ما حدث في منطقة باب الهوى بريف إدلب على الحدود مع تركيا من سيطرة الإسلاميين المتشددين على مقار ومستودعات «الجيش الحر»، لم يكن سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة من المهانات والهزائم التي تعرّض لها هذا «الجيش» في محاولته إيجاد مكان له تحت شمس «التنظيمات الجهادية» التي انتشرت كالسرطان فوق الأراضي السورية خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
تداولت الفصائل الإسلامية، «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) و«أحرار الشام»، التلاعب بمكوّنات «الجيش الحر» غير المتناسقة أساساً، فأنهكته من الداخل عبر الانشقاقات الكثيرة التي تعرّض لها من ألوية وكتائب كانت تعتبر جزءاً مهماً منه، قبل أن تنقضّ «الجبهة الإسلامية»، بعد تشكيلها بحوالي الأسبوع، على ما تبقى منه وتوجه له الضربة القاضية في معبر باب الهوى.
تداولت الفصائل الإسلامية، «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) و«أحرار الشام»، التلاعب بمكوّنات «الجيش الحر» غير المتناسقة أساساً، فأنهكته من الداخل عبر الانشقاقات الكثيرة التي تعرّض لها من ألوية وكتائب كانت تعتبر جزءاً مهماً منه، قبل أن تنقضّ «الجبهة الإسلامية»، بعد تشكيلها بحوالي الأسبوع، على ما تبقى منه وتوجه له الضربة القاضية في معبر باب الهوى.
لم يكن «الجيش الحر» في حاجة إلى من ينعاه، فقد نعى نفسه بنفسه عندما خرج قائده اللواء سليم إدريس وأقرّ بأنه هو من طلب الحماية من «الجبهة الإسلامية»، فـ«الجيش» الذي لا يحمي نفسه هو «جيش» ميت بلا خلاف.
ولا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة، أن توجه الضربة القاضية إلى «الجيش الحر» في هذا التوقيت الحساس الذي يسبق انعقاد مؤتمر «جنيف 2» في 22 كانون الثاني المقبل، لا سيما أن «الجبهة الإسلامية» التي تولّت تنفيذ هذه الضربة، ترفض انعقاد المؤتمر وتسعى إلى إفشاله بأي طريقة ممكنة، لأنها ترى فيه توافقاً دولياً على بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة كغطاء لشن حرب ضروس على الجماعات الإسلامية المتشددة، أو ربما هي تتذرع بذلك بينما وراء رفضها للمؤتمر الدولي أسباب أخرى تتعلق بطبيعتها الرافضة للديموقراطية والمدنية والمشاركة في الحكم مع العلمانيين. فكان القضاء على «الجيش الحر» وإخراجه من المشهد، هو السبيل لإفشال المؤتمر، فـ«الجيش الحر» هو الجناح العسكري لـ«الائتلاف الوطني» المعارض الذي يفترض أن يشكل وفد المعارضة إلى جنيف، فمن سيرضى التفاوض مع «ائتلاف» لا يملك شيئاً على الأرض؟ وماذا بإمكان «الائتلاف» أن يقدم بعدما تلاشى جناحه العسكري؟
ولأن السعودية هي الدولة الإقليمية الأكثر تشدداً في رفض «جنيف 2»، وسعياً إلى إفشاله من جهة، وهي راعية «جيش الإسلام» بقيادة زهران علوش، الذي يعتبر أحد أهم مكونات «الجبهة الإسلامية» من جهة ثانية، فإن ما حدث عند معبر باب الهوى لا يمكن أن يكون قد جرى من دون ضوء أخضر سعودي، إن لم تكن هي التي خططت ودعمت وحرّضت على ذلك.
وللإشارة فإن الحديث عن «جيش موحد»، يضم كبرى الفصائل الإسلامية لم يبدأ جدياً إلا بعد زيارة زهران علوش إلى السعودية في موسم الحج الماضي. وقد تسرّبت معلومات كثيرة عن هذه الزيارة، سواء لجهة لقاء علوش مع ضباط استخبارات سعوديين، واجتماعه مع شيوخ ورجال أعمال داعمين للفصائل المسلحة، أو اجتماعه الملتبس مع الشيخ سليمان العلوان، الذي يعتبر من أكبر مؤيدي تنظيم «القاعدة» في السعودية. وبعد عودة علوش من زيارة الحج بدأ الحديث عن سعي الفصائل للتوحد ضمن «جيش واحد» أو جبهة واحدة أطلق عليها لاحقاً اسم «الجبهة الإسلامية»، وضمت «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» و«لواء التوحيد» و«صقور الشام» و«لواء الحق»، وهي مكوّنات غير متناسقة عقائدياً وإيديولوجياً، إذ بينما تنتمي «أحرار الشام» إلى تيار السلفية «الجهادية»، فإن صقور الشام أقرب إلى فكر جماعة «الإخوان المسلمين»، بينما «جيش الإسلام» خليط هجين بين «الإخوان» و«السرورية» و«الجامية» (تياران دينيان في السعودية)، أما «لواء التوحيد» فما زال يعاني من العشوائية والفوضى ولم يستطع أن يحسم انتماءه بسبب تكوينه الهجين من ألوية وكتائب فرض عليها التوحد في بداية معركة حلب منذ عام ونيف.
وكان من أبرز ثمرات زيارة علوش إلى السعودية، التقارب الذي حصل بينه وبين «جبهة النصرة»، وذلك بعد عامين من الخصومات وتبادل الاتهامات، حتى أن مفتي «جيش الإسلام» الشيخ أبو عبد الرحمن الكعكي طالما وصف «جبهة النصرة» بأنهم خوارج، ولكن على ما يبدو فإن علوش سمع في السعودية كلاماً واضحاً بضرورة التقارب مع «تنظيم القاعدة في بلاد الشام» (جبهة النصرة)، وقد يكون لقاؤه مع الشيخ سليمان العلوان، أحد أكثر المغضوب عليهم من السلطات السعودية (هو بانتظار تنفيذ حكم يقضي بحبسه 15 عاماً)، البوابة التي أتاحت لهذا التقارب أن ينجح، كما لا يمكن التصديق بأن علوش التقى بالعلوان فوق الأراضي السعودية من دون ضوء أخضر أو مباركة من استخباراتها.
وبينما خرج علوش قبل يوم واحد من إعلان تأسيس «الجبهة الإسلامية»، كي يفسر الخلافات السابقة مع «النصرة» ويعلن أنهما في صف واحد وأنه سبق والتقى بزعيمها أبو محمد الجولاني، كانت «جبهة النصرة» في اليوم التالي ترد التحية بمثلها حيث باركت تأسيس «الجبهة الإسلامية»، ورأت فيها عبر لسان مسؤولها «الشرعي» أبو ماريا القحطاني جهداً مشكوراً لتوحيد صفوف المسلمين.
علاوة على أن العديد من المصادر تحدثت أن «جبهة النصرة» كانت في صلب المفاوضات بين الفصائل الإسلامية بخصوص تأسيس «الجبهة الإسلامية»، وأنه كان يجري إطلاعها على المجريات أولاً بأول، ما يشير إلى وجود تنسيق عالي المستوى بين «الجبهة الإسلامية»، المدعومة سعودياً، و«النصرة - فرع القاعدة في الشام».
كذلك فإن التقارب بين «جيش الإسلام» و«أحرار الشام»، رغم الاختلاف العقائدي بينهما، يأتي في إطار الرغبة السعودية بمثل هذا التقارب لمواجهة استحقاق «جنيف 2». وقد يكون السؤال عن سبب عدم توحد «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» قبل عام من الآن، كاشفاً عن المصلحة التي استجدت ودفعتهما إلى التوحد بعدما كان كلّ منهما ينتمي إلى جبهة مختلفة، فـ«أحرار الشام» كانت خلال العام الماضي ضمن «الجبهة الإسلامية السورية»، بينما كان «لواء الإسلام» ضمن «جبهة تحرير سوريا الإسلامية»، وكان بينهما من المشاحنات والخلافات الكثير. ويكفي أن نشير الى أنه قبل أسابيع من تشكيل «الجبهة الإسلامية»، كان «أحرار الشام» قد انسحب من غرفة العمليات الرئيسية في دمشق بعد أسبوع من تشكيلها بالاشتراك مع «لواء الإسلام»، وفي اليوم الذي تلى إعلان تشكيل «جيش الإسلام» من اتحاد ما يزيد عن ستين كتيبة ولواء.
ومرةً أخرى نجد أن تنظيم «القاعدة» يكون هو المستفيد من هذا التقارب، لأن حركة «أحرار الشام»، علاوة على انتمائها لتيار السلفية «الجهادية»، فإنها تنطوي على تيار كبير يتبع «القاعدة» في خراسان، والذي يقوده أيمن الظواهري. ويكفي كدليل على ذلك أن نشير إلى أن أبا خالد السوري، الذي اختاره الظواهري ليكون منتدباً من قبله للإشراف على حل الخلاف بين الجولاني وأبي بكر البغدادي، ووصفه الظواهري بأنه «من خير من عرفنا وخبرنا»، وكذلك كان ثاني شخصية بعد عطية الله الليبي يقوم أبو مصعب السوري بإهدائه كتابه الشهير «دعوة إلى المقاومة الإسلامية». وهو في الوقت ذاته قيادي كبير في «أحرار الشام»، ولا يخاطبه «المسؤول الشرعي لتنظيم القاعدة في بلاد الشام» أبو ماريا القحطاني إلا بقوله «شيخنا»، إضافة إلى أن «كتيبة الفرقان» تنتمي إلى «أحرار الشام» ومعظم عناصرها من «المهاجرين» أتباع تنظيم «القاعدة» والمقاتلين السابقين في أفغانستان والبوسنة والعراق. فهل يعقل أن يتقارب زهران علوش رجل السعودية الأول في سوريا مع «القاعدة» وقادته ورجاله من دون موافقة من داعميه ومموّليه وضباط الاستخبارات المشرفين عليه؟
وحده «داعش» كان خارج المعادلة السعودية الجديدة، لكنه مع ذلك كان مفيداً لها، لأن الحملة الإعلامية التي شنت على التنظيم بهدف شيطنته وتسليط الأضواء على أخطائه وجرائمه، انعكست إيجاباً على سمعة «جبهة النصرة»، وهو أتاح لبعض التشكيلات أن تتخذ قرار التقارب مع «النصرة» بعد أن كانت ترى في بيعة الجولاني للظواهري خدمة للنظام السوري فقط، كما في بيان «أحرار الشام» في نيسان الماضي على سبيل المثال. وأدّى ذلك في النتيجة إلى انعزال «داعش» عن باقي الفصائل في ظل رأي عام ينظر إليه على أنه أسوأ من تنظيم «القاعدة».
هذه العزلة، سواء اعترف بها أنصار البغدادي أم لا، فإنها موجودة وأصبح بالإمكان ملاحظتها من دون بذل جهد كبير، وقد تكون ترجمتها الأهم هي ذلك الانطباع المنتشر عن أتباع «داعش» في سوريا حيث يجري تصويرهم على أنهم متوحشون ملثمون مجهولون، ديدنهم التكفير وسفك الدماء، وقد دخلت مؤخراً وسائل إعلام كبيرة لتعزيز هذا الانطباع وتسويقه، في مقابل تبييض صفحة باقي الفصائل الإسلامية المتشددة التي لا تختلف كثيراً في سلوكياتها عن «داعش».
والبغدادي يعرف أنه في مواجهة صعبة، وقد تكون أصعب بكثير من مواجهة «الصحوات» في العراق خلال السنوات الماضية، لأن من يواجهه هذه المرة هم أرباب «الجهاد» وأمراؤه وقادته التاريخيون. ويوماً بعد يوم يغرق البغدادي في تفاصيل هذه المواجهة التي تشكل هاجسه الأكبر، وهو ما ينذر بتطورات خطيرة على الساحة السورية، لأن هذه الساحة تشكل حالياً المنفذ الوحيد أمام البغدادي ليثبت صحة توجهاته ومصداقية بيعته ومشروعية دولته، وسوف يضرب بلا هوادة يميناً وشمالاً، غير عابئ ببحر الدماء التي تسيل من ضرباته، ما دام بريق الخلافة يلمع أمام عينيه من وراء كل هذه الدماء.
ليست هناك تعليقات:
Write التعليقات