطن في سوريا، هذه الأهداف التي تتبدل يقينا من وقت لآخر، وبين مرحلة وأخرى. فهي تريد من "جبهة فتح الشام" اليوم أن تخضع لشروط وتوجهات التحالف الغربي كحال الفصائل المسلحة المرضية عنها في الشمال السوري، فتوجه بندقيتها إلى تنظيم الدولة، وتتحاشى التحرش بحلفاء واشنطن من الأكراد أو الفصائل الأخرى، وتلتزم مواجهة الأسد وفق القواعد التي يضعها الغرب. فإذا ما لبّت "جبهة فتح الشام" هذه المطالب والتزمت الاشتراطات الموضوعة سلفاً، فتصبح حينها فصيلاً وطنيا معتدلاً وشريكا موثوقاً ومدللاً في مباحثات الحل السياسي في سوريا. وعندما تضعف "جبهة فتح الشام" في مرحلة لاحقة ستبدأ مطالب جديدة لن تنتهي إلا بتفكك "جبهة فتح الشام" وأخواتها من تيارات السلفية الجهادية التي تشكل تهديدا محتملاً ولو بعد حين على الغرب في بلدانه المختلفة أو على مصالحه في البلدان العربية والإسلامية.
الخطوة التالية بعد الانفصال
إذا كان ما سبق ذكره هو هدف الولايات المتحدة، وإذا كانت الدول الداعمة للحراك الثوري في سوريا والمصرة على تغير نظام الحكم تسعى إلى وجود قوة عسكرية موحدة غير منتمية أو مرتبطة بتنظيمات خارجية مدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية، تمثل الجناح العسكري للمعارضة في سوريا، فإن للقائمين على "جبهة فتح الشام" بعد انفكاكهم عن تنظيم القاعدة أهدافا أخرى.
تعلم "جبهة فتح الشام" كما غيرها من الفصائل الجهادية المسلحة أن مشروعهم في سوريا بدأ يترنح وقد يسقط، بعد أن تمكن الأسد من الصمود مع تزايد دعم حلفائه إيران وحزب الله، وان ترتيبات روسية أمريكية قد وصلت مرحلة التفاهم في كثير من نقاطها على كيفية التعاطي مع المشهد السوري بشكل عام ومع الفصائل المسلحة بشكل خاص، وان الدعم الخارجي للفصائل المسلحة أصابه العطب أو الانكفاء لأسباب كثيرة، ولم يتبق أمام هذه الجماعات سوى إعادة تقييم لنفسها وللمشهد برمته قبل أن يفوت الأوان.
وتكاد تتفق كل تيارات السلفية الجهادية في سوريا وخارجها بما فيها تنظيم القاعدة انه آن أوان التحول من "جهاد النخبة" أي الطلائع المقاتلة من المؤدلجين جهادياً بين الشعوب الإسلامية إلى "جهاد الأمة" أو ما يمكن أن نطلق عيه "ثورجة الجهاد" بحيث يصبح ظاهرة شعبية عند عموم المسلمين، فإذا ما نجحت التيارات الجهادية في نقل الجهاد من دائرة النخبة إلى دائرة الأمة فإنها تكون بذلك قد بنت جداراً عاليا جداً لصدّ ضربات كلّ من يعادي المشروع الإسلامي في إقامة الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية وقضت على كل المؤامرات التي تحاك ضد نهضة المارد الإسلامي. وانفكاك جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة في عمقه يعود لرؤية استراتيجية بدأت تنحو نحوها "القاعدة" ومن يوافقها أهدافها أن الحلّ الحقيقي هو في نقل الطاقة من النخبة إلى الأمة.
 ولا أفضل اليوم أو انسب في تحقيق هذه النقلة من الواقع السوري الحالي. وتحديداً في الأماكن التي خرجت عن سيطرة الدولة السورية منذ خمس سنوات حيث اعتادت على غياب الدولة وانهار لديها هيبة الدولة التي تحول دون الخروج إلى مواطن الجهاد.
ويرى هؤلاء أن شروطاً أساسية تتطلبها المرحلة للوصول إلى هذا الهدف في سوريا. وهذه الشروط هي:
*  اقتداء باقي الفصائل المسلحة بجبهة النصرة بفك كل ارتباطاتها الخارجية التي لم تعُد على الشام إلا بالتفرقة والتخذيل والتطاحن والتدابر ·      
* تعبئة الشارع الشامي وتجييشه ودعوته باستمرار ليكون الحاضنة الوفيّة لأهل الجهاد.
* تحييد الأبواق المرجفة والمخذلة والمنبطحة والمحاربة لمشروع "جبهة فتح الشام" ورد عاديتها وكفّ أذاها بكل الوسائل المتاحة. 
* بث روح الوحدة وتوحيد الصفوف إلى أقصى مدى بين المجاهدين والتخلص من نزعات العصبية والحزبية المفرقة.  * التنازل عن الأسماء لأجل اسم واحد هو الهدف، بعد رد عادية الأعداء.
* جمع الدعم اللازم لهذا الجهاد كي يثمر من كل أبناء الأمة في غير الشام.     
* إقامة دولة إسلامية موحدة مبدأها الشورى والشروع في تأسيس أعمدتها منذ توحيد صفوف الجماعات للقتال، لأنها مرحلة تمهيدية ستسهل الوحدة ولن تكون إلا بمحكمة شرعية موحدة ولجنة إفتاء للعلماء موحدة، ودوائر عمل موحدة وغرف عمليات موحدة.
* وبالفعل فقد تم تأسيس تجمع "أهل العلم في الشام" التي تضم المراجع الدينية لأغلب الفصائل المسلحة في الشمال، استباقاً لهذا المشروع في سبيل تحقيق الوحدة العسكرية بين الفصائل. وقد نال وما يزال بركة أغلب العلماء المؤيدة للمعارضة المسلحة على الساحة السورية.
لقد نضجت الظروف الداخلية والخارجية التي أرغمت "النصرة" أو أغرتها على فك تحالفها مع تنظيم القاعدة. وبالتالي الخطوة التالية من الحراك سيكون نحو توحيد الفصائل المسلحة في جبهة موحدة. يفترض أن المسعى القادم للدول الراعية للفصائل المسلحة هو دمجها في كيان عسكري جديد له تراتبية واحدة.  وإذا ما تمكنت "جبهة فتح الشام" من تجاوز حاجز الانقسام الداخلي وتمكنت من الحفاظ على زخمها القتالي، فإن الخطوة التالية لها هي التماهي الكامل مع مكونات مسلحة أخرى تشبهها على الصعيد الأيديولوجي. ولعل من المكونات الأبرز هي حركة أحرار الشام.
 ومنذ إعلان "النصرة" فك تحالفها مع "القاعدة" انهالت الدعوات المطالبة بالتوحد في جسم واحد، وكان أبرز الداعين إليه هي "أحرار الشام"، "الحزب الإسلامي التركستاني"، "أجناد الشام"، و"فيلق الشام"، فضلاً عن عشرات المنظرين الجهاديين من أمثال عبد الله المحيسني، عبد الرزاق المهدي، سراج الدين زريقات وغيرهم.
 وقد تكون الفصائل المكونة لجيش الفتح حالياً هي العمود الفقري للتشكيل القادم الذي ينبغي أن يكون الطرف المقابل للنظام. وتجربة جيش الفتح سيعاد له الزخم من جديد ريثما يتهيأ الكيان الجديد. وسيكون دخول "جبهة فتح الشام" في تحالفات جديدة، مع فصائل أخرى شمالي البلاد، بتشجيع من بعض الدول الداعمة للمعارضة المسلحة، بهدف تحقيق اندماج يكفي لمنع استهداف "جبهة فتح الشام" منفردة، ثم الدفع بعجلة القوة العسكرية للمعارضة نحو الأمام.
في تقديري، عملية فرز ستتم على الساحة السورية. سينشأ عنها ثلاث فرق أساسية تتقاتل فيما بينها إلى جانب قتالها للنظام السوري. "جبهة فتح الشام" مع "أحرار الشام" واغلب الفصائل المسلحة في الشمال السوري في كيان جديد، قد ينضم إليه لاحقاً "جيش الإسلام" إذا ما اقتنع الراعي الخارجي له أن نفوذه في سوريا سيتضرر إذا لم يتم دمج "جيش الإسلام" مع المكون الجديد. سيقابل الكيان المفترض ولادته، تنظيم داعش وقد انضم إليه بعض المنشقين عن "النصرة" سابقاً وأظهرت فصائل مسلحة بيعتها العلنية له بعد العمل لصالحه سرّا فترة طويلة، تنظيم مثل جند الأقصى. أما المكون الثالث فهي المكون الكردي المدعوم أمريكياً. ومع الوصاية التي تمارسها الولايات المتحدة على الأكراد وبعض الفصائل التي يمكن أن تندمج مع "جبهة فتح الشام" مستقبلاً، يصبح الصراع في سوريا قد أعيد ترتيبه بهدف السيطرة عليه تماما في إطار الصراع الروسي الأمريكي من جديد، تمهيداً للمرحلة القادمة.

_______

* حاضرَ في عدة مؤتمرات دولية حول الإصلاح السياسي والديني. حاصل على دكتوراة عن أطروحته "السلفيون في سياق الدولة الوطنية". يحضّر حاليا أطروحة دكتوراة في أصول التربية بعنوان: التربية السياسية ودورها في تنمية الوعي السياسي عند طلبة الجامعات. من مؤلفاته المنشورة: داعش وأخواتها. التيارات السلفية: الأفكار والتنظيمات.

الثلاثاء، 31 مايو 2016

الخلفية الثقافية للقتل عند السلفية الجهادية: "الغرباء فقط سيُقتلون" و "الإسلام هو الحلّ"

    مايو 31, 2016   No comments

 "الغرباء فقط سيُقتلون"
* علي السقا

لم تفعل الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
غالباً ما تمنح نظرية المؤامرة أولئك الذين يتعطّشون لفهم ما يجري من حولهم ما يكفي من الطمأنينة التي تحرّر أكتافهم من المسؤولية متعدّدة الوجوه حيال الأحداث الجسيمة التي يعيشون تداعياتها. وهؤلاء إذ يغذّون تلك النظرية فيعمدون إلى ترسيخ وظيفتيها السياسية والاجتماعية، يستحيل معها أيّ حدث عبارة عن منتوج  خارجي على هيئة جسم غريب يكفي أن يواجه بالقوّة إجمالاً ليتم التخلّص منه.
الكلام الآنف ليس وظيفته الحطّ من نظرية المؤامرة ولا الإعلاء من شأنها فهذا بحث آخر، إلا أن مُقاربة ظواهر حسّاسة، وتكاد تكون مصيرية، مثل ظاهرة المقاتلين المراهقين في داعش، يُفترض أن تتم مناقشتها وتحليلها باستخدام أدوات مفاهيمية تتجاوز الركون إلى نظرية المؤامرة كمرجعية وحيدة.

في ما يلي، قراءة مطوّلة تحاول الإحاطة بالأسباب السياسية والاجتماعية والنفسيّة، التي ربما قد تكون دفعت وتدفع الكثير من الشباب إلى أتون المعارك في سوريا والعراق. وهذا يستدعي الحديث بنود يفترض أنها تلعب دور المساعد على "فهم" ظاهرة نشوء داعش ثم قدرته على استقطاب المقاتلين، وذلك لغاية السعي إلى استجلاء الصورة في أبعادها المكانيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة.

-       ولكن يا أبي، هل سنربح الحرب؟

-       طبعاً يا بُنيّ، لا بل ستنتهي قبل أن تستيقظ.

-       لماذا؟

-       لأنها إن لم تنتهِ بسرعة، فسوف يغضب الناخبون من السيّد بوش، وربما امتنعوا عن الاقتراع لصالحه في آخر الأمر.

-       ولكن هل سيكون هناك قتلى يا أبي؟

-       لن يُقتل أحد ممن تعرفهم يا بُنيّ. الغرباء فقط سيُقتلون.

-       وهل سأرى كل هذا على التلفزيون؟

-       فقط إذا وافق السيّد بوش.

-       وبعد ذلك، سيعود كل شيء إلى مجراه الطبيعي؟ ولن يرتكب أحد أية فظاعات؟

-       هسّ يا بُنيّ، هيا نم[1].

تكاد هذه المحادثة المُتخيّلة بين أب وابنه، أن تلخّص تاريخاً مديداً من إزدواجية المعايير الأخلاقية عند الغرب. وإذ ليس من الموضوعية في شيء اعتماد أسلوب الإطلاق على شعوب بأكملها، فإن التاريخ السياسي الأوروبي والأميركي القريب والبعيد، لا يزال يؤشّر صراحة إلى وجود هذه الازدواجية. ولذلك فإن سؤالاً أخلاقياً لا ينفكّ يكرّر نفسه. إذا كان حقّ الانسان في أوروبا وأميركا في الحياة مُقدّس، وغير قابل للمَسَاس به إلا في حدود ما تمّ التعاقد عليه بين الشعب والسلطة، فما هي القاعدة الأخلاقية التي تخوّل هذه السلطة سلب مَن هم خارج نطاق سلطانها حقّهم في الحياة؟ ثم ما هي المبرّرات الأخلاقية لفعل القتل؟ وكيف لشعوب تقدّس الحقّ في الحياة، أن تُسهم في وصول سلطة وتمنحها الشرعية السياسية والقانونية التي تخوّلها ممارسة القتل؟

يكشف الواقع الحالي والتاريخ القريب لما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، إن فعل القتل إنما تمّ ولا يزال يتمّ باستسهال مُطلِق. هكذا يمكن العثور بشكلٍ شبه يومي على أخبار عن مقتل مدنيين "عن طريق الخطأ"، في كلٍ من الدول التي أعلنت الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول 2001، حربها ضد الإرهاب فيها أو حربها عليها. ففي العراق، أُبيدت الشهر الماضي عائلة زيدان العراقية المكوّنة من 36 مدنياً بأكلمها في قصفٍ مخزن لتنظيم داعش في منطقة اليابسات السكنية في الموصل، من بينهم 17 امرأة و11 طفلاً.

هذه المجزرة جاءت قبل إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قبل نحو شهر الموافقة على توجيه الضربات الجويّة ضدّ أهداف داعش في العراق وسوريا، حتى لو أدّت إلى سقوط الضحايا من المدنيين ومن دون الرجوع إلى القيادة العسكرية، إذا ما تبين أن هدف الغارة الجوية يستحق ذلك.

وهذا يعني أن ما حصل مع عائلة زيدان في الموصل، سيحصل مع غيرها، لكنّه مدّعم بغطاء قانوني يبرّر فعل القتل تحت مُسمّى "أضرار جانبية". لماذا؟

ليس من الإجحاف القول إن لهذا النوع من القتل اليومي بالشكل الآنف الذكر سيرورته. ذلك أن هذا الشكل من القتل لم يكن إبن وقته. فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن لفعل القتل الذي مُورِسَ بحقّ العرب والمسلمين، من الانتداب وصولاً إلى الحرب على الإرهاب، له جذوره الفكريّة والفلسفيّة. ليست الغاية من هذا الكلام محاولة إيجاد تقابل بين جلاّد وضحية. ذلك أن لكل مجتمع من المجتمعات منهما نصيب، وما عدا ذلك فهو ضرب من المثالية فارغ. لكن الثابت إلى الآن أن فعل القتل المُمارس ضدّ العرب وغيرهم، إنما خضع لتبريرات تجد أسسها في الثقافة.

تتحمّل الثقافة وِزرَ أكبر قدر من الفظاعات المُرتكبة في تاريخ البشرية. إنطلاقاً من هذه المُسلّمة انطوت الثقافة الأوروبية على كمّ من الأحكام المُسبَقة، التي أجازت عبر تاريخ طويل قتل "الغريب المتخلّف". الحداثة الغربية رسّخت عبر مسيرتها إزدواجية المعايير الأخلاقية تجاه فعل القتل. فقد ثبّتت الحكم الديني والثقافي والاخلاقي على أديان وشعوب في افتعال مقارنة مضطربة وظالمة، ومن بينها المقارنة بين المسيحية والإسلام، ثم القول بقدرة الأولى المتحقّقة في التقدّم والتطوّر، ولعب الثاني دور إقعاد أتباعه والعالم عن سلك دروب التّحديث.

تشهد كتابات بعض المستشرقين[2] طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على توكيد تلك النظرة المُسبَقة التي حملت ثقافة الحداثة الغربية على الاعتداد بما يكفي بقيمها، لرمي الآخر المُسلِم بصفة التخلّف، الذي تأسّس على الربط بين تديّنه بالإسلام وبين "تخلّفه وتوحّشه"، ثم انسحب لاحقاً ليطال جغرافيا تشمل مسيحيين أيضاً (أفريقيا وأوروبا الشرقية)، حيث أُرسيت مقولة عالمي الشمال والجنوب بشكل إطلاقي وصلف.

يمكن القول إن السياسة الأميركية ومنذ أكثر من عقد، هي الإبن الشرعي للتاريخ الأوروبي الذي سبقها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا بعقود. فازدواجية المعايير الأخلاقية هي نفسها التي ظلّ مسرحها عالم "الأغراب"، حيث القتل مُباح غالباً بحجة دفع الخصم إلى "التحضّر والمدنيّة".
ليس من الصعب على أي دارس لتاريخ المنطقة العربية أن يعثر على سُحُب الدّم المُتتالية. بإمكان هذا الدارس أن يُلصِق صورتين للمكان نفسه وفي زمنين مختلفين، ثم يتأملهما من دون أن يجد أدنى فرق بين ممارسات الانتداب وبين السياسة الأميركية منذ العام 2003، سوى أن الصورة الأولى لم تتمكّن من إظهار أحمر الدّم على هيئته الحقيقيّة.

وفي هذا السِياق بإمكاننا أن نستشهد بتقريرٍ صدر العام الماضي عن جمعية أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية "بي إس آر"، والتي توصّلت فيه إلى أن عدد القتلى نتيجة عشر سنوات من "الحرب على الإرهاب"، أي منذ هَجَمَات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، قد "وصلت على الأقل إلى 1.3 مليون، وقد تصل إلى مليونين".
هذه الحرب التي بدأت باجتياح أفغانستان ثم العراق بعناوين فضفاضة تمتاز بها العقليّة الأميركية ومنها "الحرب العادلة"، رفدت حينها برسالة موقّعة من مجموعة كبيرة من المثقفين الأميركيين، الذين سعوا إلى إيجاد ما يكفي من مسوّغات فكرية وأخلاقية لتلك الحرب، بالرغم من اعترافهم الضمني بمشاعر الحقد الذي يكنّه المسلمون للولايات المتحدة رداً على سياستها.
 
في معرض نقاشه لهذه الرسالة يرى المفكّر الفرنسي جان بودريار أن أي قارىء لها "يُدرك المكانة الرمزية العالية التي ينبغي أن يحتلّها الوازِع الاخلاقي في صنع السياسات، لكنّه هو أيضاً، وهم يتميّز به الأميركيون"، ويتابع أن هذا الوهم هو الذي يجعل الأميركيين "يقيمون في اليوتوبيا[3] المتحقّقة" التي تنبني على "بلوغ قدر موصوف من القوّة المُطلقة العسكرية والاقتصادية والسياسية"، ليوضح تلك الازدواجية في المعايير الأخلاقية فيقول "تصبح الفضائل الشمولية مبادىء لا ينطبق اعتبارها إلا في الحاضرة الامبراطورية ... على غِرار التجارب اليونانية والرومانية والبريطانية ... فما ينطبق على المواطنين من أهلها لا ينطبق على الخارج البربري، وكل ما ليس هي، هو بربري تعريفاً. وعلى الخارج البربري أن يكتفي بسبيلين للتدخّل: عسكري ماحِق، و"إنساني" خيري"[4].

لم تفعل تلك الحروب المُتتالية على المنطقة والتي لم تنتهِ إلى الساعة، سوى أنها دفعت نحو تعميق الشعور العربي المسلم بالظلم المُقيم أمام القوّة الغربية السافِرة. كان شعوراً طاغياً عند فئة لا بأس بها من المسلمين. شعور لم يركن إلى الحاضر، بل ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، حيث القوّة الإسلامية الماحِقة التي تذرّرت مع انهيار الخلافة العثمانية.
___________________
"الإسلام هو الحلّ"
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.
في الجزء الأول من هذه القراءة، ناقشنا الخلفية الثقافية التي أسست لفعل القتل الذي مورس بحق العرب والمسلمين، لأكثر من قرنين. الأمر الذي جعل من الحروب المتتالية على المنطقة، تدفع نحو تعميق الشعور الإسلامي بالظلم المقيم أمام القوة الغربية. غير أن هذا الشعور ظل يجد مرجعيته في الماضي البعيد، متخذاً بعداً تراجيدياً مع انهيار الخلافة الإسلامية التي شكلت لقرون عنوان القوة الإسلامية الماحقة.
في الجزء الثاني من هذه القراءة، سنقوم بتسليط الضوء على التداعيات الثقافية والإجتماعية والسياسية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، ثم صعود الكيانات الوطنية تحت عباءة جديدة جامعة هي القومية العربية. قبل أن تأتي هزيمة العرب أمام إسرائيل، في العام 1967 ثم اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978، لتشكل امتحاناً قاسياً للقومية العربية، الذي كان فاتحة لنقاش داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول "الجدوى"منها.
من الخِلافة إلى القومية العربية ... "الإسلام هو الحلّ"
 
استطاعت كتابات أغلب المستشرقين أن تؤسّس للسيرورة التاريخية للاستعمار. وإذا كانت الغاية غير المُعلن عنها حينها هي الهيمنة الاقتصادية، فإن الغرب خاطب شعوبه باللّغة التي يفهمها، لتكون مسوّغاً منطقياً لوجود جنوده في أراضٍ غريبة. أي تلك اللغة التي احتكمت إلى قِيَم الحَدَاثة الأوروبية، حيث "الرقّي" مقابل "التوحّش"، و"التقدّم" و"العلم" مقابل "التخلّف" و"الغيبيات". لغة جعلت الاستعمار واجباً "إنسانياً"، لتحضير هؤلاء "الأغراب" غير المؤهّلين لحكم أنفسهم وربطهم بالحَدَاثة، ولو استلزم هذا الربط قتل ما يكفي من المعارضين.


قد لا يختلف واحدنا بأنه كان للاستعمار وجه إيجابي، حيث مثّلت تواريخ مُعيّنة ممهّدة له، صدمة دفعت ببعض العرب[1] ومنهم مسلمين كباراً إلى محاولة تلقّف منجزات الحَدَاثة الغربية، لكن انطلاقاً من مقولة إن الإسلام لا يمنع من التقدّم بل يحثّ عليه، وإنه لا يوجد تعارض بين التّحديث السياسي والاقتصادي وبين المحافظة على الخصوصيّة الدينية والثقافية (الإمام محمّد عبده [2]، رفاعة الطهطاوي وغيرهما).


لكن بالرغم مما حقّقه الاستعمار من صدمة إيجابية في بعض النواحي، إلا أن ثقله كان لا يزال رابضاً فوق صدور شعوب المنطقة العربية التي ينتمي جلّها إلى الإسلام. حيث مثّل الاستعمار بالنسبة إلى شرائح واسعة، الحقيقة القاطعة بانهيار آخر فصول التاريخ الإسلامي مع إرث المسلمين الطويل مع الخلافة.

كان لهذا الواقع أثر الصدمة على الكثيرين. وظل الوعي العام منقسماً بين ثلاثة أجنحة، جناح يسعى إلى استعادة الخلافة، وجناح يروم الغاية نفسها ولكن بشروط سياسية واجتماعية جديدة، أي دولة إسلامية ببنى حديثة، وهو ما عبّرت عنه حركة الإخوان المسلمين، وبين طرف ثالث قال بضرورة تكوين دول وطنية على قاعدة قوميّة جاءت في الأساس رداً على سياسة التتريك التي فرضت على المسلمين والمسيحيين الالتحاق بتركيا بوصفهم رعايا أتراكاً.

لكن الغَلَبَة وقتها كانت للحركة القومية العربية، التي حاولت أن تقدّم نفسها بوصفها بديلاً، يحاول المواءمة بين الإسلام والعروبة، لكنه مفتوح بالدرجة الأولى على استيعاب التنوّع الديني والإثني (المسيحي خصوصاً)، وهذا كان يستلزم شكلاً جديداً من أنماط الدول التي لم يكن للعرب بها عهد من قبل. هكذا عبّدت القومية العربية الطريق أمام صعود أنظمة "علمانية" حاولت أن تستنسخ في جلّها العلمانية الفرنسية، التي تمتلك هي الأخرى خصوصيتها في أوروبا (كما هي الحال في تونس إبّان حكم بو رقِيبة وصولاً إلى بن علي).

 
وعلى الرغم من التقاطع بين الإسلام وبين القومية العربية في العديد من المُشتَركات التي يجسّدها الإسلام الثقافي وأولها اللغة، لم تتمكّن القومية العربية من أن تحصّل للمسلمين ما ضاع منهم. فهي لم تستطع، أن تثبت لهم عن مقدرتها في أن تكون بديلاً نهائياً من الخلافة، كما لم تستطع أيضاً استعادة ما خسره المسلمون في بداية عمر دولهم القُطرية، أي فلسطين.

فالبديل عن الخلافة الإسلامية وقتها كان يعني فعلياً، تنامي الحضور السياسي والثقافي والاجتماعي للتيّارات اليسارية والاشتراكية في عالم مستقطب بين قوتين، ظلتا توسمان إسلامياً بأنهما شيوعية "مُلحدة"، وليبرالية "صليبية" لاحقاً. لقد نمت هذه التيّارات في مقابل ضمور حركات الإسلام السياسي تحت وطأة التعاطي الرسمي الأمني والعسكري (من اعتقال قياداتها وتعذيبهم وقتلهم وإقصائهم عن الحياة السياسية)، وبسبب التحاق الأنظمة العربية وأحزابها الواحدة، وإلحاق شعوبها "المسلمة" بهذا القطب أو ذاك.

ثم جاءت الضربة القاصمة في العام 1967، حيث هزيمة العرب أمام إسرائيل، (أو ما اصطلح على تسميته نكسة هروباً من الواقع آنذاك وتلاعباً بالوعي)، ليخسر العرب أجزاء أخرى من أراضيهم.
 
لقد كان من شأن هذه الهزيمة أن تشكّل امتحاناً قاسياً للقومية، حيث أعادت إحياء النقاش الواسع وتحديداً داخل الأوساط الفكرية الإسلامية حول أسبابها، وذلك بالتضافر مع أزمات إقتصادية وسياسية كبرى، خَلُص فيها النقاش إلى أن الخسائر المتكرّرة للشعوب العربية "المُسلِمة" إنما جاءت بسبب ابتعادها عن دينها، ليعلو بعدها شعار "الإسلام هو الحل"، والذي اتّخذ منذ ثمانينات القرن الماضي شكل وصفة خلاصية لكل ما يتخبّط به العرب من أزمات.

 
ولذلك فإن ما يُسمّى "الإسلام الأصولي الجهادي" الذي نشهد معاركه اليوم، لم يكن ابن ساعته. فقد سبقه ما يكفي من وقت لتبلور "الاجتهادات" الخاصّة داخل الجسم الواحد، الذي اجتمعت أطرافه الموسومة بالاعتدال على ثلاثة مشتركات:

أولاً: تحميل الأنظمة العربية مسؤولية "تغريب" المسلمين ودفعهم إلى أحضان الشيوعية "المُلحِدة"، وما استتبعه من تكفير زعامات عربية ومنها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ورميه بالكفر وبالتالي إهدار دمه.

ثانياً: ربط هزائم العرب وتفاقم أزماتهم مجتمعة بالعقاب الإلهي بسبب ارتمائهم في أحضان الشيوعية، والدعوة إلى طلب الرحمة لرفع هذا العقاب عبر العمل السريع لإعادة المجتمعات العربية إلى "إسلامها"، والذي لن يتم إلا بوجود دول رؤساؤها "مؤمنون" يفتحون المجالين الاجتماعي والسياسي للتيّارات والحركات الإسلامية لأن تعمل بحرية تامّة.

ثالثاً: التسليم بضرورة وجود قوّة تتزعّم المسلمين لتكون بديلاً موضوعياً من الخلافة المُنهارة، وهو ما أخذته المملكة العربية السعودية وإيران على عاتقيهما، كل في زمنه ووفق منطقه ورؤيته، من خلال تقديمهما الدعم المالي والفكري والسياسي لكل حركات الإسلام السياسي.

لقد تبلورت "الاجتهادات" المذكورة أعلاه، في وقت وفّرت دول عربية وعلى رأسها مصر للحركات الإسلامية، هامشاً واسعاً من حرية التحرّك والتحشيد والأدلَجَة، قبل دخول المنطقة في عصر التحوّلات السياسية الكبرى، التي أعاقت قدرة بعض الأنظمة العربية على ضبط هذه الحركات. والمقصود هنا، معاهدة السلام التي عقدتها مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي عنت لحركات الإسلام السياسي والمتعاطفين معها، وغير المتعاطفين داخل مصر وخارجها، دليلاً إضافياً على "غياب" الجدوى من الرابطة القوميّة.

لعل ما يذكره الكاتب المصري بلال فضل[3] في هذا الشأن، يُعيد التدليل على النتائج الكارثية لسياسة البطش التي مارستها بعض الأنظمة العربية، وبالأخص مصر الساداتية، من خلال الركون إلى تحالف واسع مع الحركات الإسلامية بغية ضرب الخصوم والتخلّص منهم، قبل إعلان الحرب الضروس على الحليف الجديد لاحقاً وتحوّل الرئيس "المؤمن" إلى آخر "كافر". والحديث عن مصر هنا، إنما يكتسب حيثيّته التاريخية والثقافية، استناداً إلى ما مثُلته مصر لعقود بالنسبة إلى العرب والمسلمين، من حاضنة للقومية العربية ورافع لرايتها.

لقد مثّل كامب ديفيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً، إعلاناً صريحاً عن تغيّر تاريخ المسار السياسي بين العرب وإسرائيل، حيث الانتقال من المواجهة ولغة التحرير إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع. بعد هذا التاريخ الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دور الراعي للاحتلال الإسرائيلي في سياسته الاستيطانية وحاميته من المُساءلة الدولية على جرائمه، ظلّ ينظر إليها بوصفها الامتداد التاريخي للاستعمار الأوروبي "الصليبي". وإذا كانت السياسة الإسرائيلية، في بعض وجوهها، "قابلة" للهضم أوروبياً إنطلاقاً من أزمة الديمقراطية الأوروبية نفسها[4]، فإنها أميركياً كانت على درجة كبيرة من الصَلاَفَة.
 
المراجعة السريعة التي أجرتها التيّارات الإسلامية "الجهادية" للعلاقة مع الولايات المتحدة، بعد انتهاء دور هذه التيّارات في هزيمة الروس في أفغانستان، خَلُصت إلى إجراء توليف متأخّر وساذج، من خلال الاعتقاد بإمكانية الاستفادة من واشنطن "الصليبية" لمحاربة "الإلحاد" الشيوعي من دون تقديم أي مقابل. لكن هذا الأمر لم يطل حين وضِعَت هذه التيّارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة أمام الواقع القاسي، الذي تمثّل بدخول الأميركيين الواسع إلى "الأرض المقدّسة" في الخليج، بعد حرب الكويت.

يمكن القول إن هذا الواقع وقتها، أطلق العنان لتعود البُنية الفوقية عند غالبية التيّارات "الجهادية" الإسلامية إلى السَيَلان من جديد. والمقصود هنا، جملة الأفكار الثابتة التي أرستها القراءة الأحادية للقرآن والسيرة والتاريخ، فأسّست لنظرة واحدة إلى المسيحي باعتباره "صليبياً" (وما تفعله إسرائيل يغذّي هذه النظرة يومياً)، على حساب دفن البنية التحتية التي كانت تعني قبل الدخول الأميركي إلى الكويت، إمكانية عقد الصلات مع واشنطن "الصليبية" على قاعدة وحدة المصالح ضد العدوّ المشترك، أي الشيوعية. وعنى أيضاً، تكفيراً لأنظمة وسلطات وشعوب حمل بعضها مسؤولية الدخول الأميركي إلى المنطقة (العراق)، فيما حمل البعض الآخر ثمن القبول بهذا التواجد في أرض الحرمين (السعودية ودول الخليج عموماً)، بعدما كان بعضها، وأولها العربية السعودية، يُطلق على ملكها "أمير المسلمين".
 ________________
هوامش 


هوامش:

[1]  بودريار جان – دريدا جاك – فوليامي اد – ايكو أمبرتو، ذهنية الإرهاب، ص 101، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2003.


[2] يقول المستشرق الفرنسي د. كيمون: إن "الإسلام يعمل على الدماغ البشري مثل السم فيخدّر أجزاء المخّ بسرعة مُذهلة، ما يؤدّي إلى زجّ الآليّة الطبيعيّة في حال من الفوضى، تجعل المُسلِم يتحوّل إلى نوع معُين من وحوش البريّة. المسلمون بشكل ٍعام لا يمكن دراستهم إلا بوصفهم فئة من الوحوش الشرسة. مثل الحيوانات البريّة والزواحف والقوارض في شكل إنسان"، ويقول في موضعٍ آخر رابطاً بين التخلّف وبين الدين الإسلامي: " المسلم ليس لديه القدرة على التفكير لنفسه، لصياغة شخصيته، لعقد الرأي، أو الذوق الفردي، إلى تفضيل رائحة واحدة على أخرى. (...).لاتوجد عند المُسلِم روح الإبداع ولا حتى المحافظة بالمعنى المسيحي. كما أنه لا يصدر عنه أدنى إشارة من أي شعور بالمودّة أو بالحبّ بالمعنى الأفلاطوني.  كل ما يفهمه ويقوم به هو ما يُمليه عليه القرآن للقيام به. فهو ملتزم بالقرآن وهذا القرآن هو الذي يوجّهه. ونتيجة لذلك، قد يتم تمثيل جميع المسلمين بوصفهم آلة كهربائية كبيرة نسبياً تتصرّف بأمرٍ من قِبَل مركز كهربائي أكبر هو الإسلام".

The Genocidal Islamophobia of a Late Nineteenth-Century French Anti-Semite: D. Kimon and The Pathology of Islam (p:9-11)

[3]  تعرف اليوتوبيا بأنها عكس الأيديولوجيا. فالأولى تشمل أفكاراً تسعى إلى تجاوز الواقع وتغييره بشكلٍ جذري، لكنها تفتقر إلى المقوّمات التي توصل إلى هذا التغيير، ولذلك توصَف بأنها مثالية، على العكس من الأيديولوجيا التي تعمل على تزييف الواقع بغية تكريسه.

[4]  بودريار جان، ذهنية الإرهاب، ص 139، مصدر سابق.
 
[5] الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801) وما أعقبها من توجّه تحديثي شرع به محمّد علي باشا ثم إبنه إبراهيم باشا.

[6] حول هذه المسائل يمكن مراجعة كتاب "الإسلام بين العلم والمدنيّة" للإمام محمّد عبده.

[7] يقول بلال فضل في واحد من سلسلة تحقيقات تحت عنوان (السادات وما أدراك ما السادات) إن "تحالف السادات مع "الإخوان" كان قد تمّ بمباركة من صديقه ورجل النظام القوي، عثمان أحمد عثمان، وبمساندة مالية من السعودية في عهد الملك فيصل، لكن كل ذلك التعاون توقّف بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، والتي رفضتها مختلف تيّارات الشعارات الإسلامية، لتصل مواجهة السادات مع "الإخوان" إلى ذروتها في عام 1980، عقب مناظرة السادات مع المرشد العام للإخوان، عمر التلمساني، التي اشتهرت بمقولة التلمساني للسادات "إنني أشكوك إلى الله يا سيادة الرئيس"، لتبدأ الدولة في ضرب "الإخوان" ومحاصرتهم من جديد، من دون أن تدرك أن الأمر أصبح أكبر من الإخوان، وأن الأخطر على النظام هو الجماعات الإسلامية السريّة والمسلّحة، والتي كان النظام يظنّ أنه سيطر عليها عقب قضية الفنية العسكرية وقضية اغتيال الشيخ محمّد حسين الذهبي، لكنه لم يدرك أن الأمر أصبح أكبر من صالح سريّة وشكري مصطفى، قائدي تلك العمليتين، وأن الجماعات الإسلامية استغلّت جيداً مساحة الحركة التي تركها لها السادات في الجامعات والأحياء الشعبية والجمعيات الخيرية، واستفادت من ضربه أصحاب المشاريع المُعارضة لأفكارها، والتي كان يمكن أن تحجم من تأثير هذه الجماعات على الشارع، خصوصاً في الجامعات والعمل الخيري".

[8] يرى الفرنسي جاك رانسيير أن "الجريمة الحالية للديمقراطية الأوروبية" هي المطالبة بالسلام في الشرق الأوسط والحل السلمي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويُطلق هذا التوصيف على عملية السلام لأنه يعني في نهاية المطاف "دمار إسرائيل". فالديمقراطيات الأوروبية إنما "طرحت سلامها لحل المشكلة الإسرائيلية. لكن السلام الديمقراطي الأوروبي ليس سوى نتيجة إبادة اليهود"، فالبناء الديمقراطي الأوروبي أصبح برأي رانسيير ممكناً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لسبب وحيد هو أن "الأرض الأوروبية وبنجاح الإبادة النازيّة، قد تخلّصت من الشعب الذي شكّل وحده عقبة أمام تحقيق حلمها، وهو اليهود". رانسيير جاك، كراهية الديمقراطية، ترجمة أحمد حسّان، دار التنوير، 2012، ص 19 -20.
______________

* كاتب ومحرر في موقع الميادين منذ العام 2012. عمل خلال الأعوام 2007 - 2012 في صحيفتي السفير والأخبار اللبنانيتين، ويكتب منذ 2013 مقالات دورية حول الميديا والنيو ميديا في جريدة المدن الإلكترونية.

الجمعة، 20 مايو 2016

حركة النهضة تراجع منهجها: حكم الدولة بلا عباءة «الإخوان»

    مايو 20, 2016   No comments

محمود مروة
تنطلق في تونس، اليوم، أعمال المؤتمر العاشر لـ «حركة النهضة»، وهو «استثنائي» إذ سيجري خلاله «الفصل بين الجانب الدعوي (بصفتها حركة إسلامية) والعمل السياسي»، وهو يشمل «نوعا من المصارحة التاريخية... إذ المطلوب أن نكون عند مستوى انتظارات مجتمعنا، والعمل على كسب ثقة الرأي العام والدولة للتأهل لتسييرها»، كما يلخص أحد قادتها في حوار أخير

كان يُحكى في تونس، من باب التندر، أنّه حين وصل رجل (تنظيم) «النهضة» القوي في زمن زين العابدين بن علي، علي العريّض، إلى باب وزارة الداخلية لاستلام مهماتها نهاية عام 2011، كاد أن يُخطئ وجهته فيدخل من باب غرف التحقيقات بدل الصعود إلى الأعلى، حيث مكتب سلفه، الوزير الحبيب الصيد.

وزارة الداخلية نفسها (أداة قمع النظام الأمني السابق)، تناولها رئيس «النهضة»، راشد الغنوشي، قبل أقل من عامين، حين وقف أمام مناصريه في وسط العاصمة (في شارع الحبيب بورقيبة حيث مقر الداخلية) ليقدّم مرشحي حركته في استحقاق الانتخابات التشريعية المحتدمة آنذاك، فتساءل، من باب المزاح ربما: أخلفنا الوزارة أو أمامنا؟
لا بد أن يطول سرد رمزيات كثيرة مشبعة بالدلالات، تخللت دخول «النهضة» إلى السلطة في تونس منذ 2011، قبل أن تتحول راهناً إلى القوة الأولى برلمانياً عقب تفكك كتلة خصمها «نداء تونس»، فتظهر بمظهر المتعفف عن استلام الحكومة، والراضي بأطر خريطة القوى السياسية الناتجة عن انتخابات 2014، دون فرض أي تعديل عليها. لكن، هل يمثّل المؤتمر الحالي، بما يحمله من معان ودلالات، لحظة دخول الحركة الفعلي في الدولة ومرحلة تكريس الموقع؟

الإسلام الحركي: مفاهيم جديدة

يحتل الحديث عن «الفصل بين الدعوي والسياسي» (أو التخصص في العمل السياسي، وفق العبارة التي يفضلها راشد الغنوشي) مساحة كبيرة ضمن الإعلام المحلي والعربي، ويُقدّم الأمر كما لو أنّ ما سينتج من المؤتمر سيمثّل قفزة كبرى تقوم بها «حركة النهضة» في مسار تطورها. ويدفع هذا الأمر إلى طرح عدد من الأسئلة، من بينها: كيف يمكن لحركة إسلامية نشأت في سبعينيات القرن الماضي مرفودة بالفكر «الإخواني» (وانتهج قادة منها العنف في بعض المراحل) أن تشهد تغيراً مماثلاً؟ هل سيعني ذلك خروجها على عالم «الإسلام الحركي»؟ وخصوصاً أن بعض قادتها يذهبون أبعد من ذلك، ليتحدثوا حتى عن أن التطور الحالي «سيشمل مسألة الانخراطات، بمعنى أن الدين لن يكون شرطاً للإنخراط في النهضة، وأنّه بإمكان أي شخص مهما كانت ديانته الإنخراط شريطة الموافقة على برنامج الحركة».
في حوار صحافي أخير، يجيب الغنوشي بصورة أو بأخرى عن السؤالين، فيقول: «نحن بدأنا نواة تختزن المشروع الإسلامي... والحركة الإسلامية في بلادنا وفي غيرها، كانت ردا على مشروعات شمولية أخرى... والإسلامية كانت أيضا من هذه الزاوية مشروعا شموليا. الآن لم يعد هناك مبرر... ولم يبق مبرر لرد شمولي بعدما فتحت الحرية مجالات العمل السياسي... بل الدستور نفسه لم يعد يسمح بهذه المشاريع الشمولية».
وبما أنّ تغيرّا مفترضا كهذا (لا تبدلاً) قد يؤثّر بشكل كبير على مجمل الحراك الإسلامي في العالم العربي، فإنّ أستاذ علم الاجتماع ومدير مخبر علم الاجتماع الديني في جامعة الجزائر، عروس الزبير، يجيب ضاحكاً عند طرح السؤالين عليه: «أنا مدعو للمشاركة في افتتاح المؤتمر، وسأذهب إلى تونس للحصول على إجابة، لأنّ الحدث مهم». ويبدي الزبير اعتقاده بأنّ هذا «التحوّل ليس مفاجئاً على صعيد النهضة، إنما جاء بعد مراحل من التجربة»، مشيراً إلى أنّ ما بعد عام 2011 جعل قادة الحركة يدركون أنه «لا مجال للربط بين الانتماء الديني وممارسة السياسة». ويذكّر الأستاذ الجامعي الجزائري بواقع أنّ «النهضة» نشأت بطبيعتها كحركة «نخبة» وأنها «نشأت في مناخ ثقافي يختلف عن المناخ الذي تأسست فيه حركة الإخوان المسلمين في مصر»، مضيفاً في سياق الحديث أنّ ما تمرّ به المنطقة العربية راهناً في ظل صعود حركات التطرف يدفع الحركات الإسلامية أكثر نحو التغيير والتأقلم، وربما نحو تكريس ما يمكن تسميته تجاوزاً: مرحلة الأحزاب الإسلامية اللائكية (العلمانية).

البراغماتية... وواقع «التسلّف»

أثناء السير باتجاه «وسط البلاد»، يقدّم أحد الباحثين الشباب (الصاعدين) نصيحة: «اسأل عبدالفتاح مورو حين ستلتقيه ثانية عن مغزى حديثهم بشأن الفصل بين الدعوي والسياسي... هل ما زال النهضويون ملتزمين أصلاً الجانب الدعوي؟... أليس من الأدعى العبور مثلاً إلى الحديث عن التحدي السلفي الذي يأكل بعضاً من قاعدة الحركة؟».
لم يتم اللقاء مع مورو بسبب «الانشغال في محكمة التعقيب (التمييز)»، إذ هو الشيخ (نائب رئيس الحركة ونائب رئيس البرلمان) المواظب حتى يومنا على ممارسة مهنته. وهو الشخص، البسيط، الذي قد يبقى فكرك لساعات عالقاً في مكتبه الكائن عند مشارف «المدينة العربي» في باب بحر، في مبنى يظهر أن تاريخ بنائه يعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي، وحيث يحيلك كل شيء، من لباس الشيخ التقليدي مروراً بجليسه (الكاتب المساعد) فالمكتبة واللوحات، إلى «تونس الثلاثينيات»، كما تقول مرافقتك خلال لقاء التعارف الأول.

عقل النهضة سياسي،
والأمر يتجاوزها ليشمل كل الحركات الإخوانية


لكن، من باب البحث عن إجابة، فلا بدّ أن يُقرأ إعلان الحركة عن فصل السياسي والدعوي في إطار «مسار عام شهد تحولها من حركة احتجاجية إلى حركة مارست السلطة وطرحت على نفسها ممارسة الحكم بعد سقوط بن علي في إطار ديمقراطي»، يقول الباحث التونسي، حمزة المؤدب.
يشرح المؤدب أنّ العملية الديموقراطية كانت مهمة «لناحية أنها وضعت أدبيات النهضة السياسية والفكرية... على المحك، بمعنى أنّ تطبيع وضع النهضة وإدماجها في النظام السياسي الوليد (كان) رهين تقديمها تنازلات، وشاهدنا هذا من خلال المعارك التي عرفتها مختلف مراحل كتابة الدستور، سواء أكانت مسألة التنصيص على الشريعة، أو قضية المساواة، أو التكامل بين الرجل والمرأة، أو حرية الضمير، الخ..».
ويرى الأكاديمي التونسي أنّ «النهضة قدمت تنازلات لأن عقلها بالأساس هو عقل سياسي بامتياز، بمعنى أنه عقل براغماتي يمارس السياسة بحساباتها ومناوراتها وتنازلاتها»، مشدداً في الوقت نفسه على أن «من المهم الانتباه إلى أن كل الوجوه البارزة في النهضة هي وجوه سياسية ولا تملك أنشطة دعوية. حتى إنّ الصادق شورو، والحبيب اللوز، أي الوجهين المعبرين عن تيار متشدد داخلها، جرت إزاحتهما تدريجيا من المشهد، ومن القوائم الانتخابية في 2014. وعبد الفتاح مورو (أيضاً) لم يعد يخطب في المساجد».
ويكمل المؤدب شرحه قائلاً: «إنّ فصل الدعوي جرى عمليا منذ مدة لسبب مهم آخر، يتجاوز النهضة ليشمل كل الحركات الإخوانية. فالواقع أن هذه الحركات لم تعد تنتج خطاباً دينيا يلقى اهتماما لدى الشباب، ولم تعد تحتكر أيضا المجال الديني، إذ دخلت في منافسة مع التيارات السلفية التي نجحت في استقطاب الشباب وفي بناء خطاب متناسق مع تطلعات الطبقات الشعبية والصاعدة. وصل الأمر في مصر إلى حد تكلم فيه الراحل، حسام تمام، عن تسلّف الإخوان، بمعنى أن القيادة إخوانية، لكنّ القواعد صارت تميل أكثر فأكثر إلى الخطاب السلفي. وفي حالة النهضة، فإنّ الحركة غائبة عن النشاط الدعوي، فهي لا تنتج شيئا في هذا الخصوص: لا خطابا دينيا ولا كتابات (ماعدا كتابات الغنوشي التي تعد نخبوية وتستهدف جمهورا مثقفا ومطلعا، لا شبابا يبحث عن تكوين ديني)، ولا أنشطة دينية شعبية خاصة، وأن الدستور أغلق أمامها باب المساجد».
في المحصلة، يرى حمزة المؤدب أن الفصل المشار إليه هو «تكريس لمسار سياسي، لكنه أيضا تكريس لأمر واقع يتمثل في غياب النهضة وتراجع تأثير التيارات الاخوانية على الساحة الدينية ليس في تونس فقط بل أيضا حتى في مصر وغيرها من الدول العربية»، لافتاً إلى أنّ «هناك رفضا من جانب جزء كبير من قواعد الحركة لهذا التوجه، ولذلك (سيشار إلى) أن الحزب ذو مرجعية إسلامية... أي التمسك بالمرجعية الإسلامية كنوع من التسوية بين مختلف تيارات الحركة. وضمنياً، هناك إقرار بأن المهم هو أصوات الناس في الانتخابات، لا ضمائرهم».

تمايز نهائي عن «الإخوان»؟

في حوار مع جريدة «لوموند» الفرنسية، كرر راشد الغنوشي، أمس، ما معناه أنّ «الإسلام السياسي» فقد الظرف الذي وُلد خلاله، وخاصة أنّ التطرف بات أكبر تهديد يواجه وجود الحركات الإسلامية نفسها.
يُضاف إلى ما يشير إليه الغنوشي (الذي يصنّفه بعض الباحثين ضمن الجيل الخامس لمفكري الحركات الإسلاميية في القرن الماضي)، أنّ حركته كانت تصرّ خلال الفترة الماضية على تمييز نفسها عن «جماعة الإخوان المسلمين»، وخصوصاً ما يُسمى «التنظيم الأم»، أي الجماعة في مصر. لا يعيب معظم المنتمين إلى «الإخوان» ذلك على راشد الغنوشي وعلى حركته، بل يشبّه بعضهم الواقع بأنه يأتي في سياق «اتباع سياسات غير مُحرجة، في ظل الحرب الإقليمية التي تواجهها الجماعة، في مصر خاصة».
أحد الباحثين الناشطين البارزين ضمن «جماعة الإخوان» المصرية يشرح أنّ «النهضة متمايزة فعلاً بخلفيتها الفكرية، لكن منذ انطلاق الربيع العربي، جرى اتهامها، كما كل الأطراف الإخوانية إقليمياً، بأنها تتبع لطرف خارجي، على اعتبار أنها تنتمي إلى التنظيم العالمي للإخوان، الذي ليس حقيقة سوى إطار تنسيقي وتشاوري بين مختلف الأقطاب، وبالتالي فإنّ قرار كل طرف مستقل». ويرفض الباحث مقولة أنّ «النهضة تترك الإخوان وحدهم»، ويضع ما يجري ضمن قرار يقضي بعدم الارتماء في «الحرب الإقليمية ضد كل الإسلاميين (المنضوين تحت عباءة الإخوان)... وتأكيداً على ذلك، فحتى حركة حماس تقول اليوم إنّه ليس لها علاقة بالإخوان!».
قد يغيّب الحديث أعلاه «ما كان يُحكى عن مشروع الإخوان منذ 2011 بقيادة تركيا وقطر»، يعلّق أحد السياسيين العرب. الأمر الذي يدفع أيضاً بمفكر تونسي بارز إلى رفض الحديث في موضوع «النهضة»، على اعتبار أنّ «تبدّل ظروف السياسة الإقليمية سيكون جديراً بإعادة الحركة والإسلاميين جميعاً إلى حيث كانوا»... لكنه حديث، وإن صحّ، فإنه يهمّش دراسة ديناميّات التحوّل التي شهدتها الحركة خلال الفترة الماضية، باعتبارها طرفاً سياسياً.

مؤتمر «للمصالحة» أيضاً

رأي آخر تتداوله أوساط بحثية في تونس بخصوص مؤتمر «حركة النهضة»، إذ تبدي باحثة اعتقادها بأنّه لن يكون مؤتمر «الفصل بين الدعوي والسياسي، إذ جرى الفصل عمليا بينهما». وتضيف: «هو مؤتمر لتكريس خيار المصالحة الشاملة (مع عهد النظام السابق)، إذ ستستفيد النهضة من جهتين: العفو والتعويض، والمصالحة مع رجالات النظام السابق ورجال أعمال كبار، ما يسهّل عليها الدخول في مرحلة سياسية جديدة، تسمح لها بتركيز موقعها ضمن المجتمع السياسي والدولة».
وتصب أدلة كثيرة في هذه الاتجاه، إن لناحية الخلافات التي ظهرت أخيراً ضمن «شورى النهضة» عقب طرح «المصالحة»، أو لناحية تصريحات الغنوشي نفسه عن «المصالحة الشاملة»، التي بررها مستشاره، لطفي زيتون (الصورة)، قبل أيام، قائلاً: «إنّ مبادرة (الغنوشي) من شأنها إزالة التوتر بين القديم الذي لا يمكن إلغاؤه، والجديد الذي أتت به الثورة».
 
_________
 «الأخبار»

الاثنين، 4 أبريل 2016

«الإخوان المسلمون» أكلتهم ثورة «الربيع»: «إخوان اليمن»: من نشوة السلطة إلى «لعبة الكبار»... الإخوان الذين تفتّتوا... ذاتياً... الإخوان الذين تفتّتوا... ذاتياً; «النهضة»: لسنا «إخواناً»

    أبريل 04, 2016   No comments

بين مصر وتونس: الإسلاميون في الزمن الجديد
مثّل عام 2013 بالنسبة إلى الحركات الإسلامية في العالم العربي محطة تحوّل ضمن الإطار العام للمرحلة التاريخية التي كانت قد بدأت قبل ذلك بعامين، عقب اندلاع ما سمي «الربيع العربي». بين «الاخوان» في مصر، و«النهضة» في تونس، تجربتان متناقضتان... فهل تكون من تداعيات «الزمن الجديد»، تغيرات جذرية في مفاهيم أبرز تلك الحركات؟
محمود مروة

في صيف عام 2013، عُزل «الإخوان المسلمون» عن الحكم في مصر، فيما كانت «حركة النهضة» في تونس تواجه معارضة شديدة وأزمة سياسية كادت أن تطيح حكومة علي العريض (أحد قادتها) خلال مدة قياسية، قبل أن تؤدي في فترة لاحقة إلى تنازل «النهضة» عن الحكومة.

اليوم، بعد أقل من ثلاثة أعوام على ذلك الصيف، الذي أشعل البلدين، يمكن الوقوف على المشهدين التاليين: في مصر، يواصل حكام القاهرة الجدد الإمساك بمفاصل الحياة السياسية (لحدود خنقها)، بالتوازي مع مواصلة المعركة على «جماعة الإخوان المسلمين» على كافة الصعد. أما في تونس، فقد انقلب المشهد، لتبدو الحياة السياسية مخدّرة نتيجة للائتلاف الناشئ قبل أكثر من عام بين القطبين، «نداء تونس» و»حركة النهضة».
هناك معطى مشترك يمكن أن يمثّل ركيزة للانطلاق بعملية مقاربة واقعي «الإخوان» و»النهضة» خلال المرحلة الراهنة: لقد فتح عام 2011 بالنسبة إليهما على زمن جديد، سمح لهما بأن يصلا إلى السلطة وإلى الحكم في بلديهما. بيد أنّ إخفاق تجربة «الإخوان» وما تبع ذلك من صراع مفتوح مع «الدولة»، يضطر الجماعة إلى إقرار استراتيجيات عمل جديدة، بصورة لم تعتدها في تاريخها. بالتزامن، فإنّ نجاح عملية استقرار «النهضة» في السلطة، يدفعها إلى تسريع التحوّل «من كونها حزبا (حركة) إحتجاجيا(ة) إلى كونها حزب دولة»، وفق تعبير زعيمها، راشد الغنوشي، قبل شهر.

«الإخوان»: ولادة ثالثة؟


يقدّم الباحث في مركز «كارنيغي»، جورج فهمي، في حديث لـ«الأخبار»، مقارنة بين كيفية تعامل كل من «النهضة» و«الإخوان» مع «الواقع السياسي الجديد بعد الربيع العربي». وهو بينما يشير إلى «براغماتية النهضة»، يلفت إلى «سعي (الاخوان) إلى محاولة بناء تحالف إسلامي». وهو الأمر الذي سيدفع، وفقا له، إلى «أزمة بين التيارين الإسلامي والمدني»، وخصوصاً في ظل إصرار «الإخوان» على «إستراتيجيات التصعيد في مواجهة الخصوم السياسيين».
تنظر «الجماعة إلى الدولة على أنها الجائزة التي تحلم بتملكها والاستحواذ عليها»، وفق عبارة المؤرخ المصري، خالد فهمي، في مقابلة سابقة أجراها مع «الأخبار»، لكن في عام 2013، فإنّ خروجها من السلطة وتشتت مراكز قواها وقياداتها، بفعل المعركة المفتوحة عليهم على جبهات العمل السياسي، والإجتماعي، كما الدعوي، وضع الجماعة أمام أزمة يبدو أنها لم تشهد مثيلاً لها.

يتجه «الإخوان» لأكبر انقسام في تاريخهم وهم بحاجة إلى انطلاقة جديدة

قد تندرج المعركة المفتوحة مع «الإخوان» راهناً في سياق الصراع الأكبر المستمر بين مختلف أنظمة الحكم المصرية و«الجماعة» منذ تأسيسها، على الرغم من أنّ هذا الصراع كان يشهد فترات مهادنة، كما حصل مثلاً خلال عقد السبعينيات في عهد أنور السادات، حين عرف «الإخوان» ولادة ثانية، تُرجمت بالتوسع في العمل السياسي والاجتماعي.
لكن أمام الأزمة التي تشهدها «الجماعة»، يبقى السؤال الرئيسي: أي مستقبل ينتظرها؟ عملياً، هناك قراءات للمرحلة الراهنة تذهب باتجاه القول بأنّ «الانقلاب العسكري وتجربة الحكم تعززان من الاتجاه الداعي إلى الفصل بين دور الجماعة كمؤسسة اجتماعية والممارسة السياسية التنافسية»، وذلك وفق ورقة بحثية قدمها الباحث المصري والناشط الشبابي في «الإخوان»، عمار فايد، ضمن سلسلة «إعادة النظر في الحركات الإسلامية» التي ينظمها معهد «بروكينغز». ويصل فايد في ورقته إلى حد اعتبار أنّ «الانقلاب العسكري وضع (الجماعة) أمام استحقاقات يمكن أن تغيّر وجهها في السنوات المقبلة، وهو ما يفتح الباب لديناميات داخل المنظمة الكبيرة قد تفضي لإعادة تعريف دورها السياسي والاجتماعي والديني».
يوضح عمار فايد، في حديثه لـ«الأخبار»، أنّ «قرار الجماعة منقسم بين جبهتين: الأولى تمثل القيادة التقليدية (القائم بأعمال المرشد الدكتور محمود عزت والأمين العام للجماعة محمود حسين) من ناحية. ومن ناحية أخرى، اللجنة الإدارية العليا التي انتخبت في تشرين الأول/أكتوبر 2015 ثم قرر الدكتور محمود عزت ايقاف عدد من أعضائها، لكن غالبية اللجنة رفضت القرار وما زالت مستمرة في العمل ويتبعها حوالي 40% من المكاتب الإدارية في الجماعة».
وفيما يشدد فايد، المقيم في اسطنبول، على أنّ «المشهد شديد التغير وما زال قيد التشكل»، إلا أنه يستدرك قائلاً: «بصورة عامة، ما من آمال كبيرة على التوافق بين الجبهتين، ويبدو أن الجماعة تتجه لأكبر انقسام في تاريخها»، مؤكداً في سياق حديثه أنّ «الجماعة بالفعل بحاجة إلى انطلاقة جديدة».

«النهضة»: لسنا «إخواناً»

«أعتقد أنه قد حان الوقت للاعتراف بأنّ المقاربة التقليدية التي تربط مجمل الأحزاب السياسية المعاصرة التي ترتكز على القيم الإسلامية بجماعة الإخوان المسلمين (على أنها التنظيم الأم)، قد ظهرت محدوديتها»؛ عبارة ذُكرت في مداخلة ضمن سلسلة «إعادة النظر في الحركات الإسلامية» للنائب عن «حركة النهضة»، سيدة الونيسي، في شهر شباط الماضي.
يضاف ذلك التصريح إلى نفي قادة رفيعين في «النهضة»، وخصوصاً في الآونة الأخيرة، «أي صلة سياسيّة أو تنظيميّة بحركة الإخوان المسلمين». وهو الأمر الذي يكرره الشيخ راشد الغنوشي بنفسه، وإن حاول الاستدراك بأنّ «هناك علاقات فكرية تربطنا مع بقية الطيف الإسلامي في المنطقة».
إنّ ما يجري في تونس، يُعدّ مثيراً، إذ تريد «النهضة» التي تأثرت انطلاقتها بمرحلة الولادة الثانية لـ»الإخوان» نهاية السبعينيات، والتي كانت ضمن «التنظيم العالمي للإخوان»، تريد خلع عباءة «الإخوان». الأمر الذي يصفه البعض بـ «تونسة الحركة» للانسجام مع الواقع الجديد ومع دورها المستجد في قلب السلطة التونسية، وللتأقلم مع الواقع الإقليمي المتغيّر. هو أمر من المرجّح أن يحسم بشأنه المؤتمر العام المقبل للحركة بعد نحو شهر، وتكريسه بالرغم من بعض المعارضات الداخلية، إلا أنّ ما يعدّ مهماً في هذا السياق، ليس احتمال بقائها من عدمه تحت تلك العباءة، بل إنّ أكثر الأمور إثارة يتمثل بمراقبة قدرة حركات الإسلام السياسي الناشئ في القرن العشرين على التبدّل.

1967 إسلامي؟

تعيد مديرة مكتب منظمة «انترناسيونال الرت» في تونس، ألفة لملوم، في حديثها لـ«الأخبار»، رسم إطار عام لمقاربة واقع «النهضة». تقول: «دأب خصومها في تونس منذ الثمانينيات على تصنيفها تنظيما إخوانياً»، موضحة أنّ «في ذلك بعض من القصور في الرؤية، إذ إنّ الجذع التاريخي المشترك لكل الحركات الإسلامية السنية التي شهدت صعودا في أعقاب هزيمة 1967 وتراجع المد القومي في المنطقة العربية، لا يمكن أن يحجب حقيقة أن هذه الحركات غير متجانسة»، إلا أنّ الباحثة التونسية تؤكد أنّ تلك الحركات «وعلى غرار باقي الفاعلين السياسيين، يحكم تطورها ليس فقط مرجعيتها العقائدية، بل كذلك البيئة التي تنشأ فيها وتتفاعل معها، فتؤثر فيها وتتأثر بها، ضمن موازين قوى عامة ليست هي اللاعب الوحيد ضمنها».
هذا تأكيد إضافي على التبدلات المحتملة ضمن «النهضة»، لكن كيف تترجم تجربة هذه الحركة وتجربة «الإخوان» في الأعوام الأخيرة في سياق قراءة تاريخ الحركات الإسلامية؟ هنا، يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، أشرف الشريف، في حديثه إلى «الأخبار»، إنّ «البعض يرى أن الفترة الحالية بالنسبة للإسلاميين شبيهة بفترة ما بعد 1967 بالنسبة للتيار القومي واليساري في العالم العربي، لكني من جهتي أرى أن من المبكر إصدار مثل هذه الأحكام لعدة اعتبارات». وفي سياق شرح مطوّل لتلك الاعتبارات، يشير إلى التفاوت في تجارب «إدماج الإسلام السياسي في العملية الديموقراطية»، إضافة إلى عدم وجود «بدائل سياسية وأيديولوجية جذابة تملأ الفراغ الذي تركه الإسلاميون». وفي إحدى النقاط، يلفت إلى أنّ «الإسلام السياسي عبر أربعين عاما من عمر ظاهرة الصحوة الاسلامية خلق جسما ديموغرافيا واجتماعيا ضخما، وامتدادات ثقافية وقيمية مهمة... ومن شبه المستحيل أن يختفي كل هذا تحت القمع أو بسبب فشل تجارب بارزة له في الحكم». ويرجح شريف هنا بأن «تظهر أشكال جديدة للتعبير السياسي عن هذه الأفكار والموجودات الاجتماعية»، مؤكداً في السياق أنّ «مصر هنا هي الرقم الصعب لأن المستقبل فيها غامض جدا بالنسبة للتيار الإسلامي» عامة.

فرنسوا بورغا: «النهضة» لم تخفق

هناك توجه لدى بعض الأكاديميين في الغرب للإشادة بتجربة «النهضة» في تونس. قد يمكن القول إنّ الأكاديمي الفرنسي، فرنسوا بورغا، هو أحد هؤلاء. سألته «الأخبار» إن كان يعتقد بوجود اختلاف جوهري بين الخلفية الفكرية لكل من «إخوان» مصر و«النهضة»، يساهم بشرح مسارهما المتباين. فكان جوابه التالي:
ينتمي الإخوان المسلمون المصريون، و«النهضة»، بشكل غير قابل للنقاش إلى عائلة فكرية واحدة. وهذه العائلة الفكرية تتبع نهجاً واحداً تجاه الإرث الذي يشكله الفكر السياسي الموصوف بالغربي، قائما على عملية استعادة أو استملاك انتقائية، بدلاً من رد الفعل الرافض عشوائياً، الذي يتصّف به الجناح «السلفي» للتيار الإسلامي، لكنّ هذا لا يمنع وجود اختلافات ذات دلالات، ولا سيما في مجال الإستراتيجية.
لقد مكّن الربيع العربي لكليهما التحقق من أهمية قاعدتيهما الانتخابية. ولكنه مكنهما أكثر من تقدير المسافة المهمة التي تفصل ــ في مناخ إقليمي ودولي عدائي في غالبيته ــ بين الحصول على أغلبية انتخابية والتمكن من (إدارة) جهاز الدولة.
قد يمكننا القول إن النهضة «استفادت» من سقوط الإخوان المصريين، وعرفت كيف تتبنى بصورة استباقية، موقفاً واقعياً تراجعياً، وهو الذي يلومها عليه جزء من قواعدها، لكن في ما يخصني، أرفض اعتباره إخفاقاً.


___________________


 تحوّلَ «العدالة والتنمية» إلى نموذج للحركات الإسلامية

على هامش الحديث عن أحوال «الإخوان المسلمين» والحركات المتأثرة بها في الشرق الأوسط، كان لا بد من وقفة، ولو سريعة، مع أحد الوجوه الأكاديمية التركية البارزة في الغرب، حميد بوزرسلان. يشرح الأكاديمي والكاتب التركي لـ«الأخبار» طبيعة العلاقات بين الطرفين، ملقياً الضوء في الوقت نفسه على أثر «جيل ثالث» يحيط بزعيم «العدالة والتنمية»
محمود مروة

■ كيف تفسّر تحوّل الرئيس التركي خلال الأعوام الماضية ليمثّل الوجه الأبرز لـ«الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط؟ وهل تعتبر أنّ «حزب العدالة والتنمية» مرتبط فكرياً بفكر «الإخوان»؟

«حزب العدالة والتنمية» في تركيا ونزعة «الإخوان المسلمين» (التي تتوسع لتشمل النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب) ينحدران من مسارين تاريخيين، ومن تقليدين مختلفين لا يلتقيان. الأول يعود بجذوره إلى التيار الاسلامي الذي نشأ في نهاية السلطنة العثمانية، وعلى الرغم من خلفيته السلفية، فإنّ الثانية نشأت في بدايات ثلاثينيات القرن الماضي. لكن خلال العقدين المنصرمين، فإنّ (الطرفين) تطورا بصورة متشابهة، وسط تفاعل متبادل بينهما من دون شك.

الحرب العالمية الأولى لم تنته بالنسبة إلى أردوغان

وهكذا، نشاهد فقدانهما للزخم الثوري مع إقرار بالحدود الموجودة، وتخلّيهما عن مشاريع الاقتصاد الإسلامي وتحوّلهما نحو النيوليبرالية. أيضاً، لا بد من الإشارة إلى أنهما يقبلان الآن، ولو شكلياً، العمل في أطر ديموقراطية، فيما يصرّان أكثر في المقابل على الاستقامة في ممارسة الواجبات الدينية وينمّيان ظاهرة عبادة القوة.
مع تمكن «العدالة والتنمية» في تركيا من الوصول إلى الحكم في مطلع القرن الحالي، وإنتاجه لصيغة (بدا أنها) تجمع بين الاسلام والديموقراطية والليبرالية والقوة الاقتصادية، فقد أصبح نموذجاً لسائر الحركات الاسلامية المنتشرة في الشرق الأوسط. لكن خلافاً لما كان يتمناه الثنائي رجب طيب أردوغان ــ أحمد داود أوغلو، لم يكن إعجاب النهضة والإخوان المسلمين بحزب «العدالة والتنمية» وبزعيمه مؤشراً لرغبتهما في هيمنة تركيا كدولة أو دعمهما لأي مشروع توسعي.
وبالفعل شعرَت مجموعة من المفكرين الإسلاميين، خلال مؤتمر عقد في إسطنبول مع زملاء أتراك لهم في عام 2011، بضرورة التأكيد على أن العالم العربي ليس مستعمرة أوروبية أو ولاية عثمانية.
ولست متأكداً من أن «حزب العدالة والتنمية» الذي عانت صورته من ترديات كبيرة في العامين الماضيين لا يزال يعتبر كنموذج يحتذى من قبل سائر الحركات الاسلامية.

نشاهد في تركيا عملية نكوص مؤسساتي هائلة

■ لماذا نجح الخطاب الإسلامي ــ المحافظ في حجز مكانة كبيرة له في تركيا خلال الأعوام الأخيرة؟
يمكن شرح هذا الأمر من خلال عوامل مرتبطة بتاريخ مديد، لكن أيضاً من خلال الوضعية الحالية. لا ينبغي نسيان حقيقة أن تركيا الحالية أقيمت على أساس إبادة أرمنية وعمليات استبدال (قسرية) لمجموعات بشرية مع اليونان، وأن 40 إلى 50% من سكان البلاد ينحدرون من أصول بلقانية أو قوقازية. والمسألة الكردية بما هي قضية إقليمية بامتياز، والمسألة العلوية بدرجة أقل، هما مصدران للنزاع والعنف. كل هذه العوامل تؤدي إلى بروز «هوية قومية» تركية ــ سنية هشة.
علاوة على ذلك، تشهد تركيا التي تضاعف عدد سكانها خلال العقود الماضية، تحولات اجتماعية واقتصادية هائلة، ما يدفع بالطبقات المحرومة وحتى المتوسطة منها إلى تفضيل السلطة، والهيمنة الذكورية، والسيطرة الاجتماعية، إضافة إلى توحيد الرؤية في ما يخص المجال العام.
لذلك نستطيع أن نفهم الآن، وبصرف النظر عن حالات استثنائية، لماذا تنال الأحزاب المحافظة أو المحافظة جداً ما بين 60 إلى 65% من الأصوات... منذ 1950!

■ ألا يوجد أسباب أخرى؟
هناك أيضاً عوامل ظرفية: منذ عدة سنوات، همّش الجيل الأول والثاني من «حزب العدالة والتنمية»، وذلك لفائدة جيل ثالث لا ينحدر من (لم يشهد) نضالات الإسلاميين القديمة، وهو يحدد رؤية أردوغان للعالم. ووفق هذا الجيل، فإن الحرب العالمية الأولى، التي لم يكن لها من هدف (وفق رؤيتهم) سوى تدمير الإمبراطورة العثمانية، لم تنته بعد، وحتى ان المعارك الحاسمة هي بحكم الآتية. عندما نقرأ هذا، يولد لدينا انطباع بأن تاريخ العالم ليس إلا تاريخ عداء تجاه تركيا.
ضمن أجواء كهذه، يتم تفسير أي انشقاق، أو أي خلاف، على أنه فعل خيانة أو أنه مرتبط بعداوات داخلية أو خارجية. ونشاهد في تركيا بالتوازي، نكوصا مؤسساتيا هائلا، يترجم بانتقال كل شرعية المؤسسات إلى شخص أردوغان. هذا التطور يعزز أردوغان، بينما هو المسؤول الرئيسي عن حالة العنف التي تجد تركيا نفسها فيها.

_______________________

بين «ثورتين»: هكذا أعدّ «إخوان سوريا» ما استطاعوا

الأزمة السورية ليست الحدث الأول من نوعه الذي شهدته البلاد في تاريخها الحديث. في أواخر سبعينيات القرن الماضي استعرت في سوريا «أزمة الإخوان». ورغم الفوارق الكبيرة بين «الأزمتين»، لكنّهما تتشاركان قواسم كثيرة، على رأسها «الجماعة»
صهيب عنجريني

كانت «جماعة الإخوان المسلمين» في قلب الحدث السوري قبل انطلاقته، خلافاً لما تمّ الترويج له من أنها «دخلت على خط الأزمة في وقت متأخر». يذهب كثيرٌ من المرويّات إلى أنّ «أول بيان صدر عن الإخوان في الأزمة تأخر إلى نيسان 2011». في واقع الحال، كانت «الجماعة» قد اتّخذت خطوات تمهيدية، ظهر منها إلى العلن ثلاث.

تعود الأولى إلى مطلع شهر آب 2010 حيث شهدت مدينة اسطنبول التركية قيام «مجلس شورى الإخوان» بانتخاب محمد رياض الشقفة «مراقباً عاماً» وفاروق طيفور نائباً له (كانا من قادة العمل العسكري لإخوان سوريا خلال أحداث الثمانينيات). مثّلت الخطوة عودة لهيمنة «الجناح الحموي» في مقابل «الجناح الحلبي»، كما مهّدت لتحوّل «الجماعة» عن مسار «السياسة الناعمة» الذي انتهجه المراقب الأسبق (علي صدر الدين البيانوني) منذ عام 1996 وأثمر فتح قنوات حوار مع السلطات السوريّة، وصولاً إلى إعلان الجماعة تعليق نشاطها السياسي عام 2009 (كان فاروق طيفور من أشدّ معارضي القرار). لم تستغرق القيادة الجديدة وقتاً طويلاً للبدء بإعادة ترتيب الأوراق. في مطلع عام 2011 اتّخذ قرار إنهاء العمل بتعليق النشاط السياسي، وكان ذلك بمثابة خطوةٍ ثانية. الثالثة جاءت نهاية كانون الثاني 2011 مع إصدار «الجماعة» بياناً بعنوان «الشام على خطى الحرية». وكان بمثابة تنفيذ لـ«تهديدات» إعلاميّة على لسان الشقفة قبل شهر قال فيها «إذا استمر النظام في تجاهله لإرادة الشعب، فسنحرّض الشعب على المطالبة بحقوقه حتى يصل إلى مرحلة العصيان المدني».

رسائل إلى دمشق

جاء البيان رسالة إلى دمشق في سلسلة رسائل «حامية» بدأت بعد أيام قليلة من انتخاب «المراقب» الجديد ونائبه، حيناً عبر وسائل الإعلام وآخر عبر صندوق بريد أنقرة. كانت الأخيرة قد اضطلعت بالإشراف على إعادة ترميم «البيت الإخواني». ولعل أبرز الخطوات في هذا السياق كانت «إعادة الاعتبار» إلى الوجه الإخواني البارز عدنان سعد الدين في اجتماع اسطنبول 2009. عرفت عن سعد الدين معارضته الشديدة لأي مفاوضات مع السلطات منذ عام 1986، وتزعّم «جناح بغداد» في مقابل «جناح الرياض» الذي تزعّمه عبد الفتاح أبو غدّة. ورغم عودة الوفاق بين «الجناحين» بدءاً من عام 1996، غير أن خلافاً كبيراً نشب بين سعد الدين والبيانوني «المراقب العام» سنة 2002 نجم عنه إقصاء سعد الدين مجدّداً. بين اجتماعي اسطنبول 2009 (عودة سعد الدين) واسطنبول 2010 (انتخاب الشقفة وطيفور) زاد حضور قضية الإخوان على خط أنقرة ــ دمشق. تبدّلت لهجة الرسائل ليدخل التهديد على الخط منذ تشرين الأول 2010، وصولاً إلى بيان كانون الثاني 2011. عادت الرسائل في منتصف آذار 2011 مع بدء التحركات في الشارع. وعلى وقع تصاعد الأحداث في درعا، تجاوزت المطالب الإخوانيّة حاجز «إلغاء القانون 49» وضمت المطالبة بسلسلة إجراءات وقراراتٍ سريعة تُحوّل «الجماعة» من محظورة إلى شرعيّة مؤهّلة للمشاركة في الحكم. قبل الخطاب الأوّل للرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب (30 آذار) عُرضت تلك المطالب عبر أنقرة في شكل «صفقة».

ردود دمشق

لم تكن العلاقة مع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان قد تأزّمت بعد. انقسمت الآراء داخل الدائرة الضيقة في دمشق ما بين متحمّس لـ«الصفقة» ورافض لها بشكل كلّي. كان الرافضون يرون في الاستجابة نوعاً من «الرضوخ غير مضمون العواقب». رسمَ التباين ما يمكن وصفه بـ«استراتيجيّة النصف» التي طبعت تعامل السلطات مع الأشهر الستة الأولى من الأزمة، وقوامها السير نصف خطوة في كل اتجاه، بحيث تستمرّ القبضة الأمنية حاضرة في الشارع، بالتزامن مع الإعلان عن «سلسلة إجراءات إصلاحيّة». تضمّن خطاب الأسد الأول جملةً مفتاحية لخصت الرد على الرسالة الأخيرة: «إذا فرضت علينا المعركة اليوم فأهلاً وسهلاً بها». بعد الخطاب بأيّام (5 نيسان 2011) أصدر الإخوان بياناً حمل صبغة سياسيّة وتضمّن مطالب عامّة لا تقتصر على «الجماعة» فحسب.

من التظاهر إلى التسلّح: حاضرون

رأت الجماعة في دوران عجلة التظاهرات فرصةً مثاليّة للضغط على السلطات التي خلُصت تقييماتُها للوضع إلى أنّ «ثقل الإخوان في الشارع السوري لا يخوّلهم النجاح في تأجيج الشارع». اتّخذت الأجهزة «إجراءات احترازيّة» في معظم المدن والمناطق التي وُصّفت «بيئة داعمة للإخوان»، لكنّها لم تمنع الشارع من التفاعل سريعاً مع أحداث درعا في عدد من المدن مثل دوما وحرستا وحمص.

أوّل «تنظيم» سياسي محسوب على الإخوان ظهر في شباط 2011

كان لـ«الجماعة» دور أساسي في حشد المتظاهرين عبر وسائل عدّة «إعلاميّة» وفّرتها منصّات كثيرة، منها ما هو رسمي (مثل قناتي «الجزيرة» و«العربيّة») ومنها غير رسمي مثل مواقع التواصل الاجتماعي (أبرز المنصّات على مواقع التواصل كانت «صفحة الثورة السوريّة» التي باشرت نشاطها في شباط 2011). في البيئات التي سبق للجماعة أن تغلغلت فيها، أخذ النشاط طبيعةً أكثر مباشرة، عبر تنسيق التحركات وقيادتها من خلال بعض رجال الدين أو الوجاهات الاجتماعيّة المتعاطفة مع الإخوان (تُعتبر مدينتا دوما وحرستا في ريف دمشق من أوضح تلك الأمثلة). في درعا ساهمت «الجماعة» بشكل فعّال في الترويج لفكرة «ضرورة التسلّح لحماية التحرك السلمي»، ولعبت دوراً أساسيّاً في إدخال شحنات سريعة من الأسلحة الفردية عبر الحدود الأردنيّة. أمّا في حمص فكان لـ«اللجنة العامّة لحماية المدنيين» (برئاسة العضو السابق في جماعة الإخوان هيثم رحمة) دورٌ محوري في إرسال الأسلحة والمال إلى المقاتلين. ولعب أحد أفراد الجماعة (حسام أبو هابيل) دوراً أساسيّاً في تنظيم عمليات تهريب الأسلحة عبر الأراضي اللبنانيّة، ولاحقاً في تشكيل ميليشيات عدّة. بدأ أبو هابيل نشاطه في وقت مُبكر من عمر الأزمة (أيار 2011 على الأرجح)، قبل أن يتّسع نشاطه ويُصبح أكثر تنظيماً. وبحلول آب 2012 بات قادراً على «جمع ما يتراوح بين 40 و50 ألف دولار شهريّاً لإمداد الميليشيات الاسلامية في محافظة حمص بالسلاح ومعونات أخرى»، وفقاً لما نقلته عنه صحيفة «دايلي تليغراف» حينها. وقد نقلت الصحيفة تأكيد أبو هابيل أنّ «مهمّتنا بناء دولة مدنية ولكن على أساس إسلامي، ونحاول التوعية بالإسلام والجهاد». كذلك، لعب العضو في الجماعة خالد خلف (أصبح عضواً في «المجلس الوطني» بعد إنشائه) دوراً محوريّاً في توفير الأسلحة منذ أيّار 2011 لمسلّحين في كلّ من حمص وحماة ودير الزور.

«العمل السياسي»

كانت «الجماعة» سبّاقة في مجالات العمل السياسي، مستندة إلى قاعدة متينة من التحالفات مع أبرز اللاعبين الإقليميين في الشأن السوري (تركيا وقطر في الدرجة الأولى، ولاحقاً السعودية). أوّل «تنظيم» سياسي محسوب على الإخوان ظهر إلى العلن قبل بدء التظاهر في سوريا، وتحديداً في 18 شباط 2011، حيث شُكّلت «مجموعة العمل الوطني من أجل سوريا»، وكان من أبرز أعضائها أحمد رمضان وعبيدة نحّاس. لاحقاً كانت المجموعة جزءاً أساسيّاً في «المجلس الوطني السوري» الذي شكل في تشرين الأول 2011. وقد حظيت بممثلين في «الائتلاف» المعارض منذ تشكيله عام 2012، وفي «الحكومة المؤقتة» عند تشكيلها عام 2013. كذلك شاركت المجموعة في «مؤتمر جنيف 2» عام 2014.

«ثورة الأمس»

تعود بذور الخلاف بين «الجماعة» وحزب البعث إلى ستينيات القرن الماضي. فقد شهدت حماة مواجهات بين الطرفين، من أشهرها أحداث ثانوية الحوراني في آذار 1964، إثر قيام طالب إخواني بكتابة آية قرآنية «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». تشرح الحادثة جوهر الخلاف: «الجماعة» تطالب بـ«حكم الله»، وترى من يحكم بسواه «كافراً»، والبعث يقبض على السلطة ويعتمد لاحقاً دستوراً لا ينص على أن «دين الدولة هو الإسلام» (الدولة بأكملها وليس الرئيس). شكلت أحداث مسجد السلطان (حماة 1964) مفصلاً مهماً. دأب الإخوان على تأكيد «سلميّة حراكهم» حينها، لكن روايتهم حملت لاحقاً اعترافاً بوجود أسلحة في حوزة المعتصمين «كان بعض عناصر الإخوان يحملون مسدسات صغيرة وأسلحة بسيطة أخرى عبارة عن زجاجات مولوتوف لا يتجاوز عددها سبع زجاجات أو ثماني»، وبأن أولى ضحايا تلك الحادثة كانت من البعثيين «حدث أن قتل طالب بعثي أثناء التظاهرات، فاستدعى عبد الحليم خدام (محافظ حماة حينها) الجيش الذي حاصر المسجد». استمرّت الحال بين مدّ وجزر قرابة عقدين، نفّذت «الجماعة» خلالهما تفجيرات واغتيالات ونفّذت السلطات عمليات اعتقال وتعذيب. احتدمت المواجهات بعد تشكيل مروان حديد «الطليعة المقاتلة» (1975) مروراً بـ«مجزرة المدفعيّة» في حلب (حزيران 1979)، والتي كانت أول مجزرة من نوعها في تاريخ سوريا الحديث، ثم محاولة اغتيال الرئيس الراحل حافظ الأسد (حزيران 1980) وصولاً إلى صدور القانون 49 (تموز 1980)، ثم «مجزرة حماة» 1982.

«الطلائع المقاتلة»

في «الأزمة» الأولى حاولت «الجماعة» تسويق فكرة عدم ارتباط «الطليعة المقاتلة» بها. وهو أمر ثبت لاحقاً عدم صحّته وفقاً لوثائق عدّة، منها واحدة صادرة عن وكالة استخبارات الدفاع الأميركية DIA عام 1984، ورفعت عنها السريّة عام 2013. في الأحداث الراهنة طوّر الإخوان وسائلهم عبر السعي إلى تشكيل مجموعات مختلفة في مناطق كثيرة، على ألّا ترتبط المجموعات بهم ظاهريّاً ووفّروا لها كل وسائل الدعم اللازمة. أبرز هذه «الطلائع المقاتلة» كانت «حركة أحرار الشام»، «ألوية صقور الشام»، «سرية أبو عمارة»، «تجمّع فاستقم كما أُمرت»، «كتائب الفاروق» (التي تحولت لاحقاً إلى نواة لـ«حركة حزم»)، «لواء التوحيد»، «هيئة دروع الثورة»، وغيرها.


_____________

«إخوان اليمن»: من نشوة السلطة إلى «لعبة الكبار»
في مسار لا يختلف كثيراً عن مآلات العمل السياسي لتنظيم «الإخوان المسلمين» في الإقليم، انتقل حزب «الاصلاح» في اليمن بسرعةٍ فائقة من الصعود نحو السيطرة على مفاصل الحكم، إلى البحث عن دور في مستقبل بلدٍ مزّقته الحرب
جوي سليم

أربع سنوات كانت كافية لهدم أحلام حزب «التجمع اليمني للإصلاح» وقلب واقعه رأساً على عقب. بعد موجة «الربيع العربي» والآمال التي عقدها الحزب الذي يصنَّف بكونه الفرع اليمني لتنظيم «الإخوان المسلمين» على وضع اليد على السلطة السياسية بشكل كامل، وجد نفسه بحاجة إلى إثبات «جدارته» من جديد ضمن «لعبة الكبار» لحجز مكان له في صيغة الحكم المقبلة.
نجح «الإصلاح» في قيادة مسار «انتفاضة فبراير» (2011) التي التحق بها متأخراً، وبالسيطرة على قرارها حين انشقّ اللواء علي محسن الأحمر وبدأت «عسكرة» الانتفاضة، قبل أن تنتهي بالمبادرة الخليجية التي حكمت اليمن ثلاث سنوات. ثم عززت تجربة حكومة «الوفاق الوطني» من «نشوة السلطة» لدى «الإصلاح»، حيث استطاع الحزب الحصول على أكثر من نصف الوزارات (خلافاً للمبادرة الخليجية) فيما كان رئيس الوزراء، أحمد سالم باسندوة محسوباً عليه أيضاً.
تأسس «الإصلاح» عام 1990 كوريثٍ للنشاط الاسلامي في اليمن. فالعمل السياسي الإسلامي لم يتخذ في اليمن إطاراً تنظيمياً إلا في ذلك العام، بعد سنوات طويلة من الحركة «الخجولة» والانكفاء إلى العمل من خلال القنوات التربوية والدعوية. ووصلت دعوة حسن البنّا إلى اليمن، بعد زيارته عام 1929 البلد الذي كان لا يزال تحت الحكم الإمامي. لكن اقتباس التجربة الإخوانية في العقود التي تلت، تعثّر لأسباب عدة، أبرزها أن ذلك الزمن كان يعجّ بالأحزاب والحركات القومية والماركسية. فاقتصر النشاط الاسلامي في الخمسينيات والستينيات ــ برغم بعض المحاولات التي لم يكتب لها النجاح ــ على المدارس والمعاهد الاسلامية التي بدأت بالظهور.

مثل «الإصلاح» أداةً لضرب أي مشروع يساري أو تحديثي

وبرغم التأثر المبكر بـ»الجماعة»، يبقى الحديث عن تنظيم «إخواني» في اليمن مفتقر إلى الدقة. فحزب «الإصلاح» الذي يرتبط بالتنظيم الدولي، هو في الواقع وعاء لعدد من التيارات الدينية والقبلية والعسكرية، تُعدّ الوهابية التيار الطاغي عليها.
«كان الإصلاح أداةً لضرب أي مشروع يساري أو تحديثي في اليمن»، يقول المفكر وعضو اللجنة المركزية في الحزب الاشتراكي اليمني، محمد المقالح، إذ اتُهم الحزب الاسلامي بتنفيذ اغتيالات ضد قيادات «الاشتراكي» في المحافظات الشمالية، ومن بينها اغتيال الأمين العام لهذا الحزب جارالله عمر عام 1993، من ضمن موجة فتاوى التكفير. في ذلك الوقت، كان «الإصلاح» يمارس نشاطه الدعوي والسياسي من خلال قنوات الدولة في مكتب الإرشاد والمعاهد العلمية ومنابر المساجد والإعلام الرسمي، وهو ما أدى الدور الأساسي في «الغزو السلفي» الذي عرفه المجتمع اليمني.
وفي قضية العلاقة بـ»الاخوان المسلمين»، يمكن القول إن الحزب يميل كيفما تميل الرياح. فحين وصل التنظيم الى السلطة في مصر عام 2012، تعاطى الحزب اليمني مع الموضوع وكأن له حصة فيه. أما حينما أدرجت السعودية «الجماعة» على لائحة «الإرهاب»، فخرج الحزب ببيان يتبرأ فيه من علاقته بـ»الإخوان»، إذ إن علاقته بالمملكة تظلّ على رأس لائحة أولوياته.
إلا أن علاقة الحزب الذي أسسه الشيخ عبدالله الأحمر بالرياض شابتها بعض «الانتكاسات» خلال العقدين الأخيرين. أبرز الاختلافات بين الجهتين، كان إبان «حرب الوحدة» (الحرب على الجنوب) ثم الانتفاضة اليمنية. وشهدت العلاقة بين «الإصلاح» والرياض فتوراً حاداً، في سياق الاختلاف السعودي القطري ودور «الإخوان» فيه خلال «الربيع العربي»، قبل أن تعود الحرارة إلى علاقة الطرفين بعد موت الملك عبدالله.
وفي أيلول من عام 2014، مني «الإصلاح» بهزيمة سياسية أقصته عن المشهد السياسي في اليمن. فبعد دخول قوات «أنصار الله» إلى صنعاء، انكفأ مقاتلو «الإصلاح» عن القتال، حتى سيطرت «أنصار الله» على «اللواء 310 مدرع» التابع لعلي محسن الأحمر، قبل أن يفرّ الأخير إلى الرياض.
وتعتقد شريحة واسعة من اليمنيين أن «الإصلاح» أثبت، خصوصاً مع تأييده للحرب السعودية المستمرة، أنه منقاد تماماً خلق قيادة علي محسن. وأن محمد اليدومي، رئيس الحزب ليس سوى واجهة للحزب ولا سلطةً فعلية له. أما قرار الحزب الحقيقي، فهو بيد «اللواء» والملياردير حميد الأحمر، ويقيم الاثنان في الرياض، حيث تدار شؤون الحزب اليوم.
يرى هؤلاء أن «الاصلاح» فقد الكثير في هذه الحرب على مستويات عدة ولا سيما الجماهيري. وفي هذا الإطار، يقول هؤلاء إنه «في كل بيت في صنعاء اليوم هناك ثأر مع الإصلاح». فمع بدء حملة «عاصفة الحزم»، كان «الاصلاح» من الجهات القليلة التي أصدرت بياناً رسمياً يؤيد الحرب، قبل أن يصبح مسلحوها عماد الحرب البرّية ولا سيما في الشمال. وأظهرت وثائق وتقارير صحافية قتال «الإصلاح» إلى جانب «القاعدة» على عدد من الجبهات، أبرزها تعز التي تُعدّ إحدى أكثر الجبهات استنزافاً لهذا الحزب، بسبب حالة العداء الاماراتية ــ الاصلاحية، السبب الأبرز في تعثر «معركة تعز».
المقالح يرى في حديثٍ إلى «الأخبار» أن ما آل إليه «الإصلاح» هو «انتحار جماهيري». وبالنسبة لحجز «الإصلاح» موقعا في التسوية السياسية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهو ما بدأ يظهر مع تعيين علي محسن الاحمر «نائباً عاماً للقوات المسلحة» أخيراً، فيقول المقالح إن الحزب قد يعود إلى العمل السياسي ولكن كحالة طائفية لتمثيل «مكون» في صيغة الحكم المقبلة. وقد يتحقق ذلك فقط في حال نجحت السعودية في إرساء صيغة طائفية لهذا البلد بعد الحرب، يضيف، ما يعني أن نفوذ «الإصلاح» السابق وسطوته على الحكم وتغلغله في مؤسسات الدولة، قد ذهبت جميعها إلى غير رجعة.

________

الإخوان الذين تفتّتوا... ذاتياً


عمّان _ الأخبار | شهد التنظيم الإخواني في الأردن أزمة حقيقية خلال السنوات الخمس الماضية، بدءا من مبادرة إشكالية عرفت باسم «الملكية الدستورية» إلى مبادرة عرفت باسم «زمزم» وأحدثت شرخا في جسم الجماعة، ثم جاء انقسام جديد بعدما حصل أعضاء منها على ترخيص يحمل اسم «جمعية جماعة الإخوان المسلمين»، بقيادة المراقب العام السابق، عبد المجيد الذنيبات.

بداية الأزمة كانت في فكرة «الملكية الدستورية»، التي حملت الأفكار نفسها التي يسير عليها نظام الحكم في بريطانيا، وكان مهندسها القيادي الإخواني ارحيل الغرايبة، وروج لها في واشنطن على هامش مشاركته في أحد المؤتمرات. لكن هذه المبادرة نامت في مهدها، بعد الهجوم الذي تعرض له الغرايبة من داخل التنظيم وخارجه.
بعد تفاقم الأزمة الداخلية في صفوف الجماعة، ولدت مبادرة جديدة باسم «المبادرة الأردنية للبناء - زمزم» التي وقف وراءها الغرايبة ومعه القيادي نبيل الكوفحي، ووصفت بـ»الانقلاب الأبيض». منذ انطلاقة «زمزم» والماكينة الإعلامية في المملكة لم تتوقف عن تحليل ما حدث، كما حرص الإعلام القريب من الحكومة على استغلال ما جرى لتعتيم الصورة القاتمة ضد منافسها السياسي الوحيد تقريبا.
في السياق التاريخي، ومع تشكيل المكتب التنفيذي لـ»الإخوان» قبل نحو عامين وبعد فوز همام سعيد بمنصب المراقب العام، وبرغم أن رأي الأغلبية كان أن يشكل همام فريق عمل متجانس، لأن التجربة السابقة في المكتب التوافقي القائم على المحاصصة كانت معطّلة للعمل وقائمة على الترضيات، فإن الرجل كما يقول أنصاره، ونتيجة للتجربة السابقة، اعتمد على مبدأ الكفاءة في اختيار أعضاء المكتب التنفيذي والفريق العامل معه.
في هذه الأثناء، قرر التيار الذي عرف باسم «حمائم الإخوان» رفض المشاركة في أي موقع داخل الجماعة كرد فعل على ما سموه فوز تيار «الصقور» بالأغلبية في مجلس الشورى مع أنها وصفت بأنها «انتخابات تامة وحرة».
راهن هؤلاء على أن المراقب العام لن يستطيع تشكيل مكتب تنفيذي ولن يحظى بالثقة المطلقة من أعضاء الشورى، ولن ينجح في هذه المرحلة الصعبة، فقدروا أن عزوفهم سيحبط القيادة. لكن سعيد قرر تشكيل مكتب تنفيذي من شخصيات صاحبة كفاءة وخبرة وليست بالضرورة من المحسوبة على تيار الصقور، مثل زياد الخوالدة ووائل السقا ومحمد الشحاحدة سعود أبو محفوظ، فيما كان سعيد نفسه وأحمد الزرقان هما المحسوبان تاريخيا وتقليديا على جناح «الصقور».
شعر «حمائم الإخوان» بأنهم أخطأوا التقدير، فحاولوا الضغط من خلال مجلس الشورى لفك «المكتب التنفيذي» وإعادة تركيبه كي يدخلوا إلى المكتب من جديد. بعد عدة محاولات قادها المراقب السابق عبد المجيد الذنيبات (صاحب الانشقاق اللاحق) مع «مكتب الإرشاد العالمي» وحديثه عن شبهة مال سياسي في الانتخابات الداخلية، انقسم هذا التيار إلى جهتين: جهة عدلت مسارها وغيرت رأيها وانخرطت في العمل، وفريق ثان وجد نفسه ومستقبله خارج الجماعة (مبادرة زمزم).
اجتمع مؤسسو «زمزم» في لقائهم الأول في نهاية 2012 بعد ما يقارب ستة أشهر على تشكيل المكتب التنفيذي. حضر اللقاء نحو ستين شخصية دون أن يعلموا بتفاصيل ما دعوا إليه. خلال الجلسة طرقت ورقتان كانت الثانية تنص على تشكيل إطار جديد يشمل بعض معاني وأهداف «زمزم» ما تسبب في انسحاب عدد من الحضور.
أهم من رفضوا فكرة المبادرة شكلا وتوقيتا القياديان عبد اللطيف عربيات وسالم الفلاحات، اللذان رأيا أنها فكرة انشقاقية. وحديثا، أكدت مصادر مطلعة في وزارة الشؤون البرلمانية والسياسية أن «زمزم» تقدمت رسميا بطلب لتأسيس حزب سياسي جديد. ويحمل الحزب اسم «حزب زمزم» إلى جانب صيغة أولية لبعض الأفكار والمبادئ الخاصة به.
استمرت مؤسسات الدولة الإعلامية المناكفة للإخوان بالعمل بمبدأ زيادة الشرخ، فأبرزت نموذج «زمزم» وعملت على مدحه وفتح المجال لقيادات المبادرة حتى جاء موعد إعطاء الترخيص الحكومي الشهير لـ»جمعية جماعة الإخوان المسلمين»، بقيادة عبد المجيد الذنيبات، في محاولة لإحداث شرخ إضافي إلى جانب «زمزم»، مع أن الجمعية لم تلق قبولا لدى القواعد الإخوانية التي نأت أجزاء كبيرة منها عن هذه الخلافات، وفي النتيجة عن المشاركة الفعالة في النشاطات، التي حاصرتها الحكومة في السنة الأخيرة بحجة وجود جمعية مرخصة هي المسموح لها بالنشاطات.
وقد سبقت الترخيص لجميعة الذنيبات مؤتمرات تصحيحية وصفت بالانقلابية على الجماعة الأم، وصولا إلى تدخل الحكومة في الأسبوع الماضي لمنع الأخيرة من إجراء انتخاباتها الداخلية.
يشار إلى أنه قبل الإعلان عن ترخيص الجمعية اعتقلت السلطات الرسمية الرجل الثاني في الجماعة الأم، زكي بني ارشيد، على خلفية منشور له على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» وسجن بتهمة الإساءة إلى دولة شقيقة هي الإمارات.
لكن بني ارشيد أعلن في اليوم الأول من خروجه من السجن مبادرة وطنية للإصلاح فتحت شهية المتحمسين في التنظيم وخارجه على فكرة لم شمل الصف الإخواني. ونظريا، استطاع الرجل جمع بعض الشتات عبر توافقات مع التيارات في الجماعة على تمرير الانتخابات الداخلية المقبلة واستبعاد أي مناكفات.
ويذكر أن بني ارشيد، في آخر جلسة لشورى الجماعة، التي اعتقل عقب انتهائها، استطاع أن يساهم في تشكيل توافق عبر طي «ملف زمزم»، ولكن خبر الاعتقال غطى على هذا التوافق، الذي لا يبدو أن نتائجه ستثمر في ظل التشتت الذاتي واستغلال الحكومة له.


_______________
أشواك سيد قطب

وسام اللحام

في روايته "أشواك"، يعبّر سيد قطب (1906-1966) عن خيبة الأمل التي تسبّبها قصة حب فاشلة عاشها البطل مح حبيبته بسبب التقاليد الاجتماعية المحافظة. صدرت رواية "أشواك" سنة 1947 وقد أهداها قطب إلى حبيبته كاتبا: "إلى التي خاضت معي في الأشواك فدميت ودميت وشقيت ثم سارت في طريق، وسرت في طريق: جريحين بعد المعركة.

لا نفسها إلى قرار ولا نفسي إلى استقرار". كان هذا قبل أن يتحول سيد قطب ويصبح مفكر الاخوان المسلمين الأبرز الذي سيدفع حياته ثمن مواقفه ويجري اعدامه شنقا زمن حكم الرئيس جمال عبد الناصر.
كيف تحولت شكوى سيد قطب من لوعة الحب وأشواكه إلى رفض عارم وجارف لكل سلطة غير اسلامية؟ لا شكّ أن هذا السؤال يعكس الأزمة التي يعيشها العالم العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم حول مفاهيم الهوية والقومية والحداثة، التي دخلت بقوة مع توسع الهيمنة الغربية على المستويات الاقتصادية والعسكرية والفكرية. وقد تنكر قطب لاحقا لروايته "أشواك"، إذ عدّها غير اسلامية تنتمي إلى فترة حياته "الجاهلية" التي امتدت لما يقارب الأربعين سنة كما وصف نفسه في كتابه "معالم في الطريق" الذي استعملته المحكمة لادانته بسبب تحريضه الشباب على التمرد والعمل لاقامة الشريعة وحاكمية الله.
سافر قطب سنة 1948 إلى الولايات المتحدة في بعثة كممثل عن وزارة التربية بغية دراسة مناهج التعليم الحديثة لكنه عاد وقد تغير بشكل كبير إذ هاله واقع الحياة في أميركا التي وصفها في كتاب له كمجتمع يعاني ثلاث آفات رئيسية: المادية، العنصرية والانفلات الجنسي. لقد رأى قطب أن الدول الصناعية تفوقت من حيث التقدم التكنولوجي لكنها تنتج دون قيم روحية واخلاقية حيث أضحت الحرية مجرد سعي وراء الملذات والرغبات الجامحة. وعقب عودته إلى مصر تقرب قطب شيئا فشيئا من حركة الاخوان المسلمين حتى توج انقلابه الفكري مع انضمامه رسميا إلى صفوف الاخوان المسلمين سنة 1953 إذ اعتبر الاخوان بوصفهم القوة الوحيدة التي تستطيع الوقوف بوجه تمدد الحضارة الغربية في العالم الاسلامي.
ومن أشواك الحضارة الغربية إلى أشواك ثورة الضباط الاحرار التي أنهت النظام الملكي في مصر سنة 1952. فقد أيدت حركة الاخوان الثورة في أول الأمر لا بل جرى تعيين سيد قطب نفسه مستشارا للمجلس العسكري وأصبح بالتالي المدني الوحيد الذي حضر اجتماعات المجلس. سرعان ما نشأ الخلاف بين قادة الانقلاب والاخوان اذ رفض المجلس العسكري مطالب هؤلاء بتطبيق الشريعة كمنع بيع الكحول واغلاق الحانات. كذلك رفض المجلس مطالب الاخوان بالانتقال الى نظام حكم دستوري مدني واجراء استفتاء شعبي حول تطبيق الشريعة. وهكذا بعد تصاعد حدة الخلاف حُلت حركة الاخوان المسلمين وزج بسيد قطب في الحبس بعد تعرضه للتعذيب، وبقي في الحبس حتى سنة 1964 حين أُفرج عنه بناء على طلب من الرئيس العراقي عبد السلام عارف، لكن ما لبث ان اعتُقل من جديد بعد ثمانية أشهر بتهمة الارهاب والإعداد لانقلاب مسلح فأُدين وأُعدم في 29 اب 1966.
تأثر سيد قطب خلال فترة اعتقاله بكتابات أبي الأعلى المودودي الذي نظّر لمفهوم حاكمية الله وجاهلية المجتمعات البشرية وكان أول من استعمل هذه المفاهيم بشكل سياسي وضد مسلمين اخرين. وقد سار قطب على النهج نفسه فأصّل لفكرة الحاكمية في كتابه الضخم "في ظلال القرآن"، حيث كتب ان "إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور".
فكل مجتمع لا يقوم على تطبيق شرع الله هو مجتمع جاهلي يفتقر للشرعية لأن فكرة التوحيد تفرض أن سلطة التشريع، وتحديد الحلال والحرام، يعودان حصرا لله. فقبول سلطة بشرية أكانت لانسان مفرد أو لمجموعة معينة أو لايديولوجيا محددة كالقومية أو الشيوعية شرك يؤدي بالمجتمع إلى الكفر والسقوط في الجاهلية. لذلك كان لا بد من "إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر، وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها" فلا بد من "الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، لتحرير الإنسان في الأرض، كل الأرض".
وهكذا نفهم كيف تجري عملية تكفير دول ومجتمعات بأكملها. فمعيار الحاكمية ليس تركيبة الشعب السكانية، بل تطبيق شرع الله. فالبلاد التي لا تطبق فيها الشريعة هي دار حرب حتى لو كانت الغالبية الساحقة من سكانها مسلمة مؤمنة. فالحكومة الاسلامية هي حكم الشرع، والدولة الاسلامية لا تعرف حدودا جغرافية، بل هي تمتد لتشمل كل الاراضي الخاضعة لحاكمية الله. من هنا كانت الدعوة ضرورية في مرحلة أولى لشرح حقيقة الدين لمن ضل من البشر ومن ثم لا بد من الجهاد والقوة لمواجهة الحكومات التي تقوم على مفاهيم جاهلية. فالثورة الاسلامية واجب لتدمير العراقيل التي يفرضها الانسان بين المؤمن والله.
هذه هي وصفة سيد قطب لتحرير الانسان من أشواك الجاهلية. فمن أشواك الحب، أنهى قطب حياته محاربا أشواك الطواغيت وحكم الكفار في مجتمع جاهلي لكي يتحول هو نفسه إلى شوكة الاخوان المسلمين الفكرية الأهم. صحيح أن بعض الورد لا شوك له، لكن أيضا بعض الشوك لا ورد له.
_______________
*كاتب وأستاذ جامعي

ابحث عن مقالات مثل التي قرأت

Advertise Here

المقالات الأكثر قراءة

_____________________________________________________
حقوق التأليف والنشر © مراجعات. جميع الحقوق محفوظة.