‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحدث. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحدث. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 23 يونيو 2017

خطة السعودية لتجريد قطر من أسلحتها الثلاثة

    يونيو 23, 2017   No comments
بقلم قاسم عزالدين
 
لمطالب السعودية - الإماراتية التي تخرج إلى العلن بموافقة أميركية، تكشف التصعيد السعودي أملاً بهزيمة قطر والعودة بها إلى حجم إمارة تحت مرمى المملكة. لكن هذا التصعيد الضاغط ربما يفتح أمام قطر طريق مراجعة خياراتها السياسية في محاور المنطقة. 

لائحة المطالب والشروط السعودية، جرى تداول بنودها الأساس بينما كانت الإدارة الأميركية تدرس تدخلها لحل الأزمة الخليجية، ولم تخرج اللائحة إلى العلن بشكلها الحالي إلا بعد أن أعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الموكل بالملف أن الإدارة تدعم الجهود الكويتية لحل الأزمة وهو أمر يدل على أن واشنطن تختار المماطلة. فوزير الخارجية الموكل بحل الأزمة، كان قد تميّز عن دونالد ترامب الذي يميل إلى السعودية، يحثّ السعودية على تقديم أدلّة على اتهاماتها، وفق تعبير المتحدثة باسم الخارجية هيذر نورت.

وقد أعرب تيلرسون بعدها عن ثقته بحل قريب، بحسب تصريح جاء في ختام جولة مباحثات مع وفود خليجية في واشنطن، ولا سيما لقاءه بمستشار أمير دولة قطر لشؤون الاستثمار محمد بن حمد آل ثاني.

هذه الأجواء التي تغيّب عنها وزير الخارجية القطري عبد الرحمن آل ثاني، أتاحت المراهنة القطرية على مبادرة أميركية يحملها تيلرسون تستند إلى غربلة الأسماء التي ينبغي أن تغادر قطر، وإلى ضبط الإعلام القطري وتشذيب الدعم القطري للإخوان المسلمين وحماس من دون قطع الأوصال وقلب ظهر المجنّ.

وفي هذا السياق قال تيلرسون ينبغي أن تكون المطالب السعودية معقولة وقابلة للتنفيذ، لكن هذه المراهنة سرعان ما يلقيها تيلرسون جانباً، كما يدل نشر اللائحة في الصحافة الأميركية، على الرغم من أن الوزير الإماراتي أنور قرقاش اتهم قطر بإفشاء المطالب لإفشال الوساطة الكويتية.

 التهديد بمهلة عشرة أيام للتنفيذ، قد يشي بأن السعودية تمهّد لانقلاب أو غزو محتمل. لكن هذا الأمر قد يكون في غير أوان بعد الدخول التركي إلى القاعدة العسكرية في الدوحة والمناورة الأميركية - القطرية المشترّكة.

وفي هذا الإطار قد لا يبقى أمام الضغط السعودي - الإماراتي أكثر من طريق الغاز القطري إلى الإمارات؛ ففي مقابل ورقة الضغط الأخيرة في أيدي السعودية والإمارات تشمل لائحة المطالب إقفال القاعدة التركية، ما اعتبره وزير الدفاع التركي تدخلاً في علاقات أنقرة مع الدول الخليجية.

وتشمل في المقام الأول ليس فقط التخلي عن الإخوان المسلمين، بل محاربتهم وملاحقتهم وتسليم اللوائح بأسمائهم وملفاتهم، والتخلي بذلك عن نفوذ قطر في المنطقة العربية وخارجها أشبه بطلب الانتحار السياسي.

المطالب والشروط الأخرى المدرجة في اللائحة، تبدو تمويهاً للمطلب الأساس الذي يمدّ قطر بالنفوذ وطموحات المصالح، فالمطالبة بوقف دعم حزب الله وأنصار الله والقطيعة مع إيران قد تكون من باب التحريض المجاني وذرّ الرماد في العيون.

أمّا المطالبة بوقف دعم وتمويل النصرة والقاعدة و"داعش" وغيرها، فهي ما يمكن أن تكون سهاماً موجهة للسعودية وتحالف واشنطن، وفق تعبير وزير الخارجية السابق حمد بن جاسم الذي أفصح عن شراكة تحالف واشنطن في السراء والضراء لدعم هذه الجماعات عبر غرفتي عمليات "موك" و"موم" في اسطنبول والأردن.

لعلّ أفضل ما يلخّص شروط السعودية وهدفها، هو إعلامي سعودي "من عظام الرقبة" كما يُقال، فهو يقول إن أسلحة قطر الثلاثة هي الإعلام والمال والدبلوماسية النشطة.

وفي السياق يكاد الإعلامي الشهير أن يفصح عن آمال السعودية لتجريد قطر من هذه الأسلحة لتحجيمها من دور إقليمي كبير إلى ما هي عليه في قلّة سكانها وصغر مساحتها وضعف جيشها. وفي وراء الآمال السعودية قد لا تكون قطر وحدها هدفاً للسعودية في الخليج، وربما تنتقل السعودية في المدى المنظور أو الأبعد إلى اتهام سلطنة عمان أيضاً بدعم الإرهاب.

وما يشير إلى ذلك ويفسّر ربما المماطلة الأميركية في حل الأزمة الخليجية، هو ما كشفه موقع "بلومبيرغ" الممدعوم من قطر بحسب الاتهامات المتبادلة بين قطر والإمارات في واشنطن. فهو يذكر أن نائب مستشار الأمن القومي الأميركي "رايك واديل" ذهب إلى السلطنة الأسبوع الفائت لهذا الغرض بصحبة "مايك بومبو" من وكالة الاستخبارات الأميركية.

الحصار السعودي على قطر يعوّل على مزيد من الضغط لكسر أضلع نفوذ الإمارة وطموحاتها الإقليمية، لكن هذا الضغط قد يولّد خيارات سياسية قطريّة لكسر الحصار في الانفتاح على تقاطعات إقليمية ودولية منعتها الخيارات السياسية القطرية مع تحالف واشنطن.

الاثنين، 9 يناير 2017

فرنسا التي تغيّرها كلمة حق في حلب: زيارة الوفد البرلماني الفرنسي إلى سوريا

    يناير 09, 2017   No comments
قاسم عزالدين *

في مثل هذا المناخ الملوّث بالسموم لا ريب أن شهادات الوفد الفرنسي في سوريا وحلب تشير إلى هزّة عنيفة تخبط في السردية الرسمية خبط عشواء، أقلّها كما بدأت تسري في تعليقات بعض الجنرالات الديغوليين المتقاعدين الذين يتحمسون للإفصاح عن تشابك المصالح الإقليمية والدولية في الحرب على سوريا والمنطقة.

زيارة الوفد البرلماني الفرنسي إلى سوريا ولقائه الرئيس بشار الأسد، بدأت تداعياتها تتفاعل في خرق التضليل الإعلامي الفرنسي، وفي تلعثم خطاب الطبقة السياسية أمام شهادات الوفد في سوريا ولا سيما في حلب. فما ينقله رئيس الوفد تييري مارياني في مقابلاته مع الإذاعات الفرنسية من سوريا، يقع كالصاعقة على رؤوس في فرنسا محشوّة بالأضاليل المتعمّدة حتى انتفاخها بالأوبئة. لكن هذا التورّم الفاقع قد يكون سبباً في فرقعتها بوخزة دبوس حملته جملة واحدة على لسان مارياني ربما وردت عن عفو خاطر.

يقول مارياني نائب الفرنسيين في العالم من حلب: "لم يتعرّض سكان المدينة إلى الإبادة الجماعية كما تتداولون، ولم يتهدّم من مباني المدينة أكثر من 15% بينما لم يتعرّض حوالي 65% للضرر". وهذه الجملة المختصرة تقضّ الخطاب الرسمي الفرنسي الأكثر توتراً من أي بلد أوروبي آخر حيث لا يحتمل تحجّره ضربة مطرقة على رأس هرم الأكاذيب التي بلغت الذروة في كثافة دموع التمثيل المسرحي لنعي حلب. فسردية الدراما الجنائزية في الندب الفضائحي تملّقاً، منتشرة بين "الناشطين" من كل حدب وصوب وهي أشبه برقصة "هستيرية" كمن أصابه المسّ. ولعلّها المرّة الأولى التي يشعر فيها المرؤ القادم من بلاد الشام إلى باريس أنه في وسط حلقة دراويش عليه أن يترنّح على نغمات قرع طبولهم أو يترك الحلبة. وفي العادة كان القادم محط ترحاب للاستفسار والحوار في شؤون معقّدة، لكن المرّة هذه انقلبت العادات وبات القادم محط تحقيق استفزازي للإجابة بنعم أو لا بين تأييد الثورة أم تأييد إيران وموسكو وبشار الأسد في تدمير حلب وإبادة سكانها. وعبثاً تحاول أن تستنطق بعض الجهابذة بشأن مخيالهم لما يتصوّرون، فكل منهم يتخيّل أنه يأخذ معرفته الحقّة عن هذا "الناشط الكبير" في ندوات باريس أو ذاك، ويحفظ عن ظهر قلب عشرات المقالات الصحافية والصور التلفزيونية وغيرها. وفي مثل هذا المناخ الملوّث بالسموم لا ريب أن شهادات الوفد الفرنسي في سوريا وحلب تشير إلى هزّة عنيفة تخبط في السردية الرسمية خبط عشواء، أقلّها كما بدأت تسري في تعليقات بعض الجنرالات الديغوليين المتقاعدين الذين يتحمسون للإفصاح عن تشابك المصالح الإقليمية والدولية في الحرب على سوريا والمنطقة.

كبار الموظفين العرب في الهيئات الدبلوماسية والثقافية الغربية والعربية، يجدّون السعي في ترويج ادعاءات السردية الرسمية، وبعضهم يتمتع بصدقية قديمة في أوساط الناشطين على خلفية مناصرة السلطة الفلسطينية. والبعض الآخر جلّه من أصول لبنانية يطمح إلى دور مميّز في الاستشراق الجديد الذي تهتم به الدبلوماسية الغربية بتنشأته في الجامعات ومراكز الأبحاث. لكن الإعلام هو رأس الحربة في حرب ضروس لا تقتصر على الكذب والتضليل، بل تتعداها إلى الإرهاب الفكري وهدر دم الصحافيين المستقلين الذين يحاولون بإمكانيات متواضعة نقل بعض الحقيقة. فالصحافي البلجيكي ــ الفرنسي "ميشال كولون" على سبيل المثال يتعرّض إلى حملة إعلامية شخصية تخوضها ضد موقعه كبريات وسائل الإعلام الفرنسية مثل فرنس أنتر ولوموند وليبراسيون ولوبوان أو مجلة لونوفيل أوبسرفاتور وغيره. وهي تسعى بكل ما تملك إلى تحطيم موقعه "أنفستيج أكسيون" الذي يموّله القراء برموش العيون منذ عام 2004، لأن القراءة المغايرة للسردية السائدة كالنار تحت الرماد لا تلبث أن تحرق الأكاذيب في جفافها. وقد تكون بوادر زيادة قرّاء الموقع ومشاركيه كلما اشتدّت الحملة، إشارة في السياق الذي تنقلب فيه صفحة سوداء.

مثل "ميشال كولون" يتعرّض عالم الفيزياء ــ الفيلسوف "جان بريكمون" إلى حرب نفسية مشابهة تستهدف تشويه عضويته في الأكايمية الملكية البلجيكية للعلوم وإسكات موقعه "بلوغ رزيستانس" الداعم للمقاومة في لبنان في مواجهة إسرائيل وداعش" و"النصرة".

ولعل أكثر ما يفصح عن هشاشة سردية الخطاب الإعلامي والسياسي السائد في فرنسا على الرغم من عنجهيته العارية، هو عدم قدرته على هضم مقالة مغايرة كما حذف موقع "ميديابار" مقال الكاتب "برينو غويغ" (متعاون مع موقع الميادين نت) بعد ساعات على نشرها. فالموقع منظّم منذ 2008 بشكل يمكن أن يكتب فيه المشتركون الذين يدفعون اشتراكاتهم، وهو يضم 118 ألف مشترك كونه يزعم الانفتاح على تعدد الآراء والحرص على الاستقلالية عن الطبقة السياسة. لكن هيئة التحرير حذفت مقال برينو عن حلب على وجه السرعة ووضعت مكانها مقالة فاروق مردم بك أحد العالمين بتفاصيل مخيلته عن المريخ. ولا ضير فعلى الأرجح أن تذهب معظم هذه الجهود الهائلة سدىً تحت ثقل متغيرات كرّستها حلب على الأرض قبل أن تظهر على الألسن والرؤوس. ففرنسا تتغيّر بهدء لكن بثبات. حتى أن المنافسين على الرئاسة في الانتخابات التمهيدية "بينوا هامون وآرنو مونتبورغ" يوجهان نقداً لاذعاً لسياسة فرنسوا هولاند الخارجية ولوزير خارجيته لوران فابيوس. والتغيير الأكثر وضوحاً وصراحة هو ما يعبّر عنه "برينو لو مار" الذي كان منافساً لفرنسوا فيّون على الترشح للرئاسة/ إذ يقول "يجب علينا العودة إلى سوريا لمواجهة الإرهاب والمشاركة في الحل السياسي مع الرئيس الأسد، قبل أن تضعنا روسيا والصين والولايات المتحدة خارج اللعة وخارج ملعب الشرق الأوسط.

ضحايا التشويه الإعلامي بشأن ما يجري في حلب، بحسب تعبير مارياني، يحتاجون إلى ضوء شمعة وشعاع من الحقيقة، وفق جان لاسال، ونيكولا ذويك العضوين في الوفد البرلماني، إلى جانب منظمات مدنية وهيئات مسيحية. لكن بضوء شمعة أو من دونها تتغيّر الأرض ولا بد أن تتغيّر بعدها الأفكار والمقاربات في الرؤوس فدوام الحال من المحال.
_____________
 * قاسم عزالدين
أكاديمي وباحث، حائز على دبلوم في الدراسات الأنتروبولوجية المعمّقة من جامعة السوربون في باريس، وشهادة من معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس. يكتب في العديد من الصحف والدوريات في الشؤون الدولية واستراتيجيات البدائل.

الاثنين، 8 أغسطس 2016

من كان يببحث عن دليل عن الخلفية الطائفية للجماعت المسلحة في سوريا فالإسم الذي اختاروه لمعركة حلب، غزوة إبراهيم اليوسف، قد يكفي

    أغسطس 08, 2016   No comments
اليوسف كان أحد ضباط الجيش السوري ويحمل رتبة نقيب، وتشير التقارير إلى أنه من مواليد عام 1950 وتعود أصوله إلى ريف حلب والتقى في فترة مبكرة من حياته بعدنان عقلة الذي أصبح لاحقا زعيما لما عُرف بـ”الطليعة المقاتلة” وهي الذراع العسكري الذي انبثق عن جماعة الإخوان المسلمين السورية خلال فترة صدامها المسلح بالنظام قبل عقود، حسب الـ”سي ان ان”.

وحول العملية الأبرز التي نفذها اليوسف يشير تلفزيون “أورينت” السوري المعارض إلى أنها جرت في 16 يونيو/حزيران 1979 عندما كان اليوسف مناوباً، فجمع طلاب مدرسة المدفعية من العلويين وفتح النار عليهم مردياً 80 منهم وجرح آخرين.

وبحسب تقرير القناة نفسها، فقد “استنكر تنظيم الإخوان المسلمين العملية آنذاك معتبرا أنها تصرف فردي ولا علاقة للتنظيم بها، وذهب بعض من كتب عن تلك المرحلة من تاريخ سوريا إلى أن هذه العملية كانت سبباً رئيسياً فيما عاشته سوريا بعد ذلك.
  
فما هي قصة غزوت إبراهيم اليوسف الأولى؟ وهل شستحق التمجيد والتكريم؟

امتلأت قاعة الندوة في مدرسة المدفعية في حلب، بقرابة 300 طالب. اجتمعوا بناء على أمر من الضابط المناوب تلك الليلة النقيب إبراهيم اليوسف، لأن إجتماعا شاملا مع مدير الكلية العسكرية سيتم في الصالة الرئيسية، وأنهم سيزودون هناك بتعليمات هامة. وفي القاعة المكتظة فوجئ الضباط الشبان الذين ارتدوا بزاتهم العسكرية الأنيقة، بمجموعة من الرجال الغرباء عن المدرسة يقتحمون المكان، ويغلقون الأبواب. كان هؤلاء يرتدون أزياء عسكرية، ويحملون رشاشات بأيديهم، فسرى بين الحاضرين جو  من الشك والقلق.. هنالك برز النقيب إبراهيم اليوسف للطلبة، حاملا رشاشه أمام سبورة الصالة، وقرّب ميكرفونا إلى فمه، وبدأ يخطب خطبة مطولة مهاجما العلويين والنظام الأسدي، ومعلنا أن «كل طالب نصيري في هذه القاعة هو الآن في قبضة مجاهدي الطليعة المقاتلة». ثم أخرج إبراهيم اليوسف من جيبه ورقة حضّرها من قبل، وفيها قائمة أسماء محددة، وأعلن أن من سيُذكر إسمه فعليه أن يغادر القاعة، لأننا لا نريد أن نمسّ إخواننا السنّة بأذى». وبالفعل انسحب، من قاعة الندوة، كثير من الطلبة الذين شملهم «العفو الطائفي».. إلاّ أنّ الضابطين محسن عامر ومحمد عدوية رفضا الخروج من المكان، على الرغم من إذاعة اسميهما، وفضّلا أن يستشهدا مع رفاق السلاح.

كان المسلحون في داخل القاعة أحد عشر فردا، وهم: حسني عابو (قائد تنظيم الطليعة المقاتلة في حلب)، وعدنان عقلة (نائب عابو)، وزهير قلوطة، ورامز عيسى، وأيمن الخطيب، ومصطفى قصار، وماهر عطار، وعادل دلال (من أعضاء الجماعة المسلحة) إضافة إلى النقيب إبراهيم يوسف، والطالبان في المدرسة يحيى كامل النجار، وماني محمود الخلف. وبدا لبعض الطلبة، وقد رأوا الشرّ في وجوه المسلحين، أنّ خيراََ لهم أن يقاوموا تلك العصابة المسلحة القليلة، ولو بسواعدهم العزلاء، من أن ينتظروا الموت غيلة وغدرا. وبالفعل أقدم الطالب الضابط سليمان رشيد اسماعيل على مهاجمة أحد المسلحين، محاولا افتكاك بندقيته منه، ولكن المحاولة الجريئة سرعان ما أودت بحياة صاحبها. وحين أخذ الطلاب في الهياج، وبدا أن الزمام سيُفلت من بين أيدي المسلحين، أمسك إبراهيم اليوسف رشاشه الحربي، وأخذ يطلق النار بغزارة على تلاميذه الشبان الذين كان يفترض به أن يكون قدوة لهم في الإلتزام بتعالليم الشرف العسكري.. وتبعه المسلحون الآخرون في الفتك بالطلاب العزل.

ساد في المكان هرج كبير، وحاول الكثيرون أن يكسروا الأبواب للإفلات بأرواحهم، لكن الرصاص والقنابل كانت لهم بالمرصاد. وروى بعض الناجين من المجزرة كيف أن زميلهم الطالب الضابط أحمد زهيري قام بإمساك أول قنبلة رماها أحد المسلحين واحتضنها في صدره، محاولاً بذلك أن يفتدي زملاءه بروحه، وأن يحميهم من انفجارها فيهم؛ ولقد مزقته قنبلة الغدر أشلاء… ومن بعد أن اطمأنّ المسلحون إلى أن أسراهم سقطوا بين قتيل وجريح، أخذ إبراهيم اليوسف يجول على الشبان الذين ينازعون الموت، فيفرغ في صدورهم رصاصات مسدسه. ولم ينس القتلة أن يعلنوا على سبورة قاعة المذبحة أن «مجاهدي الطليعة المقاتلة» هم من قاموا بتلك العملية.. ثم خرج ابراهيم اليوسف يرافقه مصطفى قصار وماهر عطار وعادل دلال إلى ساحة المدرسة، فوجدوا المجند هوسيب مانوكيان الذي كان يحرس بوابة مستودع الذخيرة، فقاموا بقتله على الفور باعتباره «كافرا» هو الآخر. وحين احتج المجند عبد العزيز خليف على هذا السفك لدماء الأبرياء، قام إبراهيم اليوسف بتصويب الرشاش إليه وقتله (رغم علمه بأن خليف سني). وملأ إبراهيم اليوسف سيارة من نوع «زيل» بالبنادق والقنابل والذخيرة التي سرقها من مخزن السلاح في مدرسة المدفعية، قبل أن يلوذ مع عصابته بالفرار.

وصل أفراد المخابرات العسكرية السورية إلى مسرح الجريمة، فوجدوا مئات من الطلبة الضباط مضرجين في دمائهم. كان منظر الأشلاء والجثث المكومة مروّعا. وكانت عبارة «الطليعة المقاتلة» الموقّعة بطريقة استفزازية على سبورة القاعة المنكوبة، بمثابة إعلان حرب لم يكن النظام السوري يومها متهيئا لها، ولا راغبا فيها. ولم تمض سويعات حتى قبض على الطلبة عبد الراشد حسين وماني خلف ويحيى النجار، فأحيلو إلى المحكمة العسكرية بعد أن شهد زملاؤهم الناجون أنهم اشتركوا في الضلوع بالمذبحة. وتم إعدام القتلة في ساحة مدرسة المدفعية.

ثم حصل في تشرين الثاني 1979 أن ألقى الأمن العسكري القبض على حسني عابو قائد تنظيم الطليعة في حلب والمشترك في جريمة مدرسة المدفعية، فحوكم وأعدم. وفي الثالث من حزيران 1980 تمت تصفية قائد المجزرة إبراهيم اليوسف في شقة بحلب.

السبت، 6 يونيو 2015

تونس | المرزوقي و«النهضة»: أصدقاء الأمس أعداء اليوم

    يونيو 06, 2015   No comments
 مجدي الورفلي

يوم إعلان لجنة الانتخابات عن فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة، ألقى الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي خطاباً أمام المئات من مناصريه ــ الذين كانوا في غالبيتهم من قواعد «حركة النهضة» ــ وأكد قبوله نتائج الانتخابات برغم الإخلالات التي شهدتها. وأعلن في الخطاب ذاته تشكيل «حراك شعب المواطنين» الذي عرفّه آنذاك بأنه يمثّل الإطار «لمواصلة طريق الثورة ومقاومة منظومة الاستبداد التي عادت».
حينها لم تولِ «النهضة»، التي التزمت «الحياد» في الانتخابات الرئاسية، إهتماما كبيرا لهذا الحراك أو لقواعدها التي صوتت لحليفها القديم ضمن «الترويكا» الحاكمة حتى نهاية 2013، والتي كانت قد انبثقث عن انتخابات 2011، وضمت «النهضة» وحزب المنصف المرزوقي و»التكتل من أجل العمل والحريات».

ظلّ «حراك شعب المواطنين» الذي أعلنه المرزوقي مبهماً، ويشوبه الغموض. وغاب المرزوقي عن الساحة لفترة قبل أن يعقد في 25 نيسان الماضي مؤتمراً تحضيرياً لحراكه، ألقى خلاله خطابا محملا بالرسائل السياسية التي تستهدف قواعد «النهضة».
مثّل ذلك الخطاب إشارة خطر لـ»النهضة»، خصوصاً أنها بعد الانتخابات تحالفت مع عدوها السابق والعدو الأزلي لقواعدها، حزب الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، حركة «نداء تونس».

الهدف: قواعد «النهضة»

عكس خطاب المرزوقي خلال المؤتمر التحضيري تكتيكات سياسية جديدة، إذ كان يعلم جيداً أن هناك تململا في صفوف قواعد «النهضة» ومناصريها بسبب تحالف حركتهم مع «نداء تونس» وبسبب موقف رئيسها، راشد الغنوشي، بخصوص عدد من القضايا، والتي يرون أنها مهادنة وفيها استسلام لعدوهم «النداء»، وهو الأمر الذي مثّل خيبة أمل لدى فئات منهم بعدما هتفوا طويلاً على وقع خطابات قيادات «النهضة» ووعودها بعدم التراجع عن تحقيق العدالة الانتقالية، وبخاصة مبدأ المحاسبة.

كان تركيز المرزوقي على ما تطلبه قواعد «حركة النهضة»، وحاول إثارة حماستهم حين أكد أن «تونس ليست بحاجة للتطبيع مع النظام القديم خوفاً من قدرته على الإيذاء»، في تضاد تام مع مواقف وتصريحات، راشد الغنوشي، وخصوصاً تلك التي برّر فيها التنازلات المقدمة على أنها تجنّب البلاد الفوضى.
وذهب خطاب المرزوقي في أحد جوانبه إلى الدعوة لضرورة العودة لتعاليم الإسلام، وهو كلام أهدافه واضحة لجهة استهداف قواعد «النهضة»، ومن خلفها الحركة ككل.
عموماً، بعد ذلك الخطاب الذي أعلن خلاله المرزوقي أنّ «حراك شعب المواطنين» سيكون الإطار السياسي الذي سيعدّل موازين القوى المختلة في تونس، شعرت «النهضة»، ورئيسها، أن الحليف القديم يحاول سلبهما من القواعد، وخاصة أنه اتهم «النهضة» صراحة بعدم التقدم في محاربة الفساد خلال إمساكها بمقاليد السلطة في تونس وعبّر عن ندمه لعدم استقالته من حكومة «الترويكا».

استشعار الخطر

كان رد «النهضة» سريعاً بعد استشعارها الخطر الذي يمثله المرزوقي. القيادي في «الحركة»، لطفي زيتون، رأى حينها أن «حراك شعب المواطنين» لا يمثّل أي تهديد لحركته، معتبراً أنّ الدعم الانتخابي الذي حظي به الأخير من قواعد الحركة خلال الانتخابات الرئاسية جاء في ظرف تميّز بوجود بعض الخلافات الداخلية، موضحاً في الوقت نفسه أنّ الحركة باتت موحّدة خلف خط سياسي واضح وتصور يتمثل في تبنيها للخط التوافقي، أي فكرة أن البلاد تحتاج إلى مصالحة وطنية شاملة وتنازلات من كل الأطراف لطي صفحة الماضي والعبور بتونس إلى الاستقرار.
وتابع زيتون قائلاً «من المغالطة أن يقول محمد المنصف المرزوقي إنه ندم لعدم تقديم استقالته وهو يرى الفساد خلال حكم الترويكا، فالجميع يعلم أن حركة النهضة تخلت عن الحكم طواعية وهو من تشبث بالكرسي للحظات الأخيرة بل وأراد البقاء في السلطة لخمس سنوات أخرى».
أما عضو التنسيقية المركزية لـ»حراك شعب المواطنين» والمستشار السياسي للمرزوقي، عدنان منصر، فأكد أنه لا وجود لعلاقة بينهم وبين «النهضة»، بل يسود العلاقة نوع من البرود وغياب أي تواصل بين القيادات من الجانبين. وأوضح: «ليس المقصود برودة عدائية... ولكن هناك تواصل على مستوى القواعد»، مضيفاً أن «جزءا من القيادة العليا للحركة أدى دورا في بلوغ قائد السبسي الرئاسة، بما في ذلك راشد الغنوشي».

عاصفة البترول

انقضت الفترة الأولى من العلاقة المستجدة بين الطرفين، وعم هدوء سبق العاصفة التالية، التي تمثلت بحملة «أين البترول؟»، وهي حملة تطالب الحكومة بالشفافية وفتح ملف الطاقة في تونس. هذه الحملة التي ما زالت متواصلة، بدأت على صفحات التواصل الاجتماعي وتبنتها جمعيات قريبة من المرزوقي، الذي دعمها وتحولت إلى احتجاجات في الشارع، شاركت فيها قواعد «حركة النهضة» دون إذن القيادة المركزية.
مدير مكتب الغنوشي، زبير الشهودي، لم ينف مشاركة قواعد حزبه في التحركات الاحتجاجية، مبرراً ذلك ضمن نشاط هؤلاء في منظمات المجتمع المدني. وأكد أن موقف الحركة السياسي معروف وتضبطه القيادات وما على القواعد سوى الالتزام بالخط العام برغم أنه ليس من السهل ضبط القواعد الموسعة.

ضرب المرزوقي في مقتل

مشاركة فئات من قواعد «النهضة» في تحركات احتجاجية لم تدعُ لها قيادات حركتهم لا بل يحركها نسبياً الحليف السابق، المرزوقي، يبدو أنها تمثّل ناقوس خطر للحركة، لذا سارع رئيسها، راشد الغنوشي، أواخر الأسبوع الماضي، للتوجه إلى محافظتين في الجنوب التونسي (تطاوين ومدنين)، حيث كان قد حصد المرزوقي في الانتخابات الأخيرة نحو 80 في المئة من الأصوات.
عقد الغنوشي هناك اجتماعات مغلقة مع قواعد حركته. خلال تلك الاجتماعات شرّع الرجل المطالبات بالشفافية وفتح ملفات الطاقة في تونس، لكنه أكد أن من يقود هذه الحملة هم من الذين اقصاهم صندوق الانتخابات ــ في إشارة تبدو واضحة للمرزوقي ــ موجهاً التهم إليهم بإثارة الفوضى والركوب السياسي على الأحداث لتوظيفها واستغلالها لإرباك البلاد وافشال الانتقال الديموقراطي.
ويمكن اعتبار تصريحه، أول من أمس، أكثر حدة ووضوحاً بخصوص مشاركة قواعده في الاحتجاجات، حين قال إنّ «قواعدنا ليست ملكا لنا، ولكن موقفنا واضح بخصوص الحملة والتحركات وقرار المؤسسات هو الذي يقع اعتماده، ومن يخرج عنه من قواعدنا يجد نفسه... لن يتوصل لشيء».
وبرغم التزام المرزوقي الصمت، وكذلك القيادات المحيطة به، مقرّين فقط بدعمهم للحملة، لكن يبدو واضحاً أنّ «النهضة» ورئيسها واعون لفكرة أنّ الحملة تحمل في طياتها مناورة سياسية وتمثل حصان طروادة لاختراق القواعد الشعبية والانتخابية واستمالاتها، فكان موقف الغنوشي الواضح من الحملة وإشارته للمرزوقي ــ وإن بالتلميح ــ واتهامه بمحاولة إدخال البلاد في الفوضى، نهاية لعلاقة تحالف تخللها برود، وانتهت بعداء.

الخميس، 19 مارس 2015

هل سيراجع الإخوان المسلمون سياستهم المبنية على المذهبية والطائفية

    مارس 19, 2015   No comments
فيما يبدو تأكيدا لسياسة مبنية على المذهبية والطائفية, المراقب العام الجديد لإخوان سورية, محمد حكمت وليد, يؤكد: 

"مصلحتنا الاستراتيجية مع دول الخليج... وإذا انتكست سورية فلن يصدّ الطوفان الإيراني شيئ... الأمر الذي سيؤدّي ضمناً إلى غياب تنظيم الدولة هو إسقاط النظام السوري لأن التنظيم ليس سوى أداة وظيفية، ستنتهي حالما يسقط نظام الأسد."  إعتراف وليد بأن "التنظيم ليس سوى أداة وظيفية" يؤكد ما قيل عن الرئيس التركي رجب أردغان بأنه يصر على تقوية داعش من أجل إسقاط الأسد. إذا كان هذا منهج الإخوان فهل يعني أنهم إستعملوا وسيستعملون داعش في تونس كذلك؟ إذا سلمنا, جدلا, بفرضيتهم القائلة بأن داعش وجد في سوريا بسبب وجود الأسد فلماذا يوجد داعش في تونس والأمر أنه ليس فيها "أسدا"؟ وفي ليبيا الآن وليس فيها القذافي؟
_____________
نص الحوار:

* قال البعض في اختيارك لمنصب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بأنّه مفاجأة من منطلق غيابك عن صف الواجهة السياسية، فماذا تقول؟

- الأمر ليس دقيقاً. أنا عضو في الجماعة منذ سنوات، وكنت نائباً للمراقب العام للإخوان من قبل، وفي الفترة الأخيرة -منذ سنتين- استقلت من منصب نائب المراقب العام عندما تأسس حزب وعد "الحزب الوطني للعدالة والدستور".

وأقول لمن تفاجأ؛ أنا في قيادة الإخوان منذ عشر سنوات، وكنت عضواً في مجلس الشورى لعدّة دورات، فلم آتِ من المجهول.

* ألا تعتقد بأنّ وجودك الآن في منصب المراقب العام وأنت في محيط السبعين من العمر، تغييب لدور الشباب في الجماعة؟

- قد يكون المراقب العام من الأشخاص المتقدّمين في السن، ولكن إذا نظرت إلى مكاتب الإدارة وبقيّة المكاتب الأخرى لجماعة الإخوان، سواء في اسطنبول أو أيّ مكان آخر، تجد أنّ جيل الشباب هم الأكثر حضوراً، ونحن في المرحلة المقبلة -الأربع سنوات المقبلة- سيكون من المعالم الرئيسة لتلك المرحلة وجود دور محوري للشباب، لأنّنا نعتقد أنّ الشباب بحيّويته ونشاطه واطّلاعه على تطورات العصر أصبح أكثر قدرة على القيادة.

ودعني أقول لك في هذا الأمر، إنّه بعد انتخابي بنصف ساعة كمراقب عام، كان أول قرار اتّخذته تعيين الشاب حسام الغضبان نائباً للمراقب العام، فهل هناك أكثر دلالة من ذلك على إيماننا بدور الشباب.

* أنت شخصياً، مقتنع بفسح المجال للجيل الشاب من الإخوان؟

- نعم بالفعل، فهناك شعور لدى الشباب أنّهم لم يحصلوا على دورهم من تسلّم المناصب القيادية حتى بدأ بعضهم بالتململ، والآن أعتقد أنّ الشباب بدؤوا يأخذون دورهم، ونأمل في المرحلة المقبلة أن يكون هناك تحوّل تدريجي ليكون الشباب في جيل القيادة.

* ظهر حزب "وعد" بخلطته "النوعية" وسط فراغ لمثل هذا النوع من الأحزاب، لكن سرعان ما خفت نجمه. ماذا حدث وأين هو الآن؟

- بالنسبة لحزب "وعد"، هو حزب يعمل على أرض الواقع، قد يمكن القول إنّه لم ينمُ بالشكل المأمول، لكن هناك مقرّ له في غازي عينتاب وله نشاطات أسبوعية، وهناك من ينتسب للحزب بشكل فاعل ويومي.

* هناك من "تهكّم" على الحزب، وقالوا إنّه حزب "أردوغاني" على طريقة حزب العدالة والتنمية، من أجل أن يتموضع الإخوان في كلّ تشكيل سياسي سوري؟

- دعنا نخرج من قصة الاستحواذ والهيمنة، الأمور تغيّرت في سورية وكذلك التفكير. نحن أمام تحدٍّ كبير بعد الثورة، التغيير في سورية تغيير سيقلب موازين المنطقة، وإذا انتصرت الثورة السورية -وهي منتصرة بإذن الله- سيكون هناك حسابات مختلفة في المنطقة، وإذا لم تنتصر -لا سمح الله- سيكون هناك حساب آخر.

نحن نرى أنّ القضيّة السورية أكبر من أيّ جماعة أو حزب أو تكتل، وبالتالي نحن بحاجة حقيقية إلى أن يتكتّل كلّ أعراق ومذاهب وأديان الشعب السوري، ومن هنا جاءت فكرة "وعد"، أن يعمل الكلّ مع بعض من أجل سورية. "وعد" حزب موجّه للشريحة الوسط في الشعب السوري، في "وعد" لا نريد أيّ تطرّف علماني أم إسلامي. لا نريد مقولة "الدين أفيون الشعوب"، ولا نريد مقولة "الديمقراطية كفر". حتى العلمانية التي ليس لديها مشاكل مع الدين ليس لدينا معها مشكلة.

* لماذا غادرت رئاسة الحزب؟

- لأنّني أعتقد أنّه لا يمكن الجمع بين منصب قيادي في الحزب ومنصب قيادي أيضاً في جماعة الإخوان المسلمين. قد يكون الأمر مقبولا في حال كنت عضواً، أمّا أن أكون قيادياً في موقعين متباعدين فذلك خلل في الإدارة، فبعد اختياري مراقباً عامّاً لجماعة الإخوان المسلمين قدّمت استقالتي من رئاسة الحزب وقبلت هذه الاستقالة.

* ما قلته كلام جميل ومتّزن يصدر عن المراقب العام للإخوان، لكن أنا متأكّد من أنّ كلّ من يقرأ هذا الكلام سيقول إنّ الواقع عكس ذلك، فالإخوان يسيطرون على الائتلاف وعلى الحكومة، ومنهمكون في التحالفات والتكتلات؟

- هل تعلم أنّ عدد الإخوان في الائتلاف اليوم أربعة أعضاء. هل يعقل لأربعة أعضاء أن يسيطروا على ما يقارب 114 عضواً من كلّ التيارات والأحزاب والقوى، وعددهم في الهيئة السياسية واحد وهو حسان الهاشمي. كيف لهم أن يسيطروا؟ هذا تهويل لا أكثر.

* ثمة سؤال يعتبر اختباراً لانحياز الإخوان الحزبي على المصلحة الوطنية، أيّهما أكثر أهمية "الإخواني" في إندونيسيا، أم المسيحي في أقصى الشرق السوري؟

- هذه مقولة ناصرية عروبية شهيرة، تقول إنّ العربي المسيحي أقل من الباكستاني المسلم. ونحن نقول إنّ هناك دوائر للانتماء والعلاقات، الإخوان المسلمون هم "مسلمون وعرب وسوريون". هناك دائرة إسلامية تجمع كل المسلمين في العالم وهذا أمر يؤمن به الإخوان، ووفقاً لذلك فإنّ المسلم الإندونيسي والأمريكي قريبان من المسلم السوري. وهناك دائرة أخرى وهي العروبة ونحن عرب لكن بدون تعصّب، أي ليس على حساب أيّ قومية أخرى. وهناك الدائرة الثالثة وهي الدائرة السورية، وتعلم أنّ سورية يعيش فيها موزاييك عرقي ومذهبي وديني، ونحن في النهاية تجمعنا مع المسلم العقيدة ومع العربي تجمعنا القومية، فهناك مشترك بين العربي المسيحي والعربي المسلم وهو عامل العروبة، ونعمل على هذا العامل الذي نرى أنّه قاسم مشترك كبير . ومع السوري تجمعنا الجغرافيا، لذلك نحن نتعايش مع الجميع، وإظهار الأمر على أنّه تناقض غير صحيح. هناك عوامل مشتركة يجب أن نلتقي على أسسها.

* هل يمكن أن تكونوا ضمانة لأمن الأقليات في سورية؟

- نحن الضمانة الحقيقية. هل الإخوان رفضوا التعايش عبر التاريخ السوري مع الأقليات؟!

* لكن بصراحة، دعني أقول لك إنّ الكلّ يتصوّر أنّ مشكلة الإخوان مع العلويين. فكيف تكونون الضمانة؟

- لعل هذه الصورة تمّ تسويقها بعد أحداث الثمانينات في حماة، وهذا كان له ظروفه الخاصة. أنا من اللاذقية وخلال دراستي الابتدائية والثانوية لم نعرف التمييز الطائفي.

* ربما لأنك من اللاذقية ولست من حماة؟

- أنت لا تطلب من الشخص الذي دمّرت أرضه وقتل أبوه وشنق عمه وذووه أن يفكّر بشكل متوازن وسليم وكأنّ شيئاً لم يحدث؟ دائماً الحوادث الاستثنائية لها فكر استثنائي،والفكر السائد في الثمانينات هو فكر أزمة، والإخوان تجاوزوا ذلك الفكر. الفكر الأصلي هو الفكر الذي أسسه مصطفى السباعي.

والجماعة في المشروع السياسي للإخوان المسلمين، الذي أصدروه في العام 2004 كانت لهم عودة لفكر السباعي وإعادة تأصيل له وزيادة عليه وتطويره.

* في إحدى الحوارات مع المراقب العام السابق للإخوان، قال إنّ الإخوان ليس لديهم مشكلة في أن يتسلّم الحكم في سورية شخص علوي؟

- نحن في جماعة الإخوان المسلمين نقبل كلّ ما يحتكم إليه الشعب السوري بدون إكراه، وما بين الشعب السوري صناديق الاقتراع النزيهة والحرة. إذا مجمل الشعب السوري اختار رئيساً مسيحياً أو علوياً أو أيّاً كان دينه ومذهبه، فنحن مع هذا الاختيار.

* في مطلع الحوار عوّلت على انتصار الثورة السورية.. كيف تعوّل على هذا النصر وتنظيم "الدولة" وغيره اختطف الثورة، وذابت شخصية الجيش الحر في قوى التطرف. أيّ نصر تتوقعه في ظل التراجع الدولي، وتمزيق المجتمع السوري؟

- "الدولة" وأمثاله حالة طارئة في الأرض السورية فكراً ووظيفة وهي أداة وظيفية. سوف تنتهي حالما يسقط نظام الأسد. بعض المناطق التي يسيطر عليها "الدولة" لجؤوا إلى التنظيم بالتخويف والتحكم بلقمة العيش.

التنظيم اليوم يلعب على التناقضات ما بين نظام الأسد والآخرين، إنّ تصوير الوضع في سورية على أنّه حرب ضد الإرهاب هو خيانة للثورة السورية ولتضحيات الشعب السوري على مدار أربعة أعوام. مازال الكثيرون –ونحن منهم- نرى أنّ العدو الأول للشعب السوري هو النظام.

وهنا نقول إنّ أساس حلّ المشكلة في سورية هي إسقاط ذلك النظام، وحقيقة النظام في كل يوم يضعف وفي النهاية لا يمكن أن يستمر. وغياب هذا النظام بالضرورة غياب لتنظيم "الدولة"، لأنّ الأخير كائن غريب على الشعب السوري وعلى المنطقة بفكرها وسلوكها.

* هل أنتم مع الحرب ضد تنظيم "الدولة"؟

- نحن نختلف مع التنظيم في عدة أمور، الأمر الأول هو الفكر التكفيري المتطرف، "الإخوان المسلمون ليسوا قضاة وإنما دعاة". الأمر الآخر ما حصل حقيقة على أرض الواقع، تمّ حرف مسار الثورة وحرف المسار من حرب النظام إلى حرب الإرهاب، وهذا ما كان ينادي به النظام منذ اللحظة الأولى، وحقّقه التنظيم. نحن ضدّ الإرهاب بكلّ تأكيد، لكن الأولوية لإسقاط الأسد. وحرف مسار الثورة السورية والتركيز على الإرهاب لم يأتِ من فراغ، وإنّما ضمن صفقة بين الغرب وإيران حول النووي وبقاء بشار الأسد إحدى الجزرات الغربية لإيران مقابل التخلي عن البرنامج النووي. وكذلك السكوت عن كل الميليشيات الإرهابية التابعة لإيران في سورية، منها ميليشيا "حزب الله" وغيرها من الميليشيات الإيرانية والعراقية الطائفية، مع الأسف صفقة غير أخلاقية، كما هي الصفقة الأمريكية مع الأسد عندما أخذت السلاح الكيماوي مقابل أن يبقى المجرم طليقا.

* من المستفيد من هذه الصفقات؟

- المستفيد الأوّل "إسرائيل"، لحمايتها من أيّ تهديد، والذي يدفع الثمن الشعب السوري واليمني والعراقي، بتواطؤ إيراني غربي.

* أريد جواباً واضحاً، هل ستدخلون في محاربة تنظيم "الدولة" لو طلب منكم ذلك في إطار عملية إزالة النظام؟

- نحن نختلف فكرياً وعقدياً، والطريق إلى ذلك هو الحوار، لم تكن الحرب حلاً لأيّ قضية فكرية.

* لكن تعلم أنّ هذا التنظيم لا وقت لديه ولا رغبة في الحوار؟

- إذا هوجمنا سندافع عن أنفسنا.

* هناك أفكار لحلّ الأزمة السورية بتشكيل حكومة مشتركة، بوجود مرحلة انتقالية يرأسها بشار الأسد. ما رأيكم؟

- هذا السيناريو ما تسعي إليه موسكو الآن، وأعتقد أنّ ذلك التصور يعمل على إطالة أمد بشار الأسد وتعويمه بعد أن كان غارقاً. نحن لا نتصوّر أن يستمر ذلك المجرم بشار الأسد في حكم الشعب السوري، تلك الكمّية من الإجرام والأحقاد التي أظهرها تجاه شعبه خلقت الهوة الكبيرة بينه وبين الشعب، وأيّ محاولة دولية لإبقاء الأسد مرفوضة.

* دائماً ما نسمع أنّ إخوان سورية يختلفون عن إخوان مصر . كيف؟

- نحن امتداد أو أحد فروع الإخوان الرئيسة في العالم. الفكرة الرئيسية للإخوان واحدة لكن هناك تفاصيل متعلقة بالظروف السياسية والاجتماعية بكل بلد. تلك التفاصيل قد تكون مختلفة من مكان إلى آخر.

الإخوان السوريون قاموا بمراجعات فكرية، ولعلّ أقرب الإخوان الذين قاموا بمراجعات مماثلة ونحن سرنا على خطاهم؛ هم إخوان تونس، وهذه المراجعات نعود بها للشيخ يوسف القرضاوي الذي قام بتأصيل شرعي لهذه المراجعات، خاصّة فيما يتعلق بالديمقراطية والأقلّيات ودار الحرب ودار الإسلام ومفهوم الردّة والتكفير، والإخوان المسلمون السوريون أخذوا بتلك المراجعات، وهذا ما يميز الإخوان المسلمون السوريون عن غيرهم.

* أحدث الإخوان تصدّعاً في البيئة الخليجية. الآن ما هو نهجكم حيال دول الخليج؟

- هناك أربع رسائل ممكن أن توجه للخليج:

الرسالة الأولى، أنّ الإخوان ليسوا ضد أيّ دولة خليجية لا في الماضي ولا في الحاضر. على العكس نحن نرى أنّ دول الخليج احتضنت الإخوان وقت الشدّة منذ دور جمال عبدالناصر إلى أيام الثمانينات في سورية.

الرسالة الثانية، نقول إنّ موقف الخليج خصوصاً السعودية وقطر من القضية السورية موقف مشرف، ونحن نشكرهم على مواقفهم من قلوبنا، لقد قدّموا للثورة السورية ما لم يقدّمه الآخرون.

الرسالة الثالثة، أنّ أمن الخليج من أمن سورية، وأقول لو انتصرت الثورة السورية، فسوف تكون سورية مصداً للطوفان القادم من إيران، وإذا انتكست سورية -لا سمح الله- لن يكون هناك أيّ مصدّ للطوفان الإيراني القادم، لذلك نعتبر أن المصالح المشتركة بين الإخوان والخليج مصلحة مشتركة واستراتيجية.

والأمر الرابع، نتمنّى على دول الخليج عموماً وعلى إخواننا في السعودية خصوصاً أن تراجع موقفها من قضية الإخوان والإرهاب.

* الائتلاف الآن في حالة أكثر طمأنينة من قبل. عموماً ما هو تقييمكم لأداء الائتلاف؟

- الائتلاف بحاجة إلى إصلاح حقيقي، فهناك الكثير من العيوب والتجاذبات، وأنا أعلم أنّ الدكتور خالد خوجة لديه نيّة للإصلاح بشكل مهني، وحقيقة أتوسّم به خيراً، فهو يمتلك الرؤية والحيوية للإصلاح، علماً أنّ الأمر ليس سهلاً على الإطلاق.

أمّا أداء الائتلاف، فهو حتى هذه اللحظة غير مجدٍ، فهناك الكثير من التجاذبات السياسية هو بغنى عنها، وعلى أعضاء الائتلاف أن يعلموا أنّهم في مهمة تاريخية لنصرة الثورة السورية.

* هل لديكم مقترحات أو رؤيا لتقديمها من أجل الإصلاح؟

- نحن دائماً ننصح كل المشاركين في الائتلاف أن يكونوا مدعاة للإصلاح وألا يكونوا حزبيين وتابعين لتكتلات.

* هناك لغط وجدل طويل حول أحد الشخصيات المحسوبة على الإخوان، وهو نذير الحكيم، فهو يمتلك أكثر من ثمانية مناصب وكثير من أعضاء الائتلاف شكى سلوكه غير المنسجم مع سلوك الإخوان، فما هو ردّكم؟

- ليس لديّ المعلومات الكافية للتعليق على السؤال. وقد يكون اللغط كثيراً أو قليلاً حول بعض الشخصيات العامّة، ولا يمكن الحكم بفساد أي شخص مالم يثبت ذلك من خلال جهات قضائية نزيهة.

* ما هي أولوية الدكتور محمد حكمت وهو المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين؟

- أولويتنا كجماعة تعميق التواصل مع الداخل السوري، والالتحام مع قضيّة شعبنا وثورتنا بشكل أكثر فاعلية.

* أخيراً. كيف يكون الانتساب لجماعة الإخوان؟

- كل مسلم يؤمن بمبادئ الإخوان والفكر الوسطي المعتدل يستطيع الانتساب، ولكن هذا العضو يمر بمراحل. نحن جماعة دعوية، نسعى ونريد الخير للآخرين.
______

السبت، 21 فبراير 2015

نصائح وتوجيهات للمقاتلين في ساحات الجهاد

    فبراير 21, 2015   No comments
إصدار مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين .

أمّا بعد : فليعلم المقاتلون الأعزّة الذين وفّقهم الله عزّ وجلّ للحضور في ساحات الجهاد وجبهات القتال مع المعتدين:

   1 ـ أنّ الله سبحانه وتعالى ـ كما ندب الى الجهاد ودعا إليه وجعله دعامةً من دعائم الدين وفضّل المجاهدين على القاعدين ــ فإنّه عزّ اسمه جعل له حدوداً وآداباً أوجبتها الحكمة واقتضتها الفطرة، يلزم تفقهها ومراعاتها، فمن رعاها حق رعايتها أوجب له ما قدّره من فضله وسنّه من بركاته، ومن أخلّ بها أحبط من أجره ولم يبلغ به أمله .

   2 ـ فللجهاد آدابٌ عامّة لابدّ من مراعاتها حتى مع غير المسلمين، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله ) يوصي بها أصحابه قبل أن يبعثهم إلى القتال ، فقد صـحّ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : ( كان رسول الله – صلّى الله عليه وآله ــ إذا أراد أن يبعث بسريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها).

   3 ـ كما أنّ للقتال مع البغاة والمحاربين من المسلمين واضرابهم أخلاقاً  وآداباً  أُثرت عن الإمام علي ( عليه السلام ) في مثل هذه المواقف ، مما جرت عليه سـيرته وأوصى به أصحابه في خطـبه وأقواله، وقد أجمعت الأمّة على الأخذ بها وجعلتها حجّة فيما بينها وبين ربّها ، فعليكم بالتأسي به والأخذ بمنهجه، وقد قال(عليه السلام) في بعض كلامه مؤكّداً لما ورد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ـ في حديث الثقـلين والغدير وغيرهما ــ : (انظروا إلى أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لَبدُوا فالبدُوا ([1])، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا ).

   4 ـ فالله الله في النفوس، فلا يُستحلّن التعرّض لها بغير ما أحلّه الله تعالى في حال من الاحوال، فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها وإحيائها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وإنّ لقتل النفس البريئة آثاراً خطيرة في هذه الحياة وما بعدها ، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شدّة احتياطه في حروبه في هــذا الأمر ، وقد قـال في عهـده لمالك الأشـتر ــ وقد عُلِمت مكانتـُه عنده ومنزلـتُه لديه ــ (إيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها فإنّه ليس شيء ادعى لنقمة واعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها والله سبحانه مبتدأ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة ، فلا تقويّن سلطانك بسفك دم حرام ، فإنّ ذلك مما يضعفه ويوهنه ، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لانّ فيه قود البدن).

   فإن وجدتم حالة مشتبهة تخشون فيها المكيدة بكم ، فقدّموا التحذير بالقول أو بالرمي الذي لا يصيب الهدف أو لا يؤدّي إلى الهلاك، معذرةً إلى ربّكم واحتياطاً على النفوس البريئة.

   5 ـ الله الله في حرمات عامّة الناس ممن لم يقاتلوكم، لاسيّما المستضعفين من الشيوخ والولدان والنساء، حتّى إذا كانوا من ذوي المقاتلين لكم ، فإنّه لا تحلّ حرمات من قاتلوا غير ما كان معهم من أموالهم.

   وقد كان من سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه كان ينهى عن التعرّض لبيوت أهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم إصرار بعض من كان معه ـــ خاصّة من الخوارج ــ على استباحتها وكان يقول : ( حارَبنا الرجال فحاربناهم ، فأمّا النساء والذراري فلا سبيل لنا عليهم لأنهن مسلمات وفي دار هجرة ، فليس لكم عليهن سبيل، فأمّا ما أجلبوا عليكم واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم ، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله تعالى لذراريهم ، وليس لكم عليهنّ ولا على الذراري من سبيل).

   6 ـ الله الله في اتهام الناس في دينهم نكاية بهم واستباحة ً لحرماتهم ، كما وقع فيه الخوارج في العصر الأول وتبعه في هذا العصر قوم من غير أهل الفقه في الدين، تأثراً بمزاجياتهم وأهوائهم وبرّروه ببعض النصوص التي تشابهت عليهم، فعظم ابتلاء المسلمين بهم.

   واعلموا إنّ من شهد الشهادتين كان مسلماً يُعصم دمُه ومالُه وإن وقع في بعض الضلالة وارتكب بعض البدعة، فما كلّ ضلالة بالتي توجب الكفر، ولا كلّ بدعة تؤدي إلى نفي صفة الاسلام عن صاحبها،  وربما استوجب المرء القتل بفساد أو قصاص وكان مسلماً .

   وقد قال الله سبحانه مخاطباً المجاهدين : (يا أيّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا). واستفاضت الآثار عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نهيه عن تكفير عامّة أهل حربه ـ كما كان يميل إليه طلائع الخوارج في معسكره ــ بل كان يقول انهم قوم وقعوا في الشبهة، وإن لم يبرّر ذلك صنيعهم ولم يصح عُذراً لهم في قبيح فعالهم ، ففي الأثر المعتبر عن الامام الصادق عن ابيه (عليهما السلام): (أنّ علياً (عليه السلام) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: هم اخواننا بغوا علينا )، (وكان يقول لأهل حربه: إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على التكفير لنا).

   7 ـ وإياكم والتعرّض لغير المسلمين أيّاً كان دينه ومذهبه فإنّهم في كنف المسلمين وأمانهم، فمن تعرّض لحرماتهم كان خائناً غادراً، وإنّ الخيانة والغدر لهي أقبح الأفعال في قضاء الفطرة ودين الله سبحانه، وقد قال عزّ وجلّ في كتابه عن غير المسلمين ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم إنّ الله يحب المقسطين ). بل لا ينبغي ان يسمح المسلمُ بانتهاك حرُمات غير المسلمين ممّن هم في رعاية المسلمين، بل عليه أن تكون له من الغيرة عليهم مثل ما يكون له على أهله، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام ) أنه لما بعث معاوية (سفيان بن عوف من بني غامد) لشن الغارات على أطراف العراق ـ تهويلاً على أهله ـ فأصاب أهل الأنبار من المسلمين وغيرهم، اغتمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) من ذلك غمّاً شديداً ، وقال في خطبةٍ له: ( وهذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقـُلَبها ([2]) وقلائدها ورعاثها ([3])، ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام ، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا أريق لهم دم، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً ).

   8 ـ الله الله في أموال الناس، فإنه لا يحل مال امرئ مسلم لغيره إلاّ بطيب نفسه ، فمن استولى على مال غيـره غصـباً فإنّما حاز قطـعة من قطـع النيران، وقد قال الله سبحانه : (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً). وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) إنه قال: (من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويردّ المال الذي أخذه إلى صاحبه).

   وجاء في سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه نهي أن يُستحّل من أموال من حاربه إلاّ ما وجد معهم وفي عسكرهم ، ومن أقام الحجّة على أن ما وجد معهم فهو من ماله أعطى المال إيّاه، ففي الحديث عن مروان بن الحكم قال : (لمّا هَزَمنا عليٌ  بالبصرة ردّ على الناس أموالهم من أقام بيّنة أعطاه ومن لم يقم بنيّة أحلفه).

   9 ـ الله الله في الحرمات كلّها، فإيّاكم والتعرّض لها أو انتهاك شيء منها بلسان أو يد ، واحذروا أخذ امرئ بذنب غيره، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، ولا تأخذوا بالظنّة وتشبهوه على أنفسكم بالحزم ، فإنّ الحزم احتياط المرء في أمره، والظنة اعتداء على الغير بغير حجّة، ولا يحملّنكم بغض من تكرهونه على تجاوز حرماته كما قال الله سبحانه: ( ولا يجرمنّكم شنآن قوم ٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) .

   وقد جاء عـن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال في خطبة له في وقعة صفّين في جملة وصاياه : ( ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رجال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة بأذىً وان شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم )، وقد ورد أنه (عليه السلام) في حرب الجمل ـــ وقد انتهت ــ وصل إلى دار عظيمة فاستفتح ففُتحت له، فإذا هو بنساءٍ يبكين بفناء الدار، فلمّا نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبّة، فلم يقل شيئاً، وقال بعد ذلك لبعض من كان معه مشيراً إلى حجرات كان فيها بعض رؤوس من حاربه وحرّض عليه كمروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير: (لو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة).

  كما ورد أنه (عليه السلام) قال في كلام له وقد سمع قوماً من أصحابه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفين: (اني أكره لكم ان تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم ( اللهم احقن دماءنا ودمائهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ من جهله  ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به) فقالوا له يا أمير المؤمنين: نقبل عِظتك ونتأدّب بأدبك.

   10 ـ ولا تمنعوا قوماً من حقوقهم وإن أبغضوكم ما لم يقاتلوكم، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه جعل لأهل الخلاف عليه  ما لسـائر المسـلمين ما لم يحـاربوه، ولم يبدأهم بالحرب حتّى يكونوا هم المبتدئين بالاعتداء ، فمن ذلك أنّه كان يخطب ذات مرّة بالكوفة فقام بعض الخوارج وأكثروا عليه بقولهم ( لا حكم إلاّ لله ) فقال : (كلمة حقّ يراد بها باطل ، لكم عندنا ثلاث خصال : لا نمنعكم مساجد الله ان تصلّوا فيها ، ولا نمنعكم الفيء ما كانت ايديكم مع أيدينا ، ولا نبدأكم بحربٍ حتى تبدؤونا به).

   11 ـ واعلموا أنّ أكثر من يقاتلكم إنّما وقع في الشبهة بتضليل آخرين ، فلا تعينوا هؤلاء المضلّين بما يوجب قوّة الشبهة في أذهان الناس حتّى ينقلبوا أنصاراً لهم، بل ادرؤوها بحسن تصرّفكم ونصحكم واخذكم بالعدل والصفح في موضعه، وتجنب الظلم والإساءة والعدوان، فإنّ من درأ شبهة عن ذهن امرئ فكأنّه أحياه ، ومن أوقع امرئ في شبهة من غير عذر فكأنه قتله.

   ولقد كان من سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عنايتهم برفع الشبهة عمّن يقاتلهم، حتّى إذا لم تُرج الاستجابة منهم، معذرة منهم إلى الله، وتربيةً للأمة ورعايةً لعواقب الأمور، ودفعاً للضغائن لاسيّما من الأجيال اللاحقة، وقد جاء في بعض الحديث عن الصادق (عليه السلام) أنّ الامام عليّاً (عليه السلام) في يوم البصرة لما صلا الخيول قال لأصحابه : ( لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم ، فقام اليهم، فقال: يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جورة في الحكم؟  قالوا : لا ، قال : فحيفاً في قسم ؟ قالوا: لا . قال: فرغبة في دنيا أصبتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي ؟  قالوا: لا ، قال فاقمت  فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا ). وعلى مثل ذلك جرى الإمام الحسين ( عليه السلام ) في وقعة كربلاء، فكان معنيّاً بتوضيح الأمور ورفع الشبهات حتّى يحيا من حيّ عن بينّة ويهلك من هلك عن بيّنة، بل لا تجوز محاربة قوم في الإسلام أيّاً كانوا من دون إتمام الحجّة عليهم ورفع شبهة التعسّف والحيف بما أمكن من أذهانهم كما أكّدت على ذلك نصوص الكتاب والسنة .

   12 ـ ولا يظنّن أحدٌ أن في الجور علاجاً لما لا يتعالج بالعدل، فإنّ ذلك ينشأُ عن ملاحظة بعض الوقائع بنظرة عاجلة إليها من غير انتباه إلى عواقب الأمور ونتائجها في المدى المتوسط والبعيد، ولا إطّلاع على سنن الحياة وتاريخ الأمم ، حيث ينبّه ذلك على عظيم ما يخلفه الظلم من شحنٍ للنفوس ومشاعر العداء مما يهدّ المجتمع هدّاً، وقد ورد في الأثر: (أنّ من ضاق به العدل فإنّ الظلم به أضيق)، وفي أحداث التاريخ المعاصر عبرةٌ للمتأمل فيها ، حيث نهج بعض الحكّام ظلم الناس تثبيتاً لدعائم ملكهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس ، فأتاهم الله سبحانه من حيث لم يحتسبوا حتّى كأنّهم أزالوا ملكهم بأيديهم .

   13 ـ ولئن كان في بعض التثبّت وضبط النفس وإتمام الحجّة ــ رعاية للموازين والقيم النبيلة ــ بعض الخسارة العاجلة أحياناً فإنّه أكثر بركة وأحمد عاقبة وأرجى نتاجاً، وفي سيرة الأئمة من آل البيت ( عليهم السلام ) أمثلة كثيرة من هذا المعنى، حتّى أنهم كانوا لا يبدؤون أهل حربهم بالقتال حتى يبدؤوا هم بالقتال وإن أصابوا بعض أصحابهم ، ففي الحديث أنه لما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : (لا يبدأ أحدٌ منكم بقتالٍ حتّى آمركم) ، قال بعض أصحابه: فرموا فينا، فقلنا يا أمير المؤمنين: قد رُمينا ، فقال: (كفّوا) ، ثم رمونا فقتلوا منّا ، قلنا يا أمير المؤمنين : قد قتلونا، فقال : (احملوا على بركة الله)، وكذلك فعل الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء.

   14 ـ وكونوا لمن قِبَلكم من الناس حماة ناصحين حتى يأمنوا جانبكم ويعينوكم على عدوّكم ، بل أعينوا ضعفاءهم ما استطعتم، فإنّهم إخوانكم وأهاليكم، واشفقوا عليهم فيما تشفقون في مثله على ذويكم، واعلموا أنّكم بعين الله سبحانه، يحصي أفعالكم ويعلم نياتكم ويختبر احوالكم.

   15 ـ ولا يفوتنكم الاهتمام بصلواتكم المفروضة، فما وفد امرئٌ على الله سبحانه بعمل يكون خيراً من الصلاة، وإنّ الصلاة لهي الأدب الذي يتأدّب الانسان مع خالقه والتحية التي يؤديها تجاهه، وهي دعامة الدين ومناط قبول الأعمال، وقد خففها الله سبحانه بحسب مقتضيات الخوف والقتال، حتى قد يكتفى في حال الانشغال في طول الوقت بالقتال بالتكـبيرة عن كل ركـعة ولو لم يكن المرء مسـتقبلاً للقبلة كما قال عزّ من قائل : (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ، فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً ، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون ).

    على أنه سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولا يجتمعوا للصلاة جميعاً بل يتناوبوا فيها حيطةً لهم. وقد ورد في سيرة أمير المؤمنين وصيته بالصلاة لأصحابه، وفي الخبر المعتبر عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة: (يصلّي كل إنسان منهم بالإيماء حيث كان وجهه وإن كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال ، فإنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) صلى ليلة صفّين ـ وهي ليلة الهرير ـ لم تكن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ عند وقت كل صلاة ـ إلاّ التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، فكانت تلك صلاتهم، لم يأمرهم بإعادة الصلاة).

   16 ـ واستعينوا على أنفسكم بكثرة ذكر الله سبحانه وتلاوة كتابه واذكروا لقاءكم به ومنقلبكم اليه، كما كان عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد ورد انه بلغ من محافظته على وِرده أنه يُبسط له نطعٌ بين الصفين ليلة الهرير فيصلّي عليه وِرده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً  فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.

   17 ـ واحرصوا أعانكم الله على أن تعملوا بخُلُق النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) مع الآخرين في الحرب والسلم جميعاً، حتّى تكونوا للإسلام زيناً ولقيمه مَثَلاً ،فإنّ هذا الدين بُنِيَ على ضياء الفطرة وشهادة العقل ورجاحة الأخلاق ، ويكفي منبّهاً على ذلك أنه رفع راية التعقل والأخلاق الفاضلة، فهو يرتكز في أصوله على الدعوة إلى التأمل والتفكير في أبعاد هذه الحياة وآفاقها ثم الاعتبار بها والعمل بموجبها كما يرتكز في نظامه التشريعي على إثارة دفائن العقول وقواعد الفطرة ، قال الله تعالى: (ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها) وقال أمير المؤمنين (ع): ( فبعث ـ الله ـ فيهم رسله وواتر انبياءه اليهم ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّرهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول)، ولو تفقّه أهل الإسلام وعملوا بتعاليمه لظهرت لهم البركات وعمّ ضياؤها في الآفاق، وإياكم والتشبّث ببعض ما تشابه من الاحداث والنصوص فإنّها لو ردّت إلى الذين يستنبطونه من أهل العلم ــ كما أمر الله سبحانه ــ لعلموا سبيلها ومغزاها.

   18 ـ وإيّاكم والتسرّع في مواقع الحذر فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، فإنّ أكثر ما يراهن عليه عدوّكم هو استرسالكم في مواقع الحذر بغير تروٍّ واندفاعكم من غير تحوّط ومهنيّة، واهتموا بتنظيم صفوفكم والتنسيق بين خطواتكم ، ولا تتعجّلوا في خطوة ٍ قبل إنضاجها وإحكامها وتوفير ادواتها و مقتضياتها وضمان الثبات عليها والتمسك بنتائجها، قال سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا) ، وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) ، وكونوا أشدّاء فوق ما تجدونه من أعدائكم فإنكم أولى بالحق منهم ، وإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون، اللهم إلا رجاءً مدخولاً وأماني كاذبة واوهاماً زائفة كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حجبتهم الشبهات بظلمـائها وعميت بصائرهم بأوهامها .

   19 ـ هذا وينبغي لمن قِبَلكم من الناس ممّن يتترس بهم عدوّكم أن يكونوا ناصحين لحماتهم يقدّرون تضحياتهم ويبعدون الأذى عنهم ولا يثيرون الظنة بأنفسهم ، فإنّ الله سبحانه لم يجعل لأحد ٍ على آخر حقّاً إلاّ وجعل لذاك عليه حقّاً مثله ، فلكلّ ٍ مثل ما عليه بالمعروف.

   واعلموا أنكم لا تجدون أنصح من بعضكم لبعض إذا تصافيتم واجتمعتم فيما بينكم بالمعروف حتى وان اقتضى الصفح والتجاوز عن بعض الأخطاء بل الخطايا وإن كانت جليلة ، فمن ظّن غريباً أنصح له من أهله وعشيرته وأهل بلده ووالاه من دونهم فقد توهّم، ومن جرّب من الأمور ما جُرّبت من قبل أوجبت له الندامة. وليعلم أن البادئ بالصفح له من الاجر مع أجر صفحه أجر كل ما يتبعه من صفح وخير وسداد، ولن يضيع ذلك عند الله سبحانه، بل يوفيه إيّاه عند الحاجة إليه في ظلمات البرزخ وعرصات القيامة. ومن أعان حامياً من حماة المسلمين أو خلفه في أهله وأعانه على أمر عائلته كان له من الأجر مثل أجر من جاهد.

   20 ـ وعلى الجميع أن يدعوا العصبيات الذميمة ويتمسّكوا بمكارم الأخلاق، فإنّ الله جعل الناس أقواماً وشعوباً ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع ويكون بعضهم عوناً للبعض الآخر, فلا تغلبنّكم الأفكار الضيقة والانانيات الشخصيّة، وقد علمتم ما حلّ بكم وبعامّة المسلمين في سائر بلادهم حتّى أصبحت طاقاتهم وقواهم وأموالهم وثرواتهم تُهدر في ضرب بعضهم لبعض، بدلاً من استثمارها في مجال تطوير العلوم واستنماء النعم وصلاح أحوال الناس. فاتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة، أمّا وقد وقعت الفتنة فحاولوا إطفاءها وتجنّبوا إذكاءها واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واعلموا أنّ الله إن يعلم  في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، إنّ الله على كلّ شيء ٍ قدير .

صدر في الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر عام 1436 هـ
_____________________

([1])لبد : أقام ، أي إن أقاموا فأقيموا .


([2])اي سوارها .

([3])اي قرطها .

الجمعة، 9 يناير 2015

كفى شماتة، الإرهاب في نفوسنا, لا بد من نهضة عربية إسلامية تصحح خلل الداخل قبل النظر الى الخارج

    يناير 09, 2015   No comments
سامي كليب
يكفي أن يلقي المرء نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا ذات الغالبية العربية الإسلامية بعد العمليات الإرهابية التي ضربت في اليومين الماضيين فرنسا، ليكتشف كم في نفوسنا من العنصرية والحقد اللذين يشجعان ضمناً الإرهاب ويهللان له.
لو أحصينا عبارة «طابخ السم آكله» كم مرة ترددت في الساعات الماضية، لفهمنا أن الأمراض الدفينة في مجتمعاتنا وفي عروبتنا وفي إسلامنا تشكل اليوم جسراً صلباً يعبر فوقه الإرهاب في كل اتجاه. لا بد من نهضة عربية إسلامية تصحح خلل الداخل قبل النظر الى الخارج، لأن هشاشة الداخل هي التي شرَّعت النوافذ والأبواب لكل غاز وطامع وطامح وسارق.

نعم في الممارسة الإسلامية خلل كبير. لنعترف بذلك. ثمة جمود فكري لم يتطور منذ قرون. وفي الممارسة عجز عن اللحاق بالتقدم العلمي والاجتماعي في الغرب، فلا نجد سبيلاً إلا في تحطيم هذا التقدم لكي نبقى والغرب على المستوى نفسه. نجره الى الأسفل طالما لم نرتق الى مرتبته.
نعم في العروبة خلل فاضح. لنعترف بذلك. تحولت العروبة الى مطيّة لديكتاتوريات وأنظمة تسلط أمني. قعمت الحرية والفكر وألغت العرقيات، فانتفضت العرقيات عند أول مفترق طرق. قتلنا عروبتنا لكثرة ما هللنا لها ونحن ننحرها.
نعم في اليسار العربي انتهازية مقيتة انهارت بمجرد تفكك الراعي السوفياتي، وانهارت أكثر حين عبرت ثروات طائلة الحدود كما حصل مثلاً حين نجح الرئيس الشهيد رفيق الحريري في جذب معظم أقطاب اليسار اللبناني. تبيّن أن الشيوعية أو الاشتراكية مجرد تقطيع للوقت بانتظار الثروة، وحين يحضر المال تموت المبادئ على قارعات الطرق. ليس مهماً أن تكون شيوعياً وأنت فقير، الأهم أن تبقى حين تلوح لك الثروة.
لا شك أن من فقد قريباً أو عزيزاً في الحروب المتتالية على بلادنا والتي يتحمل الغرب جزءاً كبيراً من تأجيجها، له الحق في أن يُعبِّر عن بعض الغضب والشماتة. ولا شك أن من نُهبت خيراتُ بلاده من قبل هذا الغرب، يحق له أيضاً بعض الغضب. لكن أن نفرح بموت أبرياء على أيادي إرهابيين يزرعون الرعب والقتل والذبح باسم الدين، فهذه بحد ذاتها مصيبة.
الإرهاب هو الإرهاب. الذين قتلوا في فرنسا في اليومين الماضيين هم أنفسهم من يقتل في العراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر والصومال وتونس. لنتصالح مع أنفسنا ونعترف بأن المصيبة فينا قبل أن تكون في غيرنا.
إن تربيتنا المذهبية الحاقدة حتى على المذاهب الأخرى هي السبب. وتربيتنا الطائفية المشككة والمحتقرة للطوائف الأخرى هي السبب. وممارسة الدين التي كان يجب أن تحسن أخلاق مجتمعاتنا هي التي أغرقته بالتطرف والمذهبية والحقد والبغضاء.
يقال عن فرنسا اليوم «إن طابخ السم آكله»، ربما في أخطاء السياسة الفرنسية ما يجعل أماً ثكلى أو أباً مفجوعاً أو يتيماً يقول هذا، لكن ألم يُقل الشيء نفسه عن سوريا بتهمة أنها سهلت مرور إرهابيين لمقاتلة الأميركيين في العراق؟ ألم يقل الشيء نفسه عن غزة وهي تموت تحت الدمار والقتل في آخر حرب همجية إسرائيلية ضدها على أساس أن حماس متورطة بحربي مصر وسوريا.
تارة نلوم الغرب أنه انتهك بلادنا فقتل وقسَّم، وتارة نلوم إيران أنها وسعت نفوذها، وثالثة نلوم تركيا أنها تستعيد مجدها العثماني السلجوقي في بلادنا، ورابعة أن روسيا تستفيد من الدم العربي، وخامسة أن قواعد «الأطلسي» ومخالبه في جسدنا.
كل هذا ليس إلا قناعاً لضعفنا وجهلنا وتخلفنا وتقاتلنا وتناحرنا وتآمر بعضنا على بعضه الآخر. لا بد من إعادة صياغة أسس هذا العقل الإسلامي العربي لكي نحفظ الإسلام والعروبة ونحافظ على المسيحيين وكل الطوائف والأعراق والمكونات الأخرى في أوطاننا. لا بد من ثورة حقيقية في الممارسة الإسلامية وفي بعض التأويلات التي تشرع قتل المسلم للمسلم الآخر قبل أن تفكر بعدوّ هذه الأمة.
كفى شماتة لا تعبّر إلا عن جهل وحقد.

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

تونس تطوي انتخاباتها بتهنئة المرزوقي للرئيس الجديد الباجي القائد السبسي

    ديسمبر 23, 2014   No comments
طوت تونس أمس صفحةالانتخابات الرئاسية، فيما كان لافتاً حجم الاحتفاء الدولي بانتخاب الباجي القائد السبسي، الذي قال في أول كلمة له إنه سيكون «رئيساً لكل التونسيين»

تعهد الرئيس التونسي المنتخب، الباجي قائد السبسي، مساء أمس، بأن يكون «رئيساً لكل التونسيين»، داعياً مواطنيه الى نسيان «انقسامات» فترة الحملة الانتخابية.
وقال قائد السبسي (88 عاماً)، في كلمة عبر التلفزيون التونسي العام، «أؤكد أني سأكون إن شاء الله رئيساً لكل التونسيات والتونسيين»، شاكراً في الوقت ذاته منافسه الرئيس المنتهية ولايته المنصف المرزوقي.
وقال «أتوجه بالشكر الى السيد الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي هاتفني منذ حين وهنأني على ثقة الشعب. أشكره وأقول له إن الشعب التونسي لا يزال في حاجة إليه، وأنا شخصياً، الى نصائحه».

وأظهرت النتائج الرسمية، أمس، فوز قائد السبسي بنسبة 55.68 في المئة، في أول انتخابات رئاسية حرة في تونس، أشادت بها الولايات المتحدة، التي رحبت بتونس ضمن «الدول الديموقراطية». وقال رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات، شفيق صرصار، «نعلن فوز الباجي قائد السبسي بنسبة 55.68 على المرزوقي الحاصل على 44.32 في المئة من الأصوات.»
وفي رد فعل على مواجهات بين محتجين ورجال أمن في بعض مناطق الجنوب التونسي، حيث حلّ المرزوقي في الطليعة، إثر إعلان النتائج، دعا قائد السبسي الى الهدوء. وقال «أريد أن أتوجه الى شعبنا، سواء في الجنوب أو الشمال... إن ما يجري في بعض مناطق الجنوب ما كان يجب أن يحصل»، مشككاً في أن يكون الأمر عفوياً. وأضاف «الحملة الانتخابية انتهت، وعلينا الآن أن ننظر الى المستقبل».
واشنطن تقود الاحتفاء بالانتخابات، والدوحة تنضمّ إلى المهنئين

وكان محتجون في تطاوين (جنوب) قد أحرقواً مقر «نداء تونس» احتجاجاً على فوز قائد السبسي. وقال شهود إن قوات الشرطة التونسية أطلقت في وقت سابق، أمس، قنابل الغاز في مدينة الحامة الجنوبية لتفريق مئات الشبان المحتجين على إعلان حملة السبسي. لكن المنصف المرزوقي دعا، في بيان، إلى الهدوء، قائلاً إن «تونس انتصرت».
وقال، في بيان، «أتابع بانشغال بعض التحركات غير السلمية هنا وهناك في علاقة بنتائج الانتخابات وأدعو الجميع إلى الكف عن أي أشكال التحريض والتشنج، وخاصة في هدا الظرف الحساس». وأضاف إن «نجاح الانتخابات وإتمام المرحلة الانتقالية في حد ذاته مكسب كبير لكل التونسيين، مهما اختلفت خياراتنا وتوجهاتنا، ويجب علينا أن نتحلى بالروح الرياضية وتغليب المصلحة العليا للبلاد على أي حسابات أخرى».
وتمثل الانتخابات الرئاسية الخطوة الأخيرة في مرحلة الانتقال الديموقراطي في تونس إثر الحراك الذي أطاح الرئيس زين العابدين بن علي عام 2011.
وهنأ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قائد السبسي بالفوز وتعهد بالعمل معه في الفترة المقبلة، مشيداً «بنجاح الانتخابات» التي قال إنها مرحلة هامة في «إنهاء الانتقال الديموقراطي التاريخي».
بدوره، قال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في بيان، «لقد ضربت تونس لمنطقتها وللعالم بأسره مثالاً مشرقاً لما يمكن تحقيقه من خلال التفاني من أجل الديموقراطية والتوافق واتباع عملية سياسية حاضنة لكل الأطراف». وأضاف «ستواصل الولايات المتحدة دعم تونس وهي تنضم إلى الدول الديموقراطية في العالم».
وفي سياق الاحتفاء بنتائج الانتخابات التونسية، هنأ الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، الرئيس التونسي المنتخب وتمنى له «النجاح الكامل في مهمته في خدمة الشعب التونسي»، وأشاد «بحس المسؤولية لديه».
بدورها، قالت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، في برقية تهنئة للرئيس التونسي المنتخب الجديد، إن «الاتحاد الأوروبي متمسك بالعمل مع السلطات التونسية الجديدة لدعم العملية الديموقراطية».
كذلك، كانت لافتة التهنئة القطرية الموجهة إلى الرئيس التونسي الجديد. وذكرت وكالة الأنباء القطرية أن الأمير تميم بعث «برقية تهنئة إلى فخامة السيد الباجي قائد السبسي لمناسبة فوزه... متمنياً له التوفيق والنجاح».
__________________

تونس: عجوز على كرسي الرئاسة بعد سنوات من ثورة الشباب

نور الدين بالطيب

تونس | لم يكن أحد من التونسيين يتصور أن ذلك العجوز، الذي نسي مع من نسي من وزراء بورقيبة، الباجي قائد السبسي، سيكون رئيساً لتونس في حوالى التسعين من عمره، بعد ثورة كان عنوانها الرئيس: (الشباب).
فاز الباجي قائد السبسي (١٩٢٦) بنسبة ٥٥،٦٨% من الأصوات أمام منافسه في الدور الثاني، الرئيس المؤقت، منصف المرزوقي، الذي حصل على نسبة ٤٤،٣٢%، وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات ٦٠،١١% من مجموع المسجلين في القوائم الانتخابية. ويمثل وصول السبسي إلى الحكم مفارقة كبيرة بعد ثورة أطاحت النظام السابق في ١٤ كانون الثاني، قادها الشباب، من متخرجي الجامعات، العاطلين من العمل خاصة.

المفارقة في أنه ربح على مرشح "الثورة" و"الربيع العربي" الذي لقي ترحيباً عربياً ودولياً، عند انطلاقته من تونس، أواخر ٢٠١٠، وبداية ٢٠١١، والذي امتدّ بعد ذلك إلى اليمن ومصر وليبيا وسوريا، وأدى إلى نتائج كارثية في معظم الحالات.
صعود السبسي اليوم، بما يمثله من إرث رمزي، باعتباره أحد بناة دولة الاستقلال التي انطلقت في ٢٠ آذار ١٩٥٦، عندما التحق بديوان رئيس الحكومة مستشاراً للحبيب بورقيبة، يمثل نهاية عملية للمشروع الذي بشّر به منافسه، منصف المرزوقي، الحقوقي والمعارض الشرس لنظامي بورقيبة وبن علي، والذي بنى مشروعه على الترويج لمشروع "الربيع العربي" ضد "أنظمة الفساد والاستبداد" وقد كانت انطلاقة هذا المشروع من مدينة سيدي بوزيد، بعد إحراق الشهيد محمد البوعزيزي نفسه في ١٧ كانون الأول ٢٠١٠، وتبعت ذلك احتجاجات غير مسبوقة، انتهت برحيل بن علي، وتولي رئيس وزرائه، محمد الغنوشي، الحكم لليلة واحدة، ليتولى بعده رئيس البرلمان فؤاد المبزع الحكم. لكن شباب الثورة (كما يسمونهم في تونس) أسقطوا الحكومة الأولى والثانية، عبر اعتصامين شهيرين (القصبة الأولى والثانية) ولم تستقر حال البلاد إلا مع تولي الباجي قائد السبسي رئاسة الحكومة في أواخر شهر شباط ٢٠١١.

تسليم السلطة

عندما عاد اسم قائد السبسي إلى الأضواء كان اسماً جديداً لغالبية الشبان الذين شاركوا في الحراك الاحتجاجي، بسبب انسحابه من الحياة السياسية منذ سنة ١٩٩١، بعد سنة واحدة قضاها رئيساً لأول برلمان، في عهد بن علي. لكن السبسي قديم في المشهد السياسي، وله محطّات هامّة مع الديموقراطية، فهو أول من انشق على النظام البورقيبي، عندما استقال من سفارة تونس في باريس١٩٧٠، وقد كان نشره لاستقالته على أعمدة جريدة "لو موند" تحدياً ضمنياً لـ"الأب الروحي" والزعيم، الحبيب بورقيبة، الذي تحدث عن تفاصيل علاقته به في كتابه الشهير "بورقيبة الأهم والمهم". وبعد هذه الاستقالة تتالت الاستقالات من نظام بورقيبة، ومن أشهرها استقالة أحمد المستيري، والحبيب بولعراس، ومحمد مواعدة، ومصطفى بن جعفر، وغيرهم، وذلك على خلفية انتهاك النظام لأسس الديموقراطية، ومنع التعددية الحزبية وحرية الإعلام، وفي سنة ١٩٧٦ أسّس قائد السبسي مجلة بالفرنسية بعنوان "الديموقراطية" كان لها دور حيوي في نشر الثقافة الديموقراطية في بلد لا يؤمن بغير الزعيم الواحد. كما كان قريباً وفاعلاً في المجموعة التي أسست الرابطة التونسية للدفاع عن "حقوق الإنسان"، وكذلك جريدة "الراي" أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولم يعد قائد السبسي إلى الحكومة إلا بعد اعتراف الزعيم، الحبيب بورقيبة، بالتعددية الحزبية، وحرية الإعلام، فتولّى وزارة الخارجية في عهد رئيس الوزراء، القريب من الإسلاميين، محمد مزالي، ثمّ سفارة تونس في بون بألمانيا.
استعاد قائد السبسي حضوره في المشهد التونسي بعد فشل حكومتي محمد الغنوشي، ودخل التاريخ كأول رئيس حكومة عربي يسلّم الحكم لحكومة منبثقة من برلمان انتخبه الشعب، وبرئاسة أحد قادة الحركة الإسلامية، حمادي الجبالي، الأمين العام لحركة "النهضة" وقد كان الاحتفال الذي نظّمه في قصر الحكومة بالقصبة، كانون الأول ٢٠١١، سابقة في تاريخ العالم العربي، بعد ثماني سنوات من رئاسة الحكومة التي التزم خلالها بتنظيم الانتخابات، وعدم الترشح لأي منصب، وكذلك كلّ أعضاء حكومته.

العودة

بعد انسحاب السبسي، وتسليمه للحكم، لم يكن أحد يتصور أن العجوز، الثمانيني، سيعود إلى الأضواء. لكنّه اختار، منذ ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٢، أن يعود لتحقيق المعادلة في المشهد السياسي، فأسّس حركة "نداء تونس" مع مجموعة من اليساريين واليوسفيين (أنصار صالح بن يوسف الذي اغتاله بورقيبة) والنقابيين والدستوريين، ليغدو حزبه، في وقت قياسي، القوّة السياسية الأولى التي فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان (٨٦ مقعداً) لتتولى بذلك، حسب الدستور الجديد، تشكيل الحكومة. كما فاز هو برئاسة الجمهورية، محققاً استثناءً تونسياً جديداً، إذ إن الاحتجاجات الشعبية، التي فجرها الشباب، وأسقطت النظام السابق، تكون بذلك قد اختارت عجوزاً على رأس الدولة، في انتخابات كان الشباب فيها الغائب الأبرز. فهل هو الحنين الى بورقيبة؟ أم اليأس من الثورة وحكم الإسلاميين وحلفائهم؟

_______________

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

أنقرة: كيف ننصر إرهابياً على إرهابي؟!

    أكتوبر 27, 2014   No comments
واصل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، أمس، تحريضه ضد أكراد سوريا، محاولا إثارة الفتنة بينهم وبين اكراد العراق، بعد اتهامه «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي بأنه لا يريد مساعدة من «بشمركة» إقليم كردستان العراقي، للدفاع عن مدينة عين العرب (كوباني) السورية، في الوقت الذي ساوى فيه نائب رئيس «حزب العدالة والتنمية» التركي ياسين أكتاي بين الاكراد المدافعين عن المدينة والمهاجمين من تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» ـ «داعش»، معتبراً انهما «حزبان ارهابيان».
في هذا الوقت، كشفت «حكومة» إقليم كردستان العراق أن «البشمركة» لن يشاركوا مباشرة في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش»، وان مهمتهم ستكون تقديم دعم مدفعي للمدافعين عن عين العرب.

وفي الوقت الذي شنت فيه طائرات أميركية خمس غارات جديدة على مواقع «داعش» قرب عين العرب، صد الأكراد السوريون هجوما جديدا على الحي الشمالي للمدينة القريب من الحدود التركية». وذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، في بيان، أن «الدولة الإسلامية يركز اهتمامه على هذا المكان لمحاصرة مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردي في المدينة، وقطع طريق الإمدادات ومنعهم من إجلاء جرحاهم نحو تركيا».
وأضاف «قتل أكثر من 800 شخص في عين العرب منذ بداية هجوم الدولة الإسلامية قبل 40 يوما، بينهم 481 جهاديا من التنظيم و302 مقاتل كردي و21 مدنيا».
وقال اردوغان، في الطائرة التي كانت تعيده إلى أنقرة من زيارة لأستونيا، إن «حزب الاتحاد الديموقراطي غير متمسك بوصول البشمركة إلى كوباني، والسيطرة عليها». واعتبر أن الحزب، الذي وصفه بالمنظمة «الإرهابية»، لا يريد المجازفة بفقدان نفوذه في شمال سوريا.
وقال نائب رئيس «حزب العدالة والتنمية» التركي ياسين أكتاي، لوكالة «الأناضول»، إن «داعش انتشر في الأراضي التي احتلتها القوات الأميركية منذ 11 عاماً (العراق) وأصبح يمتد إلى أن وصل سوريا وحدود تركيا، وبلدة كوباني ليست الوحيدة التي امتد إليها داعش».
وأضاف «من يطالبنا بالحرب في كوباني نقول له، إن وظيفتنا ليست أن نحارب خارج أراضينا، وفي كوباني يوجد تنظيمان إرهابيان، هما داعش وحزب العمال الكردستاني، فهل ننصر فئة منهما على الأخرى، خاصة أن حزب العمال قام مؤخراً باستهداف مدنيين في تركيا». وتابع «لم تتدخل تركيا عسكرياً في كوباني، لكنها لم تقف على الحياد، فقامت بدور إنساني، وتم نقل المدنيين إلى الأراضي التركية».
وكشف المتحدث باسم «حكومة» إقليم كردستان العراق سفين دزيي، لوكالة «رويترز»، عن الدور الذي سيقوم به عناصر «البشمركة» في عين العرب. وقال «ستكون قوة دعم بالأساس بالمدفعية والأسلحة الأخرى. لن تكون قوات قتالية في حد ذاتها بأي حال في هذه المرحلة». وأوضح، ردا على سؤال عن إمكانية نشر مزيد من عناصر «البشمركة» مستقبلا، «يعتمد كل ذلك على كيفية تطور الأمور على ارض الواقع».
وقال «رئيس ديوان الرئاسة» في إقليم كردستان فؤاد حسين إن «البشمركة على استعداد للتوجه إلى كوباني عبر تركيا بمجرد الانتهاء من وضع جدول زمني مع الحكومة التركية وأكراد سوريا، متوقعا «المضي قدما في نشر 155 من عناصر البشمركة خلال أيام».
ووصف الأسلحة التي سينقلها «البشمركة» إلى عين العرب بأنها «شبه ثقيلة»، معتبرا أنها ستمكن المقاتلين الأكراد من مجابهة دبابات «الدولة الإسلامية» ومركباتها المدرعة.
إلى ذلك، بحث ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل مع منسق التحالف الدولي الجنرال الأميركي جون آلن «الجهود القائمة لمكافحة الإرهاب، وعلاقات التعاون بين السعودية والولايات المتحدة والأمور ذات الاهتمام المشترك». وجاءت زيارة الرياض في إطار جولة لآلن تشمل بريطانيا وفرنسا والسعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وسلطنة عمان.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مقابلة مع قناة «روسيا اليوم» بثت أمس الأول، إن موسكو مستعدة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، لكن لا توجد أي اتفاقات بشأن تبادل المعلومات الاستخبارية في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» .

الخميس، 4 سبتمبر 2014

كيف تحول تنظيم القاعدة ( داعش ) إلى وبال على الإسلام والمسلمين ؟

    سبتمبر 04, 2014   No comments
بقلم: مجدى حسين

أنا مدين بهذا المقال للقارئ الذي يتابعني منذ سنوات ، لأنني سأمارس فيه نوعا من المراجعة لموقفي من ما يسمى اصطلاحا تنظيم القاعدة ، الذي تحول إلى خط فكري ثم إلى مجموعات منفصلة بنفس الفكر في البلدان المختلفة . وأقول موقفي لا موقف حزب العمل ( الاستقلال حاليا ) ،لأن الحزب ليس له أي وثيقة رسمية تحدد موقفه من تنظيم القاعدة ، ولكننا في حزب الاستقلال كنا دائما نترك هامشا لحرية التعبير والآراء السياسية للكتاب، وليس فقط لأمين عام أو رئيس الحزب بل لأي كاتب في الجريدة من أعضاء وغير أعضاء الحزب ، وستجد دائما في جريدة الشعب أقلامَ (القوميين والناصريين واليساريين والليبراليين الوطنيين و الشرفاء وبطبيعة الحال الإسلاميين من كل الاتجاهات والتنظيمات والمسيحيين) ، وكل ذلك في إطار الخط العام للحزب الذي ننظر إليه باعتباره المشروع الحضاري العربي الإسلامي ، لذلك فقد كان الحزب كريمًا معي ، ومع غيري في عدم السعي إلى التطابق في كل ما نكتب ، وهذا هو مفهومنا الذي يرفض الحزبية  الضيقة التي تتصور أن الناس يمكن أن يكونوا قوالب في الآراء والأفكار ، وهذا غير ممكن ، والتمسك بهذا يخلق تنظيمات مشوهة أو يخلق آلة صماء لا يمكن أن تنجح في التفاعل مع الشعب.

كان موقف حزب العمل ( الاستقلال حاليا ) من الأحداث التي كانت القاعدة طرفا فيها يتمثل في الآتي : أن العنف الموجه للسفارات والمصالح الأمريكية هو رد فعل للمظالم الاستعمارية التاريخية والمستمرة التي تمارسها أمريكا على الأمة العربية والإسلامية ، وبالتالي لم يكن الحزب يتورط في حملات الإدانة عما يسمى الإرهاب ، ويحمل المسؤولية لأمريكا وإسرائيل وما يفعلاه في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان ، ولكن ظل حزبنا يدرك أن تقييم الأوضاع في مصر يؤكد على ضرورة التمسك بالسلمية ضد النظام العميل وبالتالي، فإن القضاء على النفوذ الأمريكي الصهيوني لا يحتاج إلا المقاومة السلمية ،لإسقاط النظام ، ولكننا أيدنا بلا تردد المقاومة المسلحة في البلاد المحتلة بقوات أجنبية : (العراق – فلسطين – أفغانستان – لبنان – الصومال) ، وبالتالي فإننا كنا نؤيد أي عمليات تقوم بها القاعدة أو غيرها ضد القوات الأمريكية في العراق مثلا



الجانب الخاص بي أنني كنت أحتفل بالقاعدة أكثر مما ينبغي ، حتى لقد وضعت صورة "أسامة بن لادن" في غرفة مكتبي التي يدخلها كثير من المخبرين والمراسلين الأجانب ، ولا أعتقد – في حدود علمي – أن سياسيا مصريا احتفل بالقاعدة مثلي ، وقد كان هذا يعرضني لمخاطر شديدة سواء في مصر أو جوانتنامو!! والذي حماني بالتأكيد أن شخصيتي معروفة بأنني مقاوم سلمي وأنني لا أقاوم المخبرين عندما يأتون لاعتقالي ، وعندما يصدر عليّ حكم بالحبس وأنا بالخارج أعود فورا لأدخل السجن !! إلخ.



لقد كتبت كثيرا أنني أختلف مع نهج القاعدة ،فيما عدا عملياتها المسلحة ضد القوات الغازية ، وكنت أعذرها في بعض عملياتها في أوروبا وأمريكا ، باعتبار أن الغربيين لا يرحموا المدنيين المسلمين ، ولكنني كنت أرفضها ، ولقد ناقشت ذلك بالتفصيل في كتابي ( أمريكا طاغوت العصر ) ، وكنت أرفض تماما عملياتها ضد الأبرياء في بلاد المسلمين والتي يروح ضحيتها مواطنون أبرياء مسلمون أو غير مسلمين من مارة الطريق . أذكر من العمليات التي آلمتني جدا : تفجير بنك بريطاني في تركيا ، لم يؤدِّ إلا إلى قتل مواطنين أتراك من العاملين في البنك أو المارين في الطريق وكنت أرى في هذا استهانة بأرواح البشر لا يمكن أن تكون مقبولة ، وهذا أخطر ما في فكر القاعدة : الفتاوى التي تستهين وتستسهل حياة البشر، بينما الدم أمر غليظ وخطير في عقيدة الإسلام . المهم دعوني أبدأ المراجعة ولأوضح كيف أصبحت أرى أن القاعدة أصبحت وبالا على الإسلام والمسلمين وأن ضررها أكثر من نفعها إن كان لها نفع!

ظاهرة الجهاد العالمي ضد السوفييت



هناك كثير من المعلومات الخطيرة التي يمكن قولها حول العلاقات العميقة التي نشأت بين المجاهدين ضد السوفييت وبين الأجهزة الأمنية الأمريكية ، وقد نشر الكثير حول ذلك ، وسننشر هذه المعلومات بعد تنقيتها في موضع آخر ، ولكن سنركز الآن على هذا النمط أو "الموديل" من الجهاد ، ونحلله ، ونرى ما نتج عنه . قام هذا النمط من الجهاد على:

أولا : تجميع المقاتلين من أقاصي الأرض ،لمحاربة الغزو السوفيتي لأفغانستان ، وقد كان مبرر ذلك واضحا ،فالحرب ضد قوة عظمى تعد الثانية في العالم بل كانت تتجه ماديا وعسكريا ،لتسبق الولايات المتحدة ، بل وسبقتها بالفعل وفقا لبعض التقديرات الاستراتيجية.

ثانيا : لأننا نحارب دولة عظمى فلا يفل الحديد إلا الحديد . إذن الاستعانة بأمريكا أمر مبرر ، نستعين بظالم لنضرب ظالما آخر ، ثم نعود لنستدير إليه ونقصم ظهره . وهذه الاستعانة بالكافرين على الكافرين فيها نظر وأرى أنها لا تجوز عموما ، ولا تجوز خصوصا في هذا الموقف ؛ لأن هذه الاستعانة لم تكن سياسية أو دبلوماسية ، بل كانت عسكرية لوجستية مالية من الطراز الرفيع ، قامت على التسليح الأمريكي والتدريب الأمريكي والمعلومات الاستخبارية الأمريكية ، ولم يكن الأمريكيون غافلين عن نظرية "تربية النمر" الذي يمكن أن يأكل صاحبه ، فهم منذ اليوم الأول ، كانوا يتحسبون لما بعد انتهاء الحرب وجندوا واخترقوا وصنعوا ( حزب النور الأفغاني والعالمي ) . أقول حزب النور ،لأن حزب النور أفادنا كثيرا من حيث لا يشعر، فالآن أدركت الناس أنه يمكن أن يكون هناك شخص ملتحيًا ولحيته كبيرة ، ولديه زبيبة ولا تفوته صلاة ويبكي فيها ثم يتضح أنه مخبر ، علمنا حزب النور أنك يمكن أن تتحدث في الفقه وتكتب فيه كتبا ثم يتضح أنك مخبر ، بل يمكن أن تحفظ القرآن بالتجويد وتكون عميلا للأجهزة . وقد كان طنطاوي شيخ الأزهر الراحل يحفظ القرآن ويفتي للسلطان بما يريد .  وما نراه في حزب النور على المستوى المحلي  حدث في أفغانستان على المستوى العالمي . بل بدأ منذ الثمانينيات من القرن الماضي على أرض أفغانستان واستمر وترعرع وتفرع ، وقد قرأت مذكرات لبعض هؤلاء المخترقين من جنسيات أوروبية ، درسوا الفقه وتعلموا البكاء في الصلاة  ،لاختراق المجاهدين!

بالنسبة لموضوع تمويل الجهاد ، اسمع هذه القصة الطريفة الموثوق فيها  التي أسرها لي  مسؤول باكستاني : في مباحثات المجاهدين مع مسؤولين  بالمخابرات  الأمريكية  كان المجاهدون الأفغان يلحون على زيادة الدعم المالي ، فقال لهم الأمريكيون : "إن الدعم يرتبط بقرارات للكونجرس وهذه عملية معقدة ،ولها سقف معين ، فلنحل مشكلاتكم المالية على النحو التالي : سنعطيكم مطبعة تطبعون عليها الدولارات التي تحتاجونها ، بحيث تخرج حقيقية وغير مزورة  ، ونتخلص من موضوع الكونجرس !! وقد تم تنفيذ هذا الاقتراح فعلا تحت إشراف مندوب من المخابرات حتى لا يتم تجاوز المعقول في الطباعة !! لقد كانت معركة ،لاستنزاف وإسقاط الاتحاد السوفيتي واستحقت كل هذه الخطوات الجريئة وغير المسبوقة . وطبعا حصل المجاهدون على كل الذي يحبونه ومنها "صواريخ ستينجر" الأمريكية المحمولة على الكتف التي أسقطت كميات من الطائرات السوفيتية، وبالتأكيد فإن المجاهدين لم يحصلوا عليها من سوق السلاح أو سوق الكانتو!

ثالثا : كان حلفا متماسكا ولم يقتصر على الأمريكان ، كان الحلف يضم حكومة باكستان ودول الخليج  الواقعين جميعا تحت السيطرة الأمريكية والسادات الذي أعلن الجهاد ضد السوفييت ،للتغطية على بيع مصر لإسرائيل وأمريكا في كامب ديفيد التي ترافقت مع صعود الجهاد الأفغاني . وطبعا دول الخليج دفعت عشرات المليارات من الدولارات  قدرها ياسر عرفات ب 40 مليار دولار ، لو دفعوا نصفها لفلسطين لتم تحريرها ، وهذه أهم وسيلة ،لاختراق واسع النطاق للمجاهدين : أي عبر الأجهزة الأمنية المصرية والباكستانية والسعودية والقطرية والإماراتية الذين كانوا يتولون مهمة التدريب والتخطيط ، فهؤلاء عرب ومسلمون وملتحون ، ويمكن أن يبكوا في الصلاة بسهولة أكبر ، ويتحدثون بلغة القرآن ،والمهم أن ندرك أن هذه الشبكة نمت وتطورت بعد انتهاء الحرب مع السوفييت.

رابعا : كان يمكن لنا التغاضي عن كل هذا طالما أننا هزمنا السوفييت وأخرجناهم من أفغانستان ، ولاشك أن المجاهدين على خط النار قدموا أرواحهم فداء للوطن والإسلام . وكان يمكن أن نترك تقييم هذه التجربة للمؤرخين ، ولكن المشكلة بدأت تظهر عندما أصبح هناك اتجاه مريب لإعادة إنتاج التجربة الجهادية الأفغانية في البلدان المختلفة.

خامسا : بعد وصول طالبان للحكم ، تحولت أفغانستان إلى ( الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين ) ،ولكنها فتحت معارك شتى مع الصين في تركستان الشرقية وروسيا في الشيشان وداغستان والقوقاز عموما ، ومع بلدان وسط آسيا مثل، طاجيكستان وأوزبكستان . وأصبحت أفغانستان دولة مزعجة لبلدان كثيرة من العالم.

سادسا : جاءت ضربة 11 سبتمبر 2001 ،وأصرت القاعدة على أنها قامت بها ، وأكدت وقائع دامغة أنها خطة أمريكية صهيونية لتبرير إعلان الحرب على العالم الإسلامي . والراجح أن هذه الخطة كانت موجودة بالفعل من قبل القاعدة ،ولكن ترك لها المجال لتفعلها ، بل وتمت مساعدتها بوضع متفجرات شديدة الانفجار في قواعد البرجين ، بل وتم تدمير برج ثالث لم تصطدم به أي طائرة ، وثبت بالدليل القاطع أن صاروخا هو الذي ضرب مبنى البنتاجون لا طائرة بوينج ! وهناك دراسات موثقة على الإنترنت وخارج الإنترنت تؤكد بعشرات ومئات الأدلة هذه الرؤية ، وسنعرض ذلك في مجال آخر . المهم أن "أسامة بن لادن" ظل يؤكد على غزوة نيويورك وواشنطن ، وصدرت عدة فيديوهات من القاعدة تؤكد مسؤوليتها ، ولم يكن الأمريكان يريدون غير ذلك ليفتروا على الإسلام والمسلمين . بل وليعلنوا الحرب الصليبية المعاصرة على الإسلام ويبدأوا بأفغانستان والعراق كخطوة أولى.

سابعا : ورغم أن طالبان والقاعدة لم يستطعا الحفاظ على دولتهم في أفغانستان وسهلوا للأمريكان مهمة ضربهما ، ورغم أن القاعدة انتهت إلى الاختباء في كهوف ثم تبين أنها شقق وفيلات في بيشاور وغيرها من المدن الباكستانية ، إلا أنه أصابها انحرافًا آخر ، وهو السعي لتأسيس دويلة في أي مكان من العالم الإسلامي ، حتى وإن كان الأمر بإقامة هذه الدويلة على جزء من قطر إسلامي ، بل تحول الموضوع إلى خط مستقر ، فيتم تأسيس دويلات وهمية في العراق وسوريا والصومال واليمن ومالي وأجزاء من الصحراء الكبرى وباكستان وليبيا . وأصبح شعار القاعدة هو تقسيم العالم الإسلامي ، تقسيم دولة ، ولا يوجد أكثر من ذلك تنفيذا للمخططات والخرائط المنشورة منذ عدة عقود في إسرائيل ومراكز البحث الأمريكية لتقسيم كل دولة عربية وإسلامية إلى عدة قطع أو شقف ، فهذا هو المناخ الذي تزدهر فيه إسرائيل وتسوس الشرق الأوسط ، وبالنسبة لأمريكا ينتهي كابوس المارد الإسلامي.



 ثامنا : عندما وقع احتلال العراق عام 2003 ،وكانت دعوة القاعدة لحشد المجاهدين من كل أنحاء العالم لقتال الأمريكان ،وكانت فكرة معقولة فقد كانت مواجهة الأمريكان في العراق معركة كل المسلمين لا تقل أهمية عن معركة أفغانستان ضد السوفييت. وأبلى المجاهدون العراقيون من القاعدة وغير القاعدة والمجاهدون العرب والقادمون من خارج العراق ، أبلوا جميعا بلاءً حسنا ، وكسروا ظهر أمريكا وجيشها ، و كان تطورا تاريخيا ، وكانت نقطة تحول في هبوط القوة العظمى الأمريكية ، كما كانت هزيمة السوفييت في أفغانستان نقطة تحول لسقوطهم كقوة عظمى ، والحقيقة فلم يكن هذا هو موقف القاعدة وحدها بل كان تيارا جارفا في العالم العربي والإسلامي ، ونذكر حملة التطوع للعراق في مصر ، والتي تصدى لها نظام مبارك واعتقل كل من أراد السفر للجهاد في العراق.

ولكن مايعنينا هنا أن القاعدة بدأت اتجاهها المنحرف بالتأكيد على إقامة الدويلات ، ولأنهم كما يتصورون : إسلاميون جدا ، فلا يعترفون بالقوميات ولا القبائل ولا الشعوب ، رغم أنها وردت في القرآن الكريم باعتبارها من آيات الله ! فهم لا يهتمون بالحفاظ على حدود الدولة الإسلامية التي اسمها العراق ولا يعترفون بالشعب العراقي ، ولكن يعترفون بالسنة فقط ، بل وبالسنة التي تبايعهم !! وقد ترافق ذلك مع حالة من السذاجة السياسية . فيتم الإعلان عن دولة مستقلة في جزء من العراق ، ويتم تعيين أميرا للمؤمنين ، وتشكيل وزارة وتسمية الوزراء ، فهذا وزير للدفاع وهذا للتجارة وذاك للإعلام ، وهو تصور كاريكاتيري للدولة ، كما يلعب الأطفال . فحدث خلط بين المناطق المحررة من المستعمر وبين إعلان الدولة ، فالمناطق المحررة تكون فيه بالفعل سلطة شعبية ما ولكنها ليست هي الدولة بعد ، كما أن تأسيس دولة مستقرة على جزء صغير من الوطن ليست هدفا لأي عاقل . وإن كنت لم أقرأ لهم أنهم يقتدون بدولة المدينة التي أقامها الرسول ، فقد يكون هذا هو مبررهم . وهذا تصور سطحي ،لأنه يقتدى بالمتغيرات لا بالثوابت ، فجزيرة العرب لم يكن بها نظام مركزي ولا دولة مركزية ، فقد كانت(مكة) عاصمة روحية دينية وتجارية وثقافية للجزيرة ، تتربع فيها قريش ، ولكن بدون جيش مركزي ولا سلطة مركزية سياسية ، فكانت الوحدات السياسية هي القبائل ، وبالتالي فإن هجرة سيدنا محمد والمؤمنين إلى المدينة كانت بالأساس "للأوس والخزرج" معا ، وكان توجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو العودة بأسرع ما يمكن إلى مكة وقد حدث بالفعل بعد 8 سنوات . وقد كانت العودة أساسا بنشر الدعوة ولم تكن الغزوا ت والسرايا  إلا أداة مساعدة ، أداة لشل وتحييد قوى البغي والعدوان . ( القتلى والشهداء حول ال600).

وبالتالي نحن لن نقيم دولة الإسلام بتفتيت العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا والصومال ، بل بالحفاظ على هذه الوحدات السياسية ثم ضمها إلى بعضها البعض بأشكال الوحدة المختلفة.

وفي العراق وجدوا مشكلة كبرى  : أن الشيعة يمثلون حوالي 60 % من السكان ، ولأن المدرسة "الديوبندية الهندية" تكفر الشيعة ، وهي مدرسة طالبان والقاعدة ، فتحول الشيعة  في العراق لقوة محتلة لدولة الإسلام ، وأصبحوا مستباحين ، ومرة أخرى نجد الاستهانة بالأرواح ، فالمفخخات توضع في مساجد الشيعة ويموت المصلون أو في أماكن تجمعات الشيعة في أحيائهم وليمُت النساء والأطفال والشيوخ . وليقتل أي شيعي يتجه لإحياء أي مناسبة دينية شيعية في "كربلاء" أو "النجف" ،أو غيرهما . وحتى إذا اتهم الشيعة بالوقوع في ممارسة مماثلة عكسية ، بل سنفترض جدلا أن كل ما يقال عن ممارسات الشيعة في العراق صحيح ، وبعضه صحيح بالتأكيد ، فلابد من تطويق الفتنة ، ولابد للعراقيين أن يعودوا ليعيشوا مع بعضهم البعض كما فعلوا طوال عشرات ومئات السنين الماضية ،

وحتى إذا جاز لك أن تكفر الشيعة الاثنى عشرية باعتبار أن ذلك موقف فكري ولا يمكن الحجر على فكر أي إنسان أو جماعة ، فإن قتل المدنيين الأبرياء مسألة محرمة باتفاق . كما أن تطهير العراق من 60 % من سكانه هدف غير واقعي ، بل هدف مجنون ، لن يؤدي إلا إلى إغراق البلاد في بحور لا تنتهي من الدماء . تصور نفسك وأنت جالس في غرف العمليات بتل أبيب وواشنطن ولاحظ كم الحبور و السعادة التي ترتسم على وجوه الموجودين وهم يتابعون هذه البلاهة ، ويتبادلون الأنخاب ، فالمسلمون والعرب يقتلون بعضهم بعضا ، لتحقيق أهدافنا ، أمر رائع بلا جدال . ثم من سيحدث أمة العرب والمسلمين عن النهضة الاقتصادية أو متابعة ركب الحضارة أو تحقيق العدالة الاجتماعية ؟! ( المساحة المخصصة للمقال انتهت) . ولكن الموضوع لم ينتهِ.

  (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
___________________

مجدي أحمد حسين (23 يوليو 1951) سياسي وكاتب صحفي مصري ورئيس التحرير الحالي لصحيفة الشعب المصرية.

الخميس، 24 يوليو 2014

المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية محمد رياض شقفة: من أعلنوا الخلافة الإسلامية نخشى أن يكون لهم ارتباطات دولية تسعى لإجهاض الثورة... ما يحدث في العراق شبيه بما يحدث في سورية وهو في صالح الثورة السورية

    يوليو 24, 2014   No comments

حوار خاص مع المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية

نص الحوار :

* أين تقف الثورة السورية الآن وبعد مرور أكثر من 3 سنوات ونصف على انطلاقتها؟

- تمرّ الثورة السورية بمرحلة صعبة، ولكن ما يدعو للتفاؤل هو إيمان الشعب السوري بثورته وتصميمه على المضيّ بها حتى النصر مهما بلغت التضحيات.

* كيف تقيِّم الأداء السياسي للمعارضة؟

- أستطيع أن أقول إنّ أداء المعارضة السياسي لا بأس به وهي تبذل جهدها في شرح قضية الشعب السوري وما عاناه من ظلم من هذا النظام، رغم أنّ هناك ضعفاً في تأثيرها في المجتمع الدولي، وهذا يرجع إلى تخاذل المجتمع الدولي في دعم الثورة السورية وردع جزَّار سورية وكبير مجرميها. ونتمنّى على أطراف المعارضة تناسي خلافاتهم وتوحيد مواقفهم في دعم الثورة والعمل يداً واحدة لنصرتها.

* ما هو موقفكم في الخلاف الحاصل بين الجربا وطعمة؟

- هذا موضوعٌ مؤسف كنَّا نتمنّى أن لا يحصل، وكان من المفروض أن يحال إلى اللجنة القانونية لترى رأيها فيه، والأصل أنّ الحكومة هي المسؤولة عن العمل التنفيذي ويجب أن تُدعم من جميع الأطراف، ومسؤولية المؤسسات الأخرى في الائتلاف هي الإشراف والتوجيه وعدم التدخل المباشر في أعمال الحكومة التنفيذية .

* هل أنت مقتنع بأداء الجماعة السياسي؟

- نحن نبذل جهدنا قدر الإمكان في العمل السياسي لكشف عورات النظام، ودعم الثورة، وتوحيد قوى المعارضة في الداخل والخارج، وكان لنا دور في تأسيس وبناء مؤسسات المعارضة، وهذا يحسب للجماعة.

* يتحدث البعض أنّ الجماعة تتّخذ مواقف سياسية مزدوجة من خلال كتلتها وبعض الأشخاص المحسوبين عليها .. كيف تردّون على ذلك؟

- لا يوجد شيء من هذا، فالجماعة عندما تتّخذ موقفاً .. فجميع أفرادها يلتزمون به، قد يكون هناك مجموعات يحسبها الآخرون على الجماعة وهي ليست كذلك .

* ما حقيقة انتماء وعلاقة مجموعة العمل الوطني بالجماعة؟ وهل أفرادها ينتمون تنظيمياً للجماعة؟

- قد يكون بعض أفرادها ينتمي للجماعة، ولكن هذه المجموعة وقيادتها تتصرف بدون أيّ تنسيق أو تشاور مع الجماعة، وهي مستقلة تماماً في مواقفها، ولا يجب أن تحسب مواقفها أو آراؤها على الجماعة.

* وماذا عن هيئة حماية المدنيين؟

- أيضاً هي مجموعة مستقلة بشكل كامل ولا علاقة للجماعة بها وبمواقفها.

* الوضع العسكري للثورة.. إلى أين يتّجه؟

- قناعتنا أنّه رغم المدّ والجزر الذي يحصل، فإنّ هذه الثورة في طريقها إلى النصر إن شاء الله، وما يسرِّع في النصر هو توحّد المجموعات المقاتلة على الأرض في هيكلية واحدة أو على الأقل في تجمّع يشتركون فيه بالتخطيط والتنسيق . وهذا ما نسعى له.

* ما هو موقف الجماعة من تنظيم الدولة وإعلان "الخلافة الإسلامية" مؤخرا؟

- هذه المجموعة المتطرّفة في أفكارها وفي فهمها للإسلام لا تمثّل الثورة السورية ولا المجتمع السوري، وإعلانها عن دولة إسلامية وخلافة أمر مستغرب وليس من صلاحية مجموعة مهما بلغت قوتها، فاختيار الحاكم هو من حق الشعب. ونخشى أن يكون لهم ارتباطات دولية تسعى لإجهاض الثورة من خلال تصرّفات خارجة عن الفهم الصحيح للإسلام. ونتمنّى على الشباب الذين يلتحقون بهم ظنّاً منهم أنّهم يمثلون الإسلام الصحيح أن يعودوا إلى رشدهم كي لا يتحمّلوا مسئولية الأخطاء والتجاوزات التي ترتكبها هذه المجموعة.

* ما هو تقويمكم لما يحدث في العراق؟

- إنّ ما يحدث في العراق هو شبيه لما حدث ويحدث في سورية، وهو بسبب فساد المالكي وطائفيته وتهميشه لأهل السنة وخضوعه لإملاءات إيران، ممّا جعل أهل السنة بعشائرهم وقياداتهم يتحركون لاسترداد حقوقهم.

* وما هو تأثير ذلك على الثورة السورية؟

- إنّ ما حصل في العراق في صالح الثورة السورية، لأنّها ثورة ضد نظامين متشابهين، ولكن استغلال بعض المجموعات المتطرفة للوضع واستيلائهم على كمّيات كبيرة من السلاح ونقل معظمها إلى سورية كان له تأثير سلبي مؤقّت على الثورة السورية، إذ قام هؤلاء باحتلال بعض المناطق في سورية التي كانت أصلاً بيد الثوار.

* الجماعة قادمة على انتخابات لجميع مؤسساتها، فمن هو الشخصية التي يمكن أن تتسلم زمام الأمور في الجماعة؟

- أهداف الجماعة ومقاصدها واضحة ومتّفق عليها بغضّ النظر عمن يكون في قيادتها، ونأمل أن يكون لجيل الشباب دور في قيادة المرحلة القادمة ممّا يؤدي إلى مزيد من النشاط والحيوية.

من الصعب التكهّن بأسماء محددة لأنّ الجماعة اعتمدت الشورى في الترشيح والتصويت؛ حيث سيتمّ انتخاب اللجان الاستشارية ومن ثم مجلس الشورى وهو من سوف ينتخب المراقب العام، ولكن التوجّه العام أن يكون للشباب دور فاعل في المرحلة القادمة.

الأربعاء، 16 يوليو 2014

القسم الدستوري والنص الكامل لخطاب القسم الرئاسي الثالث بشار الأسد

    يوليو 16, 2014   No comments
أدى الرئيس السوري بشار الأسد القسم الدستوري رئيساً لسوريا أمام أعضاء مجلس الشعب، وبحضور شخصيات سياسية واجتماعية ودينية، في قصر الشعب.
وفي الآتي الخطاب الكامل للأسد:


أيها السوريون الشرفاء. أيها الشعب الحر الثائر. ثلاث سنوات وأربعة أشهر، عندما قال البعض نيابة عنكم "الشعب يريد"، نعم الشعب أراد. الشعب قرر. الشعب نفذ.
سنوات مضت منذ صرخ البعض للحرية فكنتم الأحرار في زمن التبعية، وكنتم الأسياد في زمن الأجراء. زايدوا عليكم بالديموقراطية فمارستموها بأرقى صورها، ورفضتم أن يشارككم غريب إدارة الوطن، فاخترتم دستوركم وبرلمانكم ورئيسكم، فكان الخيار خياركم والديموقراطية من صنعكم.
قالوا إن "الشعب السوري واحد"، فوقفتم في وجه إعصار فتنتهم ولم تسمحوا لرياح التقسيم والفتنة أن تضرب قلوبكم وعقولكم، وكنتم بحق شعباً واحداً بقلب واحد.
صرخوا "بأنهم لن يركعوا إلا لله" فما ركعتم لسادتهم ولا استسلمتم ولا سلمتم، بل صمدتم وتمسكتم بوطنكم وآمنتم بإله واحد أحد، لا تشاركه دول عظمى ولا يغني عنه لا نفط ولا دولار. وعندما قالوا الله أكبر، كان الله أكبر منهم وممن وقف معهم، لأن الله مع الحق، والحق مع الشعب.
سنوات مرت كان لهم القول وكان لكم الفعل. غرقوا في الوهم، فصنعتم الواقع. أرادوها ثورة فكنتم أنتم الثوار الحقيقيين، فهنيئا لكم ثورتكم وانتصاركم، وهنيئا لسوريا انتماءكم إليها.
هنيئا لسوريا شعبا تحدى كل أشكال الهيمنة والعدوان بكل الوسائل التي يملكها، عقلا وفكرا ووعيا وطنيا، بيده لمن استطاع حمل السلاح، بلسانه عبر قول كلمة حق، بقلبه عبر صموده وبقائه رغم التهديد. هنيئا لسوريا شعباً تحدى كل أشكال الخوف والإرهاب بالاستفتاء والانتخاب، ومارس حقه تحت النار، وأفشل العدوان وأصحابه وأدواته.
شعب غير صموده كل المعطيات فتغيرت معها الظروف والوقائع. تبدلت مواقف، وتراجعت أخرى. سقطت مسميات، واندثرت تحالفات. انقسمت مجالس وتفتتت هيئات. عادت البوصلة واضحة عند كثير ممن غابت عنهم الرؤية، جهلا أو تضليلا، وانكشفت الوجوه القبيحة على حقيقتها بعد أن سقط عنها قناع الحرية والثورة، لتعمل أنيابها في الجسد السوري قتلا وتدميرا وأكلا للقلوب والأكباد ونحرا للرقاب وقطعا للرؤوس.
لم يتركوا وسيلة قذرة إلا واستخدموها. لم يتركوا طريقا شاذة أو منحرفة إلا وسلكوها، وفشلوا. فشلوا بإقناعكم أنهم الحريصون على مصالح الشعب وحقوقه، وفشلوا بإشعاركم أنكم بحاجة لأوصياء عليكم لإدارة أموركم وشؤون بلادكم، وفشلوا أخيرا ونهائيا بأن يغسلوا أدمغتكم أو أن يكسروا إرادتكم.
تحديتم الإعصار بصدور عارية، ووقفتم كالرمح في وجه الغدر، فسمع الكون صوتكم رغم كل محاولات الكذب والتشويش والتضليل. أعليتم صوت الحق، وأجبرتم العالم أن يرى الحقيقة، التي جهدوا ثلاث سنوات ونيف في إخفائها وقتلها ودفنها، وأبقيتموها أنتم حية ترزق. حقيقة ظهرت لتحطم بساعات محدودة امبراطوريات السياسة والنفط والإعلام.
نعم، ساعات قليلة خرجتم فيها تعبرون عن رأيكم وتظهرون قوة إرادتكم. كانت كفيلة بمحو كل التزوير والإرهاب النفسي والمعنوي الذي مورس على سوريا لسنوات. لم تكن تلك الانتخابات مجرد عملية سياسية إجرائية كما هو الحال في أي مكان في العالم، بل كانت معركة كاملة الأبعاد، سخرت كل المعارك الأخرى من أجل ربحها، فبالنسبة لأعداء الوطن كانت السبيل الذي انتظروه لنزع شرعية الدولة، وإظهار الشعب السوري بمظهر الضعيف المتفكك غير القادر على حكم نفسه، ليخلقوا بعدها مبررات التدخل الخارجي بذرائع مختلفة.
أما بالنسبة لنا كمواطنين، فكانت الانتخابات إعلان انتماء حقيقي للوطنن يتجاوز انتماء تمنحه هوية أو جواز سفر. كانت الانتخابات معركتنا للدفاع عن السيادة والشرعية والقرار الوطني وكرامة الشعب، وكانت المشاركة الكبيرة استفتاء لصالح السيادة ضد الإرهاب بكل أشكاله. لم يكن مهما لدى الكثيرين من سيصعد أو سيفوز، لكن المهم كان من سيسقط جراءها. لقد أسقطتم بأصواتكم الإرهابيين، وأسقطتم معهم العملاء من السوريين الذين شكلوا لهم غطاء سياسيا، وأسقطتم بذلك أسيادهم أصحاب المشروع بكل ما فيه من دول كبرى وأخرى تابعة منقادة، من مسؤولين وأصحاب قرار يملون ويأمرون، وإمعات يملى عليها وتنصاع وتنفذ.
ولم تقف النتيجة عند هؤلاء بل تجاوزتها إلى إسقاط كل انتهازي استغل الأزمة من أجل تحقيق مكسب فردي على حساب الآخرين، وكل من نأى بنفسه عن المعركة منتظرا اتضاح موازين القوى، وكذلك من وقف ضد رغبة الشعب بمقاطعته هذا الاستحقاق الوطني الأهم، أو دعا إلى مقاطعته وتأجيله، معلنا، عن علم أو عن جهل، موقفا مطابقا تماما لمواقف أعداء الشعب.
أما انتخابات الخارج الفعلية والرمزية، فبعد أن جهدت الماكينات الإعلامية المعادية على مدى سنوات لإظهار أن كل من خرج من سوريا يقف ضد الوطن والدولة، فقد أتتهم الصفعة من السوريين في الخارج، مغتربين ولاجئين، الذين قالوا كلمتهم وفاجؤوا العالم، وكرسوا الصورة الوطنية للسوريين وعنادهم في التمسك باستقلال قرارهم وصيانة سيادتهم. لم تمنعهم ظروف الاغتراب أو اللجوء من القيام بواجبهم تجاه هذا الاستحقاق الوطني المفصلي. خرجوا إلى الاستحقاق أفواجا. البعض منهم خرج رغم آلامه الجسدية والمعنوية، والبعض الآخر خاطر بلقمة عيشه ومستقبل وجوده رغم حاجته، وواجه تهديدات حاولت منعه من المشاركة. لقد هالهم أن يحمل مواطن سوري جواز سفره ويختار مرشحه ويضع ورقته في الصندوق. لقد ذعرتهم هذه الخطوات البسيطة، لأنهم فهموا أنها أكثر من مجرد انتخابات، هي دفاع عن وحدة الوطن وسيادته وكرامته، وهذا ما جعلهم يمنعون التصويت في دولهم ودول عربية تابعة لهم. هذا هو نفاق الغرب، فكيف يدعون الدفاع عن شعب منعوه من قول كلمته عندما شعروا أنها ستناقض رغباتهم ومصالحهم. مع ذلك نشكرهم لأنهم بجهلهم وعدم وعيهم زادوا من حماسة السوريين ومن شرعية الانتخابات بدل أن ينقصوها كما كانوا يعتقدون.
لقد أعلن السوريون خارج حدود الوطن عبر الانتخابات أنهم سوريون قلبا وروحا، وأثبتوا ما كنا نقوله في البدايات، أن السبب الأساسي لخروج المواطنين خارج البلاد هو إرهاب المسلحين ووحشيتهم. فكيف يمكن لعاقل أن يصدق أن مواطنا اعتدت عليه دولته وخرج هربا من قمعها أن يقف معها بنفس الحماسة والتحدي التي أظهرها المغتربون واللاجئون في الانتخابات. كيف لمواطن كاره لدولته، كما افترض البعض، أن يكون قادرا على إحداث هذا الفرق الشاسع بين أن يكون خنجرا في ظهر وطنه وعبئا عليه كما أرادوه أن يكون، وبين أن يكون كما رأيناه سندا وداعما له. لكل أولئك أوجه التحية والتقدير، وأؤكد بأنني أكثر تفاؤلا بأن الظروف ستعود إلى الوضع الذي يرجع فيه كل أبناء الوطن المخلصين الشرفاء إليه، وأكثر ثقة بأنهم سيكونون من أوائل العائدين حالما تزول الأسباب التي أجبرتهم على الخروج خارج الوطن ليكونوا سنده من الداخل.
لقد أثبتم أيها المواطنون أنكم عبر تاريخكم شعب لا يخاف التحدي بل يهواه، كائنا من كان المتحدي. أفشلتم الخصوم وأثبتم سطحيتهم وجهلهم، وستغرق لسنوات مراكز التحليل والدراسات لديهم بالبحث عن أجوبة شافية لكل ما حصل، ولتحديد أخطائهم وسوء تقديراتهم وقراراتهم في الفترة السابقة، ولن يصلوا إلى جواب لأنهم اعتادوا على الإمعات واعتمدوا على العملاء. لم يعرفوا أو يفهموا أو يتعاملوا مع السادة ومع الوطنيين الشرفاء، لذلك هم أقدر على فهم مصطلحات الخنوع والذل والتبعية، لكنهم غير قادرين على تفسير معاني الشرف والسيادة والحرية، فمن يرد أن يتوقع سلوك وردود أفعال شعب عريق، فعليه أن يمتلك نفس العراقة والعمق التاريخي والحضارة ليسبر مكامن قوته وصلابته، اللتين تظهران بوضوح في الأزمات الوطنية الكبرى وفي المراحل التاريخية المفصلية.
واليوم أنتم الأقدر على تعليم أولئك الخانعين في منطقتنا العربية مفاهيم لم يعرفوها، كالسيادة والإصرار والتحدي والكرامة. أنتم الأقدر على إعطائهم دروسا في الديموقراطية، في كيفية مشاركة الشعوب في القرار والمصير الوطني. ولكم الآن أن تعرفوهم على أشياء لم يسمعوا بها قبلا، كالانتخابات والحرية والحقوق والدولة والحضارة، فهم لم يألفوا إلا القمع والتطرف والخنوع والذل والتبعية وتصدير الإرهاب.
لقد كانت الانتخابات الرئاسية لكثير من السوريين كالرصاصة التي يوجهونها إلى صدور الإرهابيين ومن وراءهم. ملايين الرصاصات أطلقت وأصابت واستقرت في صناديق الإقتراع، وأثبتت أن كل امبراطوريات السياسة والإعلام والنفط لا تساوي شيئا أمام موقف وطني نقي صادق، وأن كلامهم وتصريحاتهم لسنوات لا تصمد ساعات أمام شعب موحد حر كريم، وأعلنت أن كل أولئك مجتمعين مع إرهابهم وإرهابييهم لا قيمة لهم ولا مهابة. هم قادرون على إلحاق الأذى والضرر لكنهم غير قادرين على النجاح. قادرون على تهديدنا لكنهم غير قادرين على إخافتنا.
ولا يفوتني هنا أن أوجه التحية إلى المرشحين الدكتور حسان النوري والسيد ماهر حجار اللذين عبرا عبر خوضهما الانتخابات عن عراقة السوريين وحضارتهم في ممارسة الديموقراطية وحق المواطنة وتطبيق الدستور. وتطبيق الدستور هو الطريق الأهم لحماية الوطن ووحدته واستقراره. أوجه التحية لهما، لأن مجرد خوض الانتخابات في تلك الظروف، بغض النظر عن الفائز، كان انتصارا للشعب وبالتالي للوطن. وأوجه التحية لكل مواطن سوري تحدى القذائف والتهديد والنار وتوجه إلى المركز الانتخابي. لتلك المرأة الشامخة التي وقفت منذ الخامسة صباحا أمام أحد المراكز حاملة صورة ابنها الشهيد، لتصوت باسمها وباسم دماء شهداء الوطن. لذلك الجندي البطل المصاب الذي أبى إلا أن يحضر على كرسيه المتحرك رغم جراحه ويضع ورقته في الصندوق. لتلك المرأة المسنة التي تجاوزت المئة عام ولم تمنعها سنيها المتقدمة من الذهاب والتصويت. لشعب كامل حمل آلامه وآماله وطموحاته وجاء ليسمع العالم صوته. وهنا كان انتصاره. هذا الانتصار الذي لم يكن ليتحقق، لولا دماء الشهداء والجرحى وعائلاتهم الصابرة الصامدة العاضة على الجرح. لولاهم جميعا لما حمينا البلاد والدستور والقانون والمؤسسات وبالتالي سيادة سوريا، ولما كنا هنا نتحدث هذا اليوم. منهم تعلمنا وما زلنا معاني البطولة والتضحية والثبات، ومنهم نستمد القوة والقدرة، وبعظمتهم ووطنيتهم صمد الوطن.
لقد سيجوا بدمائهم الطاهرة حدود البلاد ووحدوا بجراحهم آلام السوريين وآمالهم، وصاغوا ببطولاتهم أعظم معاني القوة والصلابة. وانطلاقا من كل ذلك فإن الدولة لم ولن تألو جهدا برد ولو جزء يسير من جميل هؤلاء، لعائلاتهم وأولادهم.
إن الحرب التي تخاض ضد الشعب السوري حرب قذرة. وبالرغم من كل الظلم والآلام التي أصابت كل بيت في سوريا، وبالرغم من كل الدماء والدمار لم يقرر هذا الشعب الاستسلام أو الخنوع. فنحن شعب تمنحنا قسوة الظروف المزيد من الصلابة، وتدفعنا الضغوطات إلى المزيد من التحدي. ونواجه محاولات الإذلال بالمزيد من الأنفة والكرامة والعزة والثقة بالنفس. وها نحن اليوم ننظر إلى المستقبل وننطلق باتجاهه بمزيد من التصميم والثقة بأن المستقبل ملك للشعب ولا أحد غيره، فهذه البلاد التي مر عليها الغزاة منذ فجر التاريخ قبل آلاف السنين حتى غادرها المستعمر الفرنسي قبل أقل من سبعة عقود ما زالت هي سوريا الحية، القادرة على الصمود والبناء وإعادة استنباط الحياة من رحم المصائب. هنا تتجلى عظمة الشعوب وتاريخها وحضارتها، فالبلاد ليست بمساحتها أو عدد سكانها أو أموالها أو نفطها، البلاد ببعدها الحضاري الثقافي، وبدور شعبها التاريخي وبالسيادة والإرادة لمواجهة تحديات الحاضر ولصناعة المستقبل.
لهذا الدور استهدفت وتستهدف سوريا، فما يجري من عدوان لا يستهدف أشخاصا أو حكومات كما بدا للبعض في البداية، بل يستهدف بنية الوطن ودوره وتفكير أبنائه لتحويلهم في نهاية المطاف إلى قطعان تقاد عن بعد، وإلهائهم بصراعات لا تنتهي، تمتد لأجيال، بدلا من الانشغال بطموحاتهم الوطنية وتحقيق الازدهار، وما يعنيه ذلك من قوة المجتمع والدولة.
لم يكن عدوانا من أجل تخليص الشعب من سلبيات يعاني منها كما سوقوا وكما اعتقد بعض السذج. فهم الأكثر فرحا بسلبيات أي مجتمع عربي ليبقوه متخلفا تابعا منقادا لهم، وما خير دليل على ذلك إلا تحالفاتهم مع أكثر دول المنطقة تخلفا وفسادا وقمعا لشعوبها. لم يستهدفوا الثغرات والسلبيات لدينا. لقد استهدفوا في الحقيقة الحالة الوطنية السيادية. استهدفوا الهوية الوطنية والانتماء العروبي. استهدفوا الإسلام الصحيح والمسيحية الأصيلة. استهدفوا التجانس الفريد في مجتمعنا. استهدفوا كل ما ميز سوريا عبر تاريخها.
إن الغرب الاستعماري لا يزال استعماريا، فالجوهر واحد وإن اختلفت الأساليب، وإن كان الغرب وإمعاته من الحكومات العربية قد فشلوا في ما خططوا له، فهذا لا يعني على الإطلاق توقفهم عن استنزاف سوريا كهدف بديل، يحقق نفس الأهداف الأساسية التي خططوا لها على المدى الأبعد، ومع كل أسف بأياد سورية باعت وطنها، ولم تبع شرفها لأنها لا تمتلك شرفا من الأساس.
كانت الرؤية واضحة تماما لنا منذ الأيام الأولى للعدوان، وتذكرون وأذكر ردود الأفعال غير المصدقة ولا المقتنعة بما قلته في بداية الأزمة. حينها، كثيرون رفضوا كلمة مخطط وعدوان ولم يقتنعوا إلا متأخرين بعد فوات الأوان أن ما يجري في البلاد ليس مطالب محقة لشعب مضطهد، ولا تظاهرات حملت مطالب بالحرية والديموقراطية بل هو مخطط كبير للمنطقة برمتها لن يقف عند حدودنا.
صورة بدأت ملامحها بالتكشف منذ غزو العراق. لم يكن موقفنا حينها موقفا مبنيا على حب المواجهة والعنتريات، وكما تعلمون السياسة السورية لم تتصف في يوم من الأيام بحب العنتريات. لا نحب العنتريات ولا البندريات. العنتريات إما أن نذهب باتجاه مواجهة العالم من دون مبرر وبتهور أو أن نفعل كما يفعل "الشقيق" (رئيس الحكومة التركية رجب طيب) أردوغان، يريد أن يحرر الشعب السوري من الظلم ويحلم بالصلاة في الجامع الأموي، وعندما أتى موضوع غزة رأينا أنه حمل وديع يشعر باتجاه إسرائيل كما يشعر الطفل الرضيع تجاه حضن أمه بالحنان، ولا يجرؤ على أن يتمنى أن يصلي في المسجد الأقصى. كما لاحظتم فقط في الجامع الأموي وهذه هي العنتريات. أما البندريات فهي أن يتحول الإنسان إلى منبطح بشكل مطلق وكلي، أو أن يتحول إلى عميل، ولو لم يكن هناك من يبحث عن عملاء. إذا نحن لا نهوى العنتريات ولا نهوى البندريات. كلاهما خطير ويؤدي بصاحبه ودولته وشعبه إلى الهاوية.
كما أن موقفنا لم يكن بحثا عن موقف مخالف أو انتظارا لتصفيق من أحد. لقد رفضنا غزو العراق لأنه كان بداية لتكريس الانقسام والطائفية. كان لدينا قلق حقيقي من وضع خطير. كنا على قناعة بحتمية حدوثه، وها قد أصبح اليوم واقعا ندفع ثمنه غاليا.
من نفس المنطلق ومنذ بداية الأحداث حذرنا بأن ما يحصل هو مخطط لن يقف عند حدود سوريا بل سيتجاوزها منتشرا عبر انتشار الإرهاب الذي لا يعرف حدودا. حينها قال البعض "الرئيس السوري يهدد العالم". حينها تحدثت عن خط الزلازل الذي يمر في سوريا وقلت إن المساس بهذا الخط سيؤدي لزلازل لن تتوقف ارتداداتها في سوريا ولا عند الجوار بل ستذهب لمناطق بعيدة اعتبروا أن الرئيس السوري يهدد لمجرد التهديد.
أليس ما نراه في العراق اليوم وفي سوريا ولبنان وفي كل الدول التي أصابها داء الربيع المزيف، من دون استثناء، هو الدليل الحسي الملموس على مصداقية ما حذرنا منه مرارا وتكرارا. وقريبا سنرى أن الدول العربية والإقليمية والغربية التي دعمت الإرهاب ستدفع هي الأخرى ثمنا غاليا، وسيتفهم الكثيرون منهم متأخرين وربما بعد فوات الأوان أن المعركة التي يخوضها الشعب السوري دفاعا عن وطنه تتجاوز ساحاتها حدود الوطن إلى الدفاع عن كثير من الشعوب الأخرى التي ستتعرض عاجلا أم آجلا لنفس الإرهاب، نتيجة قصور الرؤية لدى سياسييهم وجهلهم المطبق بمصالح بلدانهم وسطحية تفكيرهم وقلة استيعابهم لمنطقتنا وسبل التعامل مع شعوبها.
وهنا نتساءل، إذا كان الغرب وحلفاؤه لا يتعلمون الدروس المستفادة من التجربة الخاطئة إلا متأخرين، فهل سنكون مثلهم في فهمنا المتأخر للأشياء والأحداث؟ هل كان علينا أن ننتظر ثلاث سنوات وندفع ثمن قصور نظر البعض ونضحي بدماء أبنائنا وأرواحنا واقتصادنا وأمننا وسمعتنا كي نكتشف أن ما كان يجري هو مخطط ضد الوطن، وأن ما حصل لم يكن ربيعا ولا حرية ولا ديموقراطية؟ هل كان علينا أن ندفع كل هذه الأثمان وما زلنا حتى يعرف البعض أنه بقلة وعيه الوطني قد خلق حاضنة للإرهاب وموطئ قدم للعدوان. هل كان علينا الانتظار 12 عاما حتى نفهم أن غزو العراق سيجلب الإرهاب والتقسيم إلى منطقتنا؟ أبعد من ذلك هل كان علينا انتظار 30 عاما حتى يأتي قاطعو الرؤوس وآكلو القلوب والأكباد لكي نكتشف أن استغلال الدين والإرهاب وجهان لعملة واحدة؟ ألم تكن تجربة إخوان الشياطين الإجرامية في الثمانينيات كافية لنتعلم الدروس. في بداية الأزمة تكلمت عن إخوان الشياطين فقام البعض بالتعليق بأنه لم يترك شعرة، ربما نحاورهم. لماذا يقول عنهم شياطين وهم حزب. يجب أن يقول عنهم الرئيس إخوان مسلمين، فنحن نعتذر من هؤلاء، لا يجوز أن نسميهم الإخوان الشياطين يجب أن نسميهم الشياطين، لأن القتل والإرهاب والفساد والفتنة وكل الموبقات هي من وساوس الشيطان.
إن كانت الظروف الراهنة بدروسها، مضافة إليها الدروس السابقة في تاريخنا الحديث غير قادرة على تعليمنا، فلن تكون هناك إمكانية لنتعلم شيئا، ولن نكون قادرين على حماية وطننا حاضرا أو مستقبلاً، ومن لا يحمي وطنه ويدافع عنه ويحافظ عليه لا يستحقه ولا يستحق العيش فيه.
انطلاقا من كل ما سبق، ومن الرؤية الواضحة للمخطط المرسوم ضد سوريا منذ الأيام الأولى للعدوان قررنا السير في مسارين متوازيين، ضرب الإرهاب من دون هوادة والقيام بمصالحات محلية لمن يريد العودة عن الطريق الخاطئ، وكنا منذ البداية على قناعة تامة أن الحلول الناجعة هي حلول سورية بحتة، لا دور لغريب فيها إلا إذا كان داعما وصادقا، وكل من عاد إلى الطريق الصحيح اكتشف بنفسه أن الدولة كالأم الحنون، تغضب من ابنها العاق لكنها تسامحه حين التوبة الصادقة النصوحة، وكثيرون هم من ألقوا السلاح وعادوا وقاتلوا مع الجيش واستشهدوا دفاعا عن الوطن. وأكرر دعوتي لمن غرر بهم أن يلقوا السلاح، لأننا لن نتوقف عن محاربة الإرهاب وضربه أينما كان حتى نعيد الأمان إلى كل بقعة في سوريا.
لا يهمنا من خرج خائنا أو عميلا أو فاسدا، فقد نظفت البلاد نفسها من هؤلاء، ولم يعد لهم مكان ولا مكانة لدى السوريين. وأما من ينتظر انتهاء الحرب من الخارج فهو واهم، فالحل السياسي كما يسمى اصطلاحا يبنى على المصالحات الداخلية التي أثبتت فاعليتها في أكثر من مكان. ونؤكد دائما على الاستمرار بهذا المسار، لما يعنيه ذلك من حقن لدماء السوريين وعودة الأمان والمهجرين وعودة الإعمار وقطع الطريق على أي مخططات خارجية تؤسس على ثغرات داخلية.
والمصالحات الوطنية لا تتعارض ولا تحل محل الحوار الوطني الذي بدأته الدولة مع مختلف القوى السياسية والحزبية والفعاليات الاجتماعية، وستستمر به بانفتاح تجاه كل الأفكار، فهو الأشمل ولا يرتبط بالظروف الراهنة التي تمر بها البلاد، بل هو حوار حول مستقبل الوطن وشكل الدولة في كل المجالات دون استثناء. ويناقش فيه كل ما يرتبط بالأزمة أو لا يرتبط بها، ما سبقها أو ما نتج عنها.
وإن كانت الدولة قد مدت يدها للحوار مع الجميع منذ بداية الأزمة، فاليوم وبعد هذا الاختبار الوطني القاسي والغالي الثمن، فإن هذا الحوار لا يشمل القوى التي أثبتت لا وطنيتها، فتهربت من الحوار في البدايات، راهنت على تغير الموازين، وعندما خسرت الرهان قررت تغيير دفة الاتجاه كي لا يفوتها القطار. وتلك القوى التي ادعت الوطنية والخوف على البلاد في الوقت الذي حاولت بمواقفها إعطاء الغطاء للإرهابيين مقابل وعود أو أموال أتتهم من الخارج. أما القوى العميلة علنا فلا نحاورهم كسوريين بل كممثلين للدول التي يدينون بالولاء لها وينطقون بلسانها.
لقد أثبتت الأزمة حقيقة العيش المشترك بين السوريين، وفندت الطرح الخبيث حول الحرب الأهلية الذي طرح لكي يغطي حقيقة أن ما يحصل هو عدوان من الخارج بأدوات داخلية، وما استخدامهم اليوم لمصطلح الحرب الأهلية لوصف ما يحصل في سوريا إلا محاولة لإعطاء الإرهابيين غطاء شرعيا كطرف في خلاف بين السوريين أنفسهم وليس كأداة خسيسة بيد الخارج، فالحرب الأهلية لها شكلها من خطوط فصل جغرافية واضحة بين الطوائف والأعراق أو غيرها من المجموعات المتناحرة، وانعكاسات خطوط الفصل هذه نراها على شكل انفصال بين المكونات في كل زاوية من المجتمع، وتكون نتيجته انهيارا كاملا للدولة والمجتمع. فهل هذا ما نراه في سوريا؟ لا يمكن ان يكون لدينا حرب اهلية وانقسام حقيقي والجيش موحد والمؤسسات موحدة والشارع موحد، والناس مع بعضها في السوق والمطاعم. هذا عبارة عن وهم. هذا ما أرادوا إقناعنا به. الواقع هو العكس، فلقد تجاوزنا حتى فكرة العيش المشترك التي كانت سائدة قبل الأحداث إلى بداية الإندماج الكامل بين السوريين، وما مشاهد السوريين المتنوعة من كل الأطياف أمام صناديق الاقتراع، وما الإجماع الشعبي والمشاركة العالية في الانتخابات إلا تأكيد لحقيقة باتت جلية، وهي أن ألوان المجتمع وأطيافه الغنية كأعضاء الجسد الواحد، تختلف أشكالها ووظائفها ومهامها، لكنها تتكامل جميعا من أجل خدمة بعضها والجسد الذي تنتمي إليه. لا تعايش بعد اليوم ولا تسامح، بل تكامل وتجانس.
إن انطلاقنا باتجاه المستقبل لا يتم من دون التعامل بشفافية مع جذور ما يحصل في الحاضر، فبمقدار ما أثبت هذا الشعب وطنيته، بمقدار ما كان مؤلما ومخجلا وعارا أن يكون جزء منه ولو قليل هو الجذر الذي استندت إليه هذه الحرب، والذي لولاه لما كان ممكنا دخول الإرهابيين الأجانب أو التدخل الأجنبي السياسي أو الاقتصادي أو العسكري في سوريا وحتى مجرد محاولة المساس بسيادة البلاد.
وإذا كان العامل الخارجي واضحا على لسان المعتدين وأدواتهم فإن العامل الداخلي يبقى هو الأساس لمعالجة الحالة الراهنة والوقاية من مثيلاتها في المستقبل. وإذا كان هناك اليوم شبه إجماع بين السوريين أن السبب الأساسي لانغماس البعض في تدمير الوطن هو الجهل، فإن الأساس الأخطر الذي بنيت عليه الأزمة هو انعدام الأخلاق، فانعدام الأخلاق هو الذي يؤدي إلى تشويه الشرائع واحتقار الشرف، وبيع الأوطان، وبالنتيجة فناء الأمم. وهو العائق الأكبر لتطور المجتمعات. فالتطوير لا يعتمد فقط على الأنظمة والقوانين على أهميتها، لكن الأهم أن التطوير ثقافة مبنية على الأخلاق. أي لا تطوير بلا أخلاق. هما صنوان متلازمان. قد تؤدي الأخلاق الحميدة والرفيعة لحسن تطبيق القوانين، ويمكن للقوانين الجيدة أن تنمي الأخلاق، لكن لا يمكن لها أن تزرع بذورها إن لم تكن قد زرعت مسبقا في الأسرة والمجتمع.
من دون أخلاق لن يكون هناك شعور وطني في وجداننا. وتفقد الخدمة العامة معناها، وعمليا المفروض بحسب الشرائع أن الإنسان موجود لخدمة الآخرين ويستفيد من الخدمة العامة، سواء كان موظفا أو أي شخص يعمل في الحقل العام والجمعيات الخيرية. إذا دون أخلاق لن يكون هناك شعور وطني في وجداننا وتفقد الخدمة العامة معناها، ونتحول إلى أشخاص أنانيين يعمل كل واحد فيهم على خدمة نفسه على حساب الآخرين، وهذا ما رأيناه بشكل واسع في هذه الأزمة، فكثيرون لم يحملوا السلاح لكنهم لعبوا بقوت الناس وتلاعبوا بمستقبلهم وسرقوا وابتزوا ونهبوا، وكانوا كالإرهابيين في خطورتهم. فبغياب الأخلاق نصبح كمن يهدر الوقت للوصول إلى أهداف لا نملك الأدوات الضرورية للوصول إليها بمعنى نريد أن نطور ولا ننجح ونريد أن نكافح الفساد ولا ننجح عندما تغيب الأخلاق.
والحديث عن الأخلاق ليس بديلا عن تطوير الأنظمة والقوانين أو مبررا للتهرب من مسؤولية الدولة في ذلك. فإذا كانت الأخلاق والثقافة هي الأساس، فتطوير إدارة الدولة ومؤسساتها هو البناء، وأي بناء من دون أساس قوي سليم هو بناء آيل للسقوط.
انطلاقا مما سبق يمكننا الحديث عن الفساد على اعتبار أن الموضوعين مترابطان، فهذا الفساد يشكل التحدي الأكبر لأي مجتمع أو دولة. فالفساد المالي والإداري أساسه الفساد الأخلاقي، والاثنان ينتجان الفساد الأخطر وهو الفساد الوطني الذي ينتج أشخاصا يبيعون وطنهم ودماء أبنائه لمن يدفع أكثر.
إن مكافحة الفساد بحاجة للسير على أكثر من محور بشكل متزامن. الضرب بيد من حديد على كل فاسد تثبت إدانته، وهذا صحيح وضروري، لكن عندما تضرب فاسدا قد ينتج المجتمع عشرات غيره أكثر حنكة ودهاء ممن سبقه ليحتال أكثر على القانون فلا يكشف ولا يعاقب. عندها سيكون الزمن في هذه الحالة بمصلحة الفساد والفاسدين.
فإذا كان الحساب يأتي في قمة هرم مكافحة الفساد فهذا لا يعني أنه وحده كاف. وفي وسط هذا الهرم يأتي دور الإصلاح الإداري في مؤسسات الدولة والذي يتم على مراحل منذ سنوات، وهو موضوع واسع وتدريجي، وهو علم قائم بحد ذاته ولا شك بأن الأزمة أخرت من السير بهذا المحور. يضاف إلى ذلك تطوير مناهج التعليم بهدف جعلها عملية تربوية لا تعليمية فقط، والآن وزارة التربية تقوم بالتحضير لمناهج جديدة بشكل متدرج وعلى مدى سنوات، إذ لا يمكن إنجاز هذا العمل الضخم خلال عام واحد. لكن الأهم في ما بدأناه منذ مدة أن يشمل هذا التطوير أيضا المؤسسات الدينية التعليمية، التي تخرج الكوادر التي تحمل بدورها مهمة نشر التعاليم الدينية بما تحمله من أخلاقيات نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى. وأيضا في هذا المجال قطعت وزارة الأوقاف بالتعاون مع العلماء ورجال الدين في سوريا خطوات مهمة جدا، بدءا بالمرجعيات، والآن سيستمرون باتجاه آليات التدريس والتعليم في مؤسساتهم، وطبعا لا ننسى في مثل هذه الحالة الدور المهم للإعلام، فالإعلام ليس الإعلام الذي يتحدث بشكل عام عن الفساد أو ينتقده ويهاجمه فهذا لا يغير من واقع الحال شيئا وإنما الإعلام الاستقصائي الذي يبحث عن الحالات ويثبت بالأدلة والبراهين وجودها وتقدم كحالات متكاملة يمكن أن تذهب إلى المؤسسات المعنية سواء التفتيش أو القضاء لمتابعتها في إطار مكافحة الفساد.
هذا هو دور الدولة وهو الدور الأقصر والأسرع، لكن الدور الأهم والأكثر ديمومة والذي يشكل قاعدة الهرم وأساس مكافحة الفساد هو دور المجتمع والأسرة تحديدا، لننتج مجتمعا غير فاسد علينا جميعا آباء وأمهات أن نربي أبناءنا تربية صالحة. ولنسأل أنفسنا، هل كان يمكن أن نرى ما رأيناه من فساد تجلى على شكل سرقة أو استغلال أو خطف أو خيانة وطن أو غيرها من الموبقات، لو أن آباء وأمهات أولئك المنحرفين ربوا أبناءهم تربية صالحة. بالمقابل ماذا عن الملايين من الشرفاء من العاملين في الدولة وخارجها، أو الشباب الذين قرروا أن يحملوا السلاح ويستشهدوا دفاعا عن الوطن. ماذا عن المواطنين الذين قرروا الاستمرار في واجبهم الوطني رغم التهديد والعائلات التي صمدت وبقيت ملتصقة بأرض وطنها رغم الظروف القاسية؟ كل أولئك لم يقوموا بذلك بناء على أوامر أو أنظمة إدارية أو توجيهات عليا، بل قاموا بها لأنهم تربوا في بيوتهم تربية صالحة أنتجت للمجتمع شرفاء ووطنيين.
هذا الأساس وهذه التربية هو الذي يجعل المواطن يلتزم بالقانون عن قناعة لا عن خوف من العقوبة، والعاملون في الخدمة العامة يخدمون المواطنين برغبة لا بدافع الاستفادة الشخصية، وتجعل صاحب رأس المال يعي أن السارق يسرق شخصا أو بضعة أشخاص بينما بتهربه من الضريبة يسرق 23 مليون شخص. هذا الأساس هو الذي يدفع مواطنا ليكون عونا لأهله ومجتمعه في الأزمات بدلا من استغلالهم، ويمنع مواطنا آخر من التحول إلى مرتزق يستخدم ضد وطنه كلما احتاجه متآمر أو غريب. وهذا الأساس هو الذي يجعل كل الإجراءات الأخرى التي ستقوم بها الدولة ذات فعالية وذات تأثير بالعمق والمساحة.
فلتكن مكافحة الفساد هي أولويتنا في المرحلة المقبلة، في مؤسسات الدولة والمجتمع ككل. دعونا نضعها أولوية، ليس أمام المسؤول فقط بل أمام كل فرد فينا، لينتقل كل واحد فينا من مجرد الحديث عنه إلى العمل الحقيقي لمواجهته، لنضربه من الجذور بدلا من هدر الوقت في تقليم الفروع.
لقد حاولت الدول التي تقف خلف الإرهاب في سوريا تدمير مختلف أسس الحياة فيها، فبالتوازي مع عمليات القتل التي طالت كل شرائح الشعب السوري دونما استثناء أو تمييز، كانت عمليات تدمير البنى التحتية التي بنيت عبر عقود من جهد ومال وعرق ودم أجيال من السوريين تسير بشكل منهجي. ولا شك أن هذا التخريب الشامل الذي أصاب الوطن قد أصاب كل فرد فيه، وخاصة في الجانب المعيشي، وقد أضاف هذا الجانب إلى التحديات والهموم الكثيرة اليوم هاجسا آخر هو الهاجس المتعلق بأرزاق الناس.
كلكم يعرف الهجمات الإرهابية التي تحصل بشكل مستمر على حقول النفط، وهي أحد أهم الموارد المالية لخزينة الدولة وأيضا الهجوم على خطوط الغاز التي تقوم بشكل أساسي بتغذية محطات توليد الكهرباء، والهجوم على محطات توليد الكهرباء من أجل تدميرها وتخريب خطوط الكهرباء التي تصل بين المدن والمحافظات ما أدى بالمحصلة إلى أن تنخفض نسبة تغذية الكهرباء في كل المناطق السورية إلى بضع ساعات في اليوم.
أما السياحة التي كانت مزدهرة في سوريا، وكانت موردا ماليا مهما للدولة وللمواطنين سواء الخارجية أو الداخلية، فنستطيع أن نقول إن نسبتها الآن تساوي الصفر تقريبا، والظروف التي مرت تغير أولويات الدولة، كما انها أظهرت الكثير من الأشخاص الذين لا يمتلكون ضميرا فيتهربون الآن من دفع الفواتير وتسديد الضرائب وغيرها وكل هذه المشاكل تراكمت لتؤدي إلى حالة اقتصادية صعبة يشعر بها كل مواطن سوري من دون استثناء.
وبما أن الضرر الأكبر الذي أصاب الاقتصاد هو في تدمير البنى المادية الحيوية لنمو الاقتصاد واستمراره، فإن تعافيه يجب أن ينطلق من نفس النقطة، وذلك بالتركيز على استعادة هذه البنى المادية من أبنية ومساكن ومصانع وطرق وبنى تحتية وغيرها مما دمر وخرب.
هذا بحد ذاته قطاع واسع جدا يشمل بفوائده كل الناس والشرائح من دون استثناء، وينعكس إيجابا وبقوة على القطاعات الاقتصادية الأخرى التي لن تستعيد عافيتها دون إعادة الإعمار. نعم إن إعادة الإعمار هو عنوان اقتصاد المرحلة المقبلة، وسنركز جميعا جهودنا على هذا الجانب مع العمل بشكل متواز على ترميم كل القطاعات الأخرى التي ستكون مكملة وداعمة لإعادة الإعمار. وأركز هنا على الأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة والمتوسطة التي يمكن لها أن تنمو بشكل سريع وكبير، وأن تخلق فرص عمل بوقت قياسي نسبيا، بالإضافة الى استمرار التركيز على دعم القطاع العام والزراعي كقطاعين استراتيجيين كانا ولا يزالان يشكلان الرافعة الأساسية للاقتصاد السوري ومن أهم عوامل الصمود خلال الأزمة الحالية.
وعندما نقول إن إعادة الإعمار هو اقتصاد المرحلة المقبلة، لا يفهم من كلامنا الانتظار حتى انتهاء الأحداث.. علينا أن نبدأ من اليوم.. وقد بدأت الدولة بالفعل بإصدار التشريعات والقوانين التي تشجع وتسهل البدء في الاستثمار في هذا المجال..
وفعلا انتهت الحكومة مؤخرا من إصدار التشريعات المتعلقة بمنطقة كفرسوسة في مدينة دمشق، وهي أول منطقة سنبدأ فيها إعادة الإعمار، وطبعا ستشمل الفوائد أولا مالكي الأراضي، وهم في مثل هذه الحالة لا يعني أنهم من ميسوري الحال، فمعظمهم من الفقراء لأنهم لم يتمكنوا من استثمار هذه الأراضي بسبب مخالفات وتفاصيل أخرى، وستشمل المقاولين والعمال، وستشمل الدولة نفسها وبشكل خاص الإدارة المحلية التي تملك جزءا من هذا الموضوع. خلال أشهر سيتم توزيع الحصص، والمفترض حتى نهاية هذا العام أو بداية العام المقبل أن نكون قد بدأنا على الأرض بإعادة إعمار هذه المنطقة، وتعميم هذا النموذج على كل المناطق التي أصابها التهديد في المحافظات السورية الأخرى وفق ما تسمح الظروف الأمنية.
فلنبدأ جميعا يدا بيد إعادة إعمار سوريا لنكون جديرين بها، وليكون السباق مع الزمن لصالح البناء لا التخريب، ولنثبت كما فعلنا خلال سنوات ثلاث أن إرادة السوريين أقوى بأضعاف من عمل الإرهابيين والعملاء.
اليوم ننطلق جميعا إلى مرحلة جديدة، أهم ما يميزها هو الإجماع على حماية الوطن وإعادة بنائه أخلاقيا ونفسيا ومعنويا وماديا والإجماع على القضاء على الإرهاب، واستعادة كل من شذ عن الطريق الصحيح إلى الحاضنة الوطنية
وإننا إذ ننظر اليوم إلى المستقبل فإننا بحاجة إلى معالجة الثغرات الوطنية الكبيرة، وهذا يحتاج إلى تضافر جهودنا وتكاتفنا جميعا في المرحلة المقبلة. ذلك يعني علاقة تفاعلية بين الشعب وقيادته وحكومته، فوجود قيادة لا يعني إلغاء الشعب وعدم الأخذ برأيه، ووجود حكومة وقيادة لا يعني بالمقابل الاتكاء عليها والاعتماد الكلي على أفرادها. هذه العلاقة التفاعلية تعني أن نسير سوية باتجاه المستقبل المنشود إذا كنا نريد النجاح.
من هنا انطلقت كلمة "سوا" التي تعني الارتقاء بحس المسؤولية لدى كل فرد فينا للسير نحو المستقبل. وسوا تعني أننا معا سنعيد إعمار سوريا وبناء ما تهدم، وأننا سنستمر بضرب الإرهاب وإجراء المصالحات في كل المناطق كي لا يبقى سوري واحد في مراكز الإيواء أو في مخيمات اللاجئين، وتعني أننا سنكافح الفساد بالقوانين والأخلاق، وسنعزز العمل المؤسساتي عبر تكافؤ الفرص وإلغاء المحسوبيات.
فلا مبرر للتقاعس أو للسلبية في التعامل مع التحديات الوطنية. وكثيرا من السلبيات التي نراها في المجتمع إنما هي نتاج ثقافة عامة ترسخت في عقولنا، ولا بد من استبدالها بثقافة المبادرة والتعاون والغيرية بدلا من السلبية والفردية، وقد يتساءل البعض كيف لنا أن نقوم بذلك إن لم يستجب المسؤولون لمبادراتنا، وهو تساؤل صحيح، لكن لا يمكن تعميم حالة على الكل، ودائما هناك من يسمع وهناك من يهتم، لكن علينا ألا نكل ولا نستسلم وأن نبقى نحاول وبشتى الطرق إلى أن يسمع صوتنا كي نساهم في العمل والبناء والتنمية وتصحيح الأخطاء.
أعلم تمام العلم أن التوقعات كثيرة من هذا الخطاب، وأعرف تمام المعرفة أن النقاط المطروحة في الشارع كثيرة وأكثر من أن يشملها خطاب، ومعظمها طموحات مشروعة وكثير منها منطقي، لكن الحروب تفرض وقائعها على الأرض ولا بد من تحديد الأولويات، فهناك جيش بطل يدافع عن البلاد ويقدم الشهداء، وهناك ضحايا أبرياء يسقطون يوميا بسبب الإرهاب في أماكن مختلفة. هناك مخطوفون ومفقودون خرجوا ولم يعودوا تاركين خلفهم عائلات لا تملك إلا الأمل بعودتهم. عدا عمن هجر من منزله فأصبح من دون مأوى، والأهم من دفع ثمن هذه الحرب من قوت يومه فأصبح لا يستطيع تأمين المستلزمات الأساسية للعيش الكريم. لا يمكن أن تكون هناك أولويات تتقدم على التعامل مع هذه القضايا في المرحلة الراهنة، فعندما نتحدث عن شهداء وعن أبرياء يسقطون فهم ليسوا مجرد أرقام، عندما نتحدث عن شهيد وعن ضحية وعن بريء يقتل او يستشهد فنحن نتحدث عن عائلة فقدت أبا، أما، أخا، اختا، ابنا، ابنة. وعندما نتحدث عن مفقودين لا بد أن تكون أولوياتنا هي أن نبحث عن هؤلاء. نعرف ما هو المصير، إذا كان مخطوفا أن نعرف كيف يمكن أن نستعيده. هناك أشخاص لا تستطيع أن تأكل اليوم فقد كان لدينا فقر قبل الأزمة، ولكن لا يقارن بما هو موجود الآن، ولكي نعالج كل ذلك لا بد من تسخير كل جهودنا كمجتمع وكدولة من أجل دعم قواتنا المسلحة البطلة من أجل إنجاز كل هذه البنود. فإذا لا يمكن ان نقول لأهالي هؤلاء ولأهالي العسكريين ولأهالي المخطوفين وللجائعين اليوم أن هناك من أصابه الملل أو الحماس وسنضع رغباته أولويات أمام أولوياتكم، وبالتالي القفز فوق هذه الوقائع يعني الانفصال عن الواقع.
إن صمودكم هو الذي أعلن رسميا وفاة ما سمي زورا وبهتانا الربيع العربي، وأعاد توجيه البوصلة، فلو كان هذا الربيع حقيقيا لانطلق بداية من دول التخلف العربي، لو كان ثورة شعوب لنيل الحرية والديموقراطية والعدالة، لكان بدأ بأكثر الدول تخلفا وممارسة للقمع والاستبداد، تلك الدول التي كانت وراء كل نكبة أصابت هذه الأمة، وراء كل حرب ضدها، وراء انحرافها الفكري والديني وانحدارها الأخلاقي، تلك الدول التي كان وجودها أهم إنجاز للغرب وأهم سبب لنجاحات إسرائيل وبقائها في منطقتنا، ولا أدل على ذلك من موقفهم الحالي من العدوان الإسرائيلي على غزة، فأين هي الحمية والشهامة التي أظهروها تجاه سوريا أو الشعب السوري كما ادعوا، لماذا لم يدعموا غزة بالمال والسلاح، وأين هم مجاهدوهم، ولماذا لم يرسلوهم للدفاع عن أهلنا في فلسطين؟. لكي نعرف الجواب لا بد ان نعرف أن ما يجري اليوم في غزة ليس حدثا منفصلا أو آنيا، فمنذ احتلال فلسطين وصولا إلى غزو العراق ومحاولات تقسيمه اليوم وتقسيم السودان هو سلسلة متكاملة، مخططها إسرائيل والغرب، وهذا من البديهيات بالنسبة لنا، لكن منفذها كان دائما دول القمع والاستبداد والتخلف.
لنتحدث عن الوقائع ونبتعد عن الكلام النظري. أليس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل هو الذي أقر لبريطانيا أن لا مانع لديه من إعطاء فلسطين لليهود المساكين في العام 1915. ألم تقم هذه الدول بتحريض الغرب وإسرائيل على شن عدوان العام 1967 الذي ندفع ثمنه حتى اليوم من أجل التخلص من ظاهرة جمال عبد الناصر التي هددت عروشهم في ذلك الوقت. ألم تكن هذه الدول هي الدول الداعمة لإيران في عهد الشاه، وعندما قررت الحكومة الإيرانية أن تتحول لتصبح بعد الثورة مع القضية الفلسطينية داعمة للشعب الفلسطيني وحولت سفارة إسرائيل إلى سفارة فلسطين، ألم تقم هذه الدول هي بالانقلاب على إيران لأنها قامت بكل هذه الاشياء؟
ألم تقم هذه الدول بدعم جرائم الإخوان المسلمين وإخوان الشياطين في سوريا في النصف الثاني من السبعينيات حتى الثمانينيات ضد سوريا، ضد الشعب والدولة التي لم تقم بأي عمل معاد لتلك الدول. هذه الدول هي التي قدمت مبادرة للسلام، مبادرة الأمير فهد في العام 1981، للفلسطينيين وهددوهم إذا لم يقبلوها فستكون هناك أنهار من الدم وعندما رفضت الفصائل الفلسطينية تلك المبادرة فعلا كان هناك خلال أقل من عام الغزو الإسرائيلي للبنان، وتم على إثره إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ليس حرصا على لبنان وإنما حرصا على إسرائيل.
هذه الدول نفسها هي التي أتحفتنا وفاجأتنا في العام 2002 بأغرب مبادرة مؤلفة من ثلاث كلمات "التطبيع مقابل السلام"، والتي عدلت لاحقا لكي تصبح المبادرة العربية في قمة بيروت في العام 2002، حيث عدلت بالشكل الأقل سوءا من المبادرة الأساسية ورد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون بأنها لا تساوي حتى ثمن الحبر الذي كتبت به، وشن هجوما على الفلسطينيين سقط خلاله المئات من الشهداء وخاصة في نابلس وجنين.
وعندما اعتدت إسرائيل على لبنان في تموز العام 2006 قالت هذه الدول على لسان من يدعى سعود إن هؤلاء المقاومين طائشون ومتهورون وضغطت على الغرب وإسرائيل من أجل عدم القبول بوقف إطلاق النار قبل القضاء على المقاومة اللبنانية.
ولأن هذه الدول التابعة نجحت في مهامها، كلفت بمهمة تمويل الفوضى تحت عنوان الربيع العربي، وأعطيت قيادة جامعة الدول العربية بعد أن تنازلت الدول العربية الأخرى عن دورها، ليختصر دور الجامعة باستدعاء الناتو وفرض الحصار على الدول والشعوب العربية التي تخرج عن طاعة سيدها.
كل تلك الأحداث وغيرها كانت عبارة عن سلسلة مترابطة من أجل تذويب القضية الفلسطينية، وكل الأموال التي دفعتها تلك الدول منذ نشأتها كانت من أجل هذا الهدف فقط، وها هم اليوم في غزة يقومون بنفس الدور الذي قاموا به في سوريا. هناك عبر الإرهاب الإسرائيلي، وهنا عبر الإرهاب القادم من 83 جنسية. فالأساليب تتعدد لكن هدفهم واحد والسيد أوحد.
وهذا ينقلنا إلى قضية مهمة أخرى، وهي أن البعض يعبر عن لا مبالاته بما يحصل في غزة اعتقادا منه أن لدينا من المشاكل والقضايا الوطنية ما يكفينا، والبعض الآخر يعبر عن شماتته بعدوان إسرائيل على الفلسطينيين كرد فعل على جحود وقلة وفاء البعض منهم لما قدمته لهم سوريا عبر عقود. وفي الحالتين هو تصرف ساذج، لأن ما يجري في سوريا والمنطقة برمتها مرتبط بشكل مباشر بفلسطين وما يحصل في الاراضي الفلسطينية، والنأي بالنفس هنا هو كمن يشاهد النار تلتهم بيت جاره ولا يساعد في إطفائها ظنا منه أنها لن تأتي إليه، وهي تتقدم رويدا رويدا.
لذلك من يعتقد أنه يمكن لنا العيش بأمان ونحن ننأى بأنفسنا عن القضية الفلسطينية فهو واهم، فهي ستبقى القضية المركزية استنادا إلى المبادئ والواقع، وما يفرضه هذا الواقع من ترابط بين ما يحصل في سوريا وما يحصل في فلسطين، وخاصة أننا كلنا نعرف أن سياسات العالم والمنطقة بما يخص هذه المنطقة وخاصة الدول العربية ترتبط بشكل أساسي بما يحصل في فلسطين. هذا يتطلب منا أن نميز تماما بين الشعب الفلسطيني المقاوم الذي علينا الوقوف إلى جانبه وبين بعض ناكري الجميل منه، بين المقاومين الحقيقيين الذين علينا دعمهم والهواة الذين يلبسون قناع المقاومة وفق مصالحهم لتحسين صورتهم أو تثبيت سلطتهم، وإلا سنكون بشكل واع أو غير واع نخدم الأهداف الإسرائيلية التي تسعى إلى تمزيقنا أكثر وإلى إيهامنا أن أزماتنا اليوم محلية منعزلة. عندما نصدق هذا الوهم بأن أزماتنا اليوم محلية منعزلة وغير مرتبطة بما يحصل في فلسطين فلا شك بأننا سنأخذ القرارات الخاطئة، وستكون الحلول قاصرة والنتيجة فشل في معالجة أي مشكلة تمر بها دولنا.
إن شعبا مثلكم قاوم وصمد وبقي في بلد تعرض لعدوان لم نر في شراسته مثيلا هو شعب جدير بالتقدير والاحترام، وجدير بأرضه وتاريخه وحضارته. هو شعب أعاد للثورة معناها الصحيح، وأثبت أن السوريين يعيشون بشرف ويستشهدون بشرف، وأن عزتهم وكرامتهم أغلى عليهم من الحياة نفسها، وأن إيمانهم بالله منصهر مع إيمانهم بالأرض والوطن والشعب.
ومع أننا حققنا إنجازات كبيرة جدا في الفترة الماضية في حربنا على الإرهاب، إلا أننا لم ولن ننسى الرقة الحبيبة التي سنخلصها من الإرهابيين بإذن الله. وأما حلب الصامدة وأهلها الأبطال فلن يهدأ بالنا حتى تعود آمنة مطمئنة، وما العمليات العسكرية اليومية هناك والشهداء الذين ارتقوا من كل سوريا، فداء لحلب، إلا دليل واضح وملموس على أن حلب في قلب كل سوري، فكيف لجسد أن ينسى عينه أو قلبه أو كبده.
فتحية للجيش العربي السوري. تحية للضابط وصف الضابط والجندي الذي لم يدخر شيئا دفاعا عن الوطن ابتداء من نفسه وروحه وليس انتهاء بعائلة تركها وراءه على أمل عودته سالما. تحية لمجموعات الدفاع الشعبية ولكل الشباب والشابات الذين حملوا السلاح دفاعا عن كرامة بلادهم وعزتها وشرفها، وكانوا رديفا ومساعدا ومساندا للجيش في كثير من المناطق. والتحية الأكبر لهذا الشعب الذي كان احتضانه لأبنائه العسكريين حاضنة لإنجازاتهم وأساسا لانتصاراتهم.
ولا ننسى الأوفياء من أبناء المقاومة اللبنانية الأبطال الذين وقفوا جنبا إلى جنب مع أبطال جيشنا وخاضوا المعارك المشرفة سوية على طرفي الحدود، وقدموا الشهداء دفاعا عن محور المقاومة، فتحية لهم ولكل عائلة شهيد منهم بادلتنا الوفاء بالوفاء، واعتبرت واجب الوقوف مع سوريا كواجب الدفاع عن جنوب لبنان.
والشكر أيضا لإيران وروسيا والصين. هذه الدول التي احترمت قرار الشعب السوري وإرادته طوال ثلاث سنين، ودافعت بحق عن مواثيق الأمم المتحدة في احترام سيادة الدول وعدم التدخل بشؤونها الداخلية.
التحديات كبيرة والمهام جسام ونجاحنا في مواجهة الصعاب وثقتنا بأنفسنا لا تعني التراخي والركون، فأعداؤنا غادرون لكن إرادتنا قوية، وبإرادتنا نحول المحنة إلى منحة. وإذا كان الثمن الذي دفعناه كبيرا فلتكن إنجازاتنا في المستقبل معادلة له بل أكبر طالما أننا نمتلك الإرادة.
المرحلة الجديدة بدأت ونحن مستعدون لها، فسوريا تستحق منا كل الجهد والعرق والعمل، ونحن لن نبخل عليها بشيء، كما لم يبخل أبطالنا بدمائهم وأرواحهم، وأنا سأبقى الشخص الذي ينتمي إليكم، يعيش بينكم، يستدل برأيكم ويستنير بوعيكم. ومعكم يدا بيد، ستبقى سوريا شامخة قوية صامدة عصية على الغرباء، وسنبقى نحن السوريين حصنا منيعا لها ولكرامتها.
____________



ابحث عن مقالات مثل التي قرأت

Advertise Here

المقالات الأكثر قراءة

_____________________________________________________
حقوق التأليف والنشر © مراجعات. جميع الحقوق محفوظة.